أحمد الكواملة
يأخذني عنوان المجموعة القصصية «شقوق في كف خضرة» للقاصة والفنانة التشكيلية والأكاديمية الدكتورة هند أبو الشعر إلى تلمس ما في قصص المجموعة من إشارات تشي بدور المرأة في مواجهة هم وأعباء الحياة وتحمل مشاقها وحدها أو جنبا إلى جنب مع الرجل، أولى قصص المجموعة، والتي حملت المجموعة القصصية اسمها عنوان لها، أتاحت لي بعض ما ذهبت إليه.
نعم، ها هي تحتمل وجع الغربة والبعد عن الأهل والبيت الذي تألف، ها هي تلج البيت العماني، لا سيدة له، بل خادمة، لا تعلم ما سيواجهها وماذا ستكون حالها بعد عام من الخدمة والغربة، يرن في سمعها وهي تلج البيت العماني صوت والدها «اعملي عندهم هذا العام فقط...
أخاف أن أفقد الأرض
أنت الكبرى والأفواه كثيرة»
هي لم ترد على ولدها بكلمة، لم تعبر عن مشاعرها تجاهه بالثرثرة، غير أنها كانت تبكي من الداخل على حاله، على حالة المذلة التي أوصلت والدها إلى التضحية بها، هي تدرك دون أن تعلن أن والدها ما كان ليتركها فريسة الأعباء والغربة لولا وحش الفاقة الذي يتربص به وبأرضه وأسرته، لم يعد شيء يربطها ببيتها وأسرتها غير ذكريات الباب القصبي، وذلك الكيس البلاستيكي الذي تتمسك به وكأنه الحبل السري الذي يربطها بالحياة يكاد أن يتحول الكيس إلى شخص من شخوص القصة، يكاد يكون أحد محاور القصة الهامة لتعدد الإشارة إليه.
ضغطت أناملها أطراف الكيس البلاستيكي بتوتر
قبل كل شيء اتركي هذا الكيس
امي أعطتني حذائها
إخوتي تفقدوا الكيس مرات واختلفوا في من سيحمله
اتركيه هنا عند هذا الباب
ترددت قبل أن تخفف الضغط عن يد الكيس
خضرة مجرد طفلة، صحيح أنها أكبر أخوتها، لكنها ليست أكثر من طفلة. تصور ما يحدث لطفلة تنزع من دفئ بيتها الفقير الجاف، إلى بيت بارد غريب،
تصور ارتدادات الحدث عليها نفسا وجسدا وروحا.
ها هي صبحية الخادمة الأقدم والأضخم، تدخلها الحمام وكأنها دجاجة يراد نتفها من ريشها، وبغضب واشمئزاز تمطرها بسيل من الأوامر والماء والصابون غسلتها مرات ومرات، كل شيء جميل ورائحته جميلة، المياه شفافة دافئة، غير أن خضرة لا تجد هذا شيء يقارب روعة استحمامها في القناة مع أمها، وعبر منولوج داخلي تقول:
هذا الماء سيل... سيل هابط من الأعلى... فظيع لا ينتهي
ورغم هذا السيل من المياه، غير أن إحساسها بالجفاف، يتردد بعناد في خلايا حلقها... تنظر من الشباك حيث أضواء عمان الكثيرة... وتذكر يد صبحية الضخمة التي تهزها بعنف وإصرار، تغيب المباني وأضواء المدينة، وخضرة لم تعد ترى عبر نافذة ذاكرتها، غير أكوام اللبن المشقق والخضار الندية عند الفجر. صياغات رشيقة دالة:
تنتقل القاصة هند أبو الشعر برشاقة، وبما يعمق دلالة النص من سرد الراوي إلى استعادة الماضي زمانا ومكانا في مقارنات مجحفة ماديا ونفسيا، عبر اللاوعي بين الباب الخشبي المصقول العماني، وباب القصب الغوراني الحميم، الذي يحمل ذكريات الزمان والمكان الأليف، وهي تكتب عليه إحساسها ماديا ونفسيا،
بتنقل رشيق بين سرد الراوي وحديث النفس وتنقل سلس زمكاني
سرد الراوي: بروده محببة تنتشر حولها
حديث الذات: أمي أعطتني حذائها وأبي قال..
وبكلمات مقتضبة دالة وكافية، يدور الحوار بين شخوص القصة، الرجل، المرأة البيضاء المكتنزة، الخادمة الضخمة صبحية
اسمك؟
خضرة
اذهبي إلى الحمام لتغتسلي يا خضرة
أين؟
هند الفنانة التشكيلية.. هند القاصة:
بكل تأكيد وبقليل من التأمل نستطيع أن تلمس أثر حضور الثقافة التشكيلية البصرية عبر نصوص المجموعة، ولو أردنا أن نحول قصة شقوق في كف خضراء فقط، أعني القصة الأولى من المجموعة إلى لوحة فنية، لأمكننا أن نقيم معرضا تشكيليا كاملا. هذا إضافة إلى أثر ثقافة القاصة البصرية التي أتاحت لها القدرة على صياغات سردية اشد عمقا وتأثيرا.
العنوان يمثل لوحه مند غمة في النص، وقد أجاد الفنان عبد الرؤوف شمعون تمثيل المجموعة القصصية، عبر لوحة جميلة المعبرة، والصياغات السردية التي تمثل بذاتها لوحة فنية، وكأنه رسم على قول:
سقط دمعة من عينها... تفشى على سطح الجلد الغامق
وكتبت اسمها بخط كبير... باب بيتنا الآن عتيق جاف... عتيق
غار صوت أبي وغمر الجفاف حلقه... صار مثل مجرى قناة حول الناس مائها
رأيت عيونا كثيرة من حولها... محمرة من الغضب والحزن
تطلعت في أكوام اللبن الجاف، ورأت الشقوق في أطرافه كثيرة.
وهكذا تمضي قصة شقوق في كف خضرة، تبوح بما تخفي من صور بصرية جاهزة، لان تكون معرضا تشكيليا خالصا، وهذا ينسحب على أكثر قصص المجموعة.
حالة مؤرقة من الصراع النفسي الداخلي والخارجي:
تصوير سيكولوجي بليغ ومؤثر ومباشر، لما يعتري النفس الإنسانية من جدل وتجاذب بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين القيمة والغاية التي تبرر الوسيلة، هكذا تقدم القاصة هند أبو الشعر كل هذه الحالات والإشراقات وأكثر عبر قصة تكاد تكون قصيرة جدا، وبعنوان من كلمة واحدة « خدر» لخصت الحالة الفردية للشاب الموعود بالمنصب، والحالة الجمعية المتمثلة في التطلع غير العادل، لوالد الشاب والشخص المسؤول على الطرف الأخر من الهاتف، بكل ما تحمل من تناقضات، كاد الشاب أن يدفع ثمنها ويستمر بدفعه ما بقي له من عمر، غير أن بعض الغموض في المواقف أتاح له فسحة للنجاة من ثقل الضمير، لو استجاب لمقولة الغاية تبرر الوسيلة.
عناوين... وعناوين:
لاحظت أن عناوين القصص جاءت بين الكلمة الواحدة، وعديد الكلمات، أكثر من نصف قصص المجموعة، كانت عديدة الكلمات، مثل:
شقوق في كف خضرة
السقوط بهدوء على شاطئ ازرق
المطر يغسل كل شيء
أوراق لا بد وان تنتهي
استعراض كومة علاقات مبتورة في غرف ضيقة
رائحة الصنوبر تأتي من بعيد
التحديق في جدار الرطب
الصبار والحر وأشياء أخرى
لقد أمكن للقاصة أن تعبر عن بعض قصصها، بكلمة واحدة، كانت تلك الكلمة كافية لفتح مغاليق القصة والدلالة على أفاقها، وإطلالة على قصة «استعراض لكومة علاقات مبتورة في غرفة ضيقة» هذا العنوان الغريب في طوله والذي يسم قصة من ثلاث صفحات أو اقل، مشحونة بإحالات نفسية واسترجاعية عبر لعبه تبادل كراسي، بين الزمان والمكان، وبين علاقات إنسانية هامشية مشوهة.
إحالات كثيرة، وأسئلة أكثر، حالة من إلقاء الملامة والتوبيخ الخفي، محاولة لدفع البطل إلى الاستيقاظ من الوهم الأهمية، عبارات سريعة لاهثة، تشير إلى حالة نفسية مرتبكة ومربكة، تعيش وهم دون أمل، إلى حالة اليقين التي تعني الحياة الحقيقية، غير أن العنوان كان بحاجة إلى تلك السرعة والرشاقة التي باحت بها مقاطع القصة.
أخيرا أقول: إن الفنانة التشكيلية والقاصة والأكاديمية دكتورة هند أبو الشعر، استطاعت أن تقنعنا بكل جدارة عبر كل ما قدمت، أنها تمثل حالة استثنائية، باختصار... هي مؤسسة في فرد..