مجدي دعيبس
استوقفتني قصة «بياض» لعُلا العمري والصادرة ضمن كتاب جماعي بعنوان «شهود من أهلها - أحاديث الجائحة» عن دار «الآن ناشرون وموزعون» لهذا العام، وقد اشتمل الكتاب على تسعة وخمسين نصًا لكاتبات وكتّاب عرب أجادوا بثّ هواجسهم ومخاوفهم بعد اندلاع الجائحة في المنطقة.
استطرفتُ أسلوب الطرح وطريقة المعالجة. أعدتُ قراءتها فيما كنت أحاول تحديد المواطن التي أحسنتْ فيها الكاتبة وأجبرتني على تقليب الصفحات في الاتجاه المعاكس. ابتدأتْ القص بالعبارة الافتتاحية التالية: «قبل انتحاري بثلاثة أيام، أصبحت أحسّ بأن حركتي بطيئة..»، وهي عبارة ملتبسة ستؤدي على الأغلب إلى انطباع أو استنتاج خاطئ، ولو لم تأتِ القصة في كتاب يتحدث عن الجائحة وتخوّف البشرية من تراجع عدد سكّان الكوكب إلى ثلاثة أو أربعة مليارات لتأخّر كشف هوية السّارد، الذي يتضح لاحقًا أنّه ليس سوى كوفيد-19 الفيروس العتيد الذي شغل الشعوب والحكومات وأجبرهم على الوقوف كتفًا إلى كتف لمواجهة هذا الخطر الداهم.
على الرغم من قصر القصة التي لم تتجاوز بتقديري ثمانمئة كلمة إلا أن الكاتبة استطاعت رسم ملامح الشخصيات بوضوح فظهرت دوافعها واتجاهاتها ثم اشتغلت على الأحداث التي تصاعدت للوصول إلى العقدة، وجاء الحل مقنعًا ومتماشيًّا مع معطيات العرض. ظهرتْ في سياق السرد شخصيتان رئيستان وهما الفيروس والطبيب. صوّرت الكاتبة الأمر على أن هناك قوة خفيّة متمثّلة بالفيروس تحاول تدمير العالم وإنهاء الوجود البشري لتظهر مملكة الفيروسات التي ستحكم العالم الجديد «هذا أكبر ما أتوق إليه، أريد أن أسيطر على العالم، أريد أن أعيده إلى الصفر، أريد أن أخلق كوكبًا جديدًا غير ملطخ بخطايا البشر». أعطتْ الفيروس خطام السرد ومنحته الفرصة ليعبّر عن جوّانيّته وهواجسه، وبدتْ الأحداث وكأنها حلقة من دراما رسوم متحركة مما درج ظهوره على شاشة السينما في الفترة الأخيرة؛ قوى شريرة بأشكال هلامية ولزجة وقبيحة تقابلها قوى الخير بأشكال تقبلها العين وتألفها الروح.
تظهر شخصية الطبيب من خلال سرد الفيروس: «كان هذا المشفى بالنسبة لي مجرد مكان لتخزين كل من يتثاءب بفم مفتوح بلا خجل، ولكل من يعطس بأنف محشو بلا أدب، ذلك الطبيب كان على رأس عصابته التي افتضحت سوءتي، كان هو من حاك ضدي أنماطًا معقدة من المركبات المقاومة للقذارة».
في خضم هذا الصراع تموت حبيبة الطبيب بسبب الفيروس فيصيبه الحزن والاكتئاب، لكنه يخرج من هذه الحالة بسرعة ويتغلب على أحزانه ويقرر الوقوف في وجه القوى الشريرة التي تريد تغيير ملامح الكوكب. «خرج إلى الطرقات، وهتف بالناس، سنوقفه، سنهزمه، وأخذ يوزع عليهم عبوات شفّافة تحتوي على أشياء ملوّنة؛ أمل، عمر، أرض، قوة، تحدّ..». تتغير موازين القوى وينتصر البياض أو قوى الخير على الفيروس الشرير وتعود الأرض إلى سابق عهدها من الحياة والسّلام والهدوء، أما الفيروس فيضمحلّ وينتهي «ودون أن أسفك دمعة واحدة على نفسي، قفزتُ عن سطح هذا الكوكب وانتحرتُ».
الكاتبة في نقلنا إلى أجواء القصة بأقل الكلمات من خلال سرد محكم وشخصيات مفهومة وحبكة بسيطة ومقنعة، فأجبرتنا على التخيّل انطلاقًا من المعطيات التي نثرتها بذكاء بين السطور لبناء الجسور وردم الفجوات التي تظهر كلما تطاول خيالنا للوصول إلى مناطق أبعد وأضيق. يُذكر أن القاصة علا العمري حاصلة على درجة البكالوريوس في الفيزياء ونالت جائزة القاصين الشباب من جامعة فيلادلفيا في الأردن، ولها مجموعة قصصية بعنوان «دفء» صدرت عن دار الآن ناشرون وموزعون.

المصدر: صحيفة الدستور الاردنية