زينب السعود*
هبه كمال أبو ندى كاتبة وشاعرة وقاصة فلسطينية من قرية بيت جرجا التي هجر الاحتلال سكانها، فعاشت في غزة حتى اغتالت نيران القصف قلمها الغض في العدوان الأخير على القطاع، فتناثرت حروفها وكلماتها التي خطتها شابة طوال 33 عاما عاشتها على هذه الأرض، قبل أن تختطفها يد الغدر الصهيوني كما اختطفت الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني من قبل، وكما تفعل منذ أكثر من شهر في غزة.
حازت روايتها (الأكسجين ليس للموتى) على المركز الثاني بمسابقة الشارقة لعام 2017. انشغلت هبة في هذه الرواية بالبحث عن تلك القيمة الثمينة التي يبحث عنها عموم الشعب المستباحة أرضه وأحلامه وآماله، العدالة التي لم يتوقف فلسطيني عن البحث عنها تارة بين أروقة الأمم المتحدة المتشحة بالعدل وهما لا حقيقة وتارة على أعتاب قمم ومؤتمرات يعرف الجميع مسبقا أنها منزوعة الدسم. حمّلت هبة أبو ندى بطل روايتها آدم كل ما تريد قوله لهذا العالم الذي أبى إلا أن يتآمر عليها حتى النهاية مع قاتلها وقاصفها، وجعلت من آدم باحثا عن الحرية والعدالة عبر رمزية لقاتل ذي شخصية هلامية.
كتبت هبة على صفحتها بعد ساعات من بدء معركة طوفان الأقصى: (أي كاتب مجنون هذا الذي وضع كل الأحداث الصادمة في حلقة واحدة). ولم تكن تعي لحظة الكتابة أن حدثا صادما سيقصيها عن هذه الدنيا ويطفئ قلمها الغض ويسكت صوت أشعارها.
هبه أبو ندى تصنف أنها شاعرة أكثر من كونها كاتبة روايات فلها عدة مجموعات شعرية مطبوعة هي: (أبجدية القيد، العصف المأكول، وشاعر غزة). والحق أن اللغة الشاعرية تغلب على أسلوبها النثري، مما جعل عبارتها مصقولة وناعمة وحادة في آن معا. لم تكن هبة أبو ندى المبدعة الوحيدة التي تغتالها يد الغدر الصهيوني، فهناك الفنانة التشكيلية هبة زقوت والكاتب الشاب يوسف دواس والفنان علي نسمان وغيرهم ممن توقفوا قسرا عن تقديم إبداعاتهم التي كانت مصدر سعادة لمن حولهم.
قبل أيام من استشهادها نعت هبة أبو ندى صديقتها الكاتبة مريم سمير وتركت لنا جملتها الأخيرة التي اختزلت فيها واقع الحياة في غزة في ظل العدوان المتكرر للمحتل: (نحن في غزة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير، وكلنا ننتظر أين سنكون). ولم يطل انتظارها كثيرا إذا قصف الحي الذي تقطنه في غزة في العشرين من أكتوبر فارتقت روحها إلى خالقها، هناك حيث غزة أخرى يعاد تشكيلها في السماء. لقد تحدثت هبة ذات مرة عن خوفها من انكماش قائمة الأصدقاء لديها وتحولها إلى توابيت صغيرة تتناثر هنا وهناك، الأصدقاء الذين عجزت عن الإمساك بهم وهم يتطايرون بعد الصواريخ لم يطل حزنها عليهم، فكانت أسرع باللحاق بهم والانضمام إلى جوقة الفرح الخاصة بعبورهم حاجز الألم الذي لا يحتمل والصعود إلى مواسم الخلود والجنان وصدق الوعود الإلهية.
من حق هبة أبو ندى علينا نحن الذين بقينا تحت حصار الوجع والعجز أن نتحدث عنها ونعيد كلماتها، وننشر ما خطته تلك المبدعة الشابة بنت غزة التي آمنت دائما أنه (كلما اعوج خطٌ على خريطة فلسطين صححه الرصاص.. الممحاة للصغار، المدن تصحح الأخطاء بالرصاص، غزة مثالا...).
لقد أوجعنا رحيل هبة أو ندى كما أوجعنا رحيل كل الشهداء، لكن موت قلم مثل قلم هبة مؤلم للحياة ومؤلم لكل من قرأ ما نثرته أو صاغته شعرا باعثة فيه روحا من روح ثبات أهل غزة. وما زالت غزة رحم يلد المبدعين حتى وإن ارتقى بعضهم شهيدا، غزة أيقونة للبطولة وكما ستبقى غزة عصية على جلاديها سيبقى اسم هبة أبو ندى الشاعرة والكاتبة خالدا مع الشهداء، خالدا مع الأدباء، وستبقى أشعارها دليل على حياتها ذات عدة سنين على هذه الأرض.
*تربوية وكاتبة