الساعة الثالثة مساءً :

مجدداً إنها جارتنا " منى " تنبهّنا لتفقد خزانات الماء خوفاً من اللصوص..

جارتنا منى ، امرأة في الأربعين من عمرها لكنها تبدو كعجوز على حافّة القبر ، نحيلة جداً لدرجة بروز جميع عظام جسمها ، التجاعيد تملأ وجهها و كفّيها ، ترتدي نظارة سميكة بإطار أسود ، نصف أسنانها متساقط و النصف الآخر متآكل ، تمتلك زوج أحذية أو اثنين قادرين على النطق من شدة الاهتراء ، ترتدي قميصاً زيتياً في الصيف و تبدله بآخر بنيّ بالٍ ، شتاءً ترتدي الاثنين معاً ، تستطيع أيضًا ملاحظة انتفاخ البنطال عند ركبتيها ، و مع ذلك فهي لا تكترث لشيء .
عاشت وحيدةً لعشرين عامًا ، غامضة ، مهجورة ، منعزلة ، عزلةً لا تشبه عزلة الأنبياء أو الأدباء ، بل عزلةً للتخلّي عن أي شخص أو أي فكرة . محصّنةٌ عن العالم الخارجي ؛ لا تفتح الباب إلا إن أعطتك موعدًا ، عدا عن ذلك لا تفتح و إن كانت تراقبك من عين الباب
تعمل خادمةً في بيت سيّدة تسكن بعيداً عن حَيِّنا ، مع ذلك ترفض ركوب أي وسيلة مواصلات ، و تذهب سيراً على الأقدام . تزورها للتنظيف مرّة أسبوعيّاً و تدعوها ب"صديقتي تهاني" ، و عندما تقرر زيارتنا لا تملك سيرة سوى تهاني ، و بيت تهاني ، و أبناء تهاني ، بالإضافة إلى بيتها الذي ورثته عن أمّها ، تصفه و كأنه أجمل بيتٍ على الإطلاق ، و الأوسع و الأحدث ، و تفضّله على بيت تهاني ، في كلّ الأحوال هو جميع ما تملك .
تصعد الدرج لبيتها في الطابق الرابع على أقدامها و تمتنع عن استخدام المصعد ، يمكنك رؤيتها تقف بين الطابق و الآخر تحدّق في النافذة أو في الحائط ، ثم تكمل مسيرها .
ليس بإمكانها الوثوق في أحد ، يعود ذلك لقصّة روتها مرّة حين زارتنا ، لخّصت فيها كل الإجابات عن أسئلتي نحو شخصها الغريب .
طريقتها في الحديث : تركّز نظرها على الأرض ، تهمهم كثيراً و تأخذ فاصلاً تأمليّاً بين الجملة و الأخرى كأنها تفقد الاتصال مع نفسها ، ثمّ ترمقك بنظرة حادّة من فوق نظارتها و كأنك الفاعل ، تشعر بوضوح أنها ليست مرتاحة .
تفشي سرّها الكبير و تقول : تزوجت من تاجر سيء الخلق ، و أنجبت منه طفلاً كان كلّ حياتي ، لم أكُن و زوجي على وفاق و كان يخونني بعلمي و يبرر ذلك بتقصيري في حقه ، حتى جاء الصباح الذي صحوتُ فيه على منزلٍ خالٍ من صوت آدميّ ، السرير في محله ،الأريكة في محلّها ، التلفاز في محلّه ، المرآة المعلقة تعكس صورة وجهها المذعور ,و لا أثر سوى لرياحٍ تصفق النافذة بعنف . رحل الرجل آخذًا معه ملابسه ، و روح حياتها -ابنها- الذي كان يجعل لحياتها معنى ، الدّافع الوحيد لاستيقاظها مبكراً و إعداد الفطور ، الشخص الذي من أجله كانت تصلّح هندامها و تمشّط شعرها ..رحل دون أن يترك أي أثرٍ يذكر . 

لم يبدُ على وجهها التأثر ، و لكنها كانت تخفي أعوامًا من الألم و الذوبان تحت هذا الغطاء ، لا شكّ في ذلك فهي تحتاج للوصل ، تحتاج لأحد يشعرها بالحبّ و الحنان ، بالتأكيد فهي ليست عمود إنارة أو صنبور مياه !
بعد أن صمتت برهة قالت مدافعةً عن ابنها : لكنه زارني ! ..نعم زارني قبل ثلاث سنوات تحديدًا و كان قد أصبح رجلاً وسيماً متزوجاً ، عاش في بلد آخر و نشأ هناك و الآن هو يعمل ، ربما لذلك لم يجد وقتًا لي ..كان يبني حياته ، لستُ منزعجة من ذلك أعلم جيدًا أنه يهتم بي ، وعدني بأن يعود لرؤيتي مرة أخرى حين يتسنى له ذلك ..سيعود متأكدة سيعود .
تبادر لذهني حينها بأن الحبّ : هو أن تملك مبرّرات جاهزة لجميع أخطائه ، و تراها منطقية ، بينما يراها الآخرون جنون .
خيّم الصمتُ على الجلسة ، أمّي تخبّئ دمعتها، أختي تتشاغل بترتيب الوسائد ، و جارتنا منى ما تزال مطأطأة رأسها ؛ مركّزة نظرها على تلك الزاوية، تهمس بينها و بينها : سيعود ، سيعود.
ربما هذا ما جعلها حيّة لليوم ، الأمل الزائف الذي تسلّي نفسها به ، و هذا ما يدفع الكثيرين منّا للعيش .. الانتظار ، أن يكسر شيء ما هذا الركود ، أن يعيد شيء ما المعنى لحياتنا ، أن يخلّصنا أحدٌ ما من وحش الوحدة ، أن يحدث أيّ شيء و لو كان محض خيال .