محبة طاغية لك يا "نجاح"، ابنة الرقة، وزهرة ياسمين الشام، وصديقتي..
هل رافقتَ يوماً عبد الكريم العبيدي، في رحلةٍ ما؟
هل قرأتَ هذا الرّجل جيداً؟
لعله من حسن حظي كنت صديقة فيسبوكية له، ثم قارئة ، ثم دارسة لبعض قصائده، حتى توطدت العلاقة بالصمت وكثيراً من التواري غير المتعمّد ..
ثمّ التقيته ، بعد مهرجان المربد في بغداد مع صديقات لي، فانبرى الطفلُ الذي في داخله ليحتفي بنا، أيما احتفاء . أخرج بياضَ قلبه، كفّه ، ولسانه، وضعنا في دائرة ألقه وكرمه، فتمنيت تلك اللحظة ألا تنفتح الدائرة وألاّ أغادر، لأن دائرة عبد الكريم حين تكون فيها، تغدو مدناً، تنسجُ فيها ثوبَ وقتكَ من ألوانٍ وعطورٍ وأقمارٍ، وشجرٍ..
الخروجُ من مدن عبد الكريم العبيدي، لا يكون خروجاً عابراً ، وإنما خروجاً لتصعد زقورة الأمنيات، وترفع يديك إلى السّماء وتناجي ربّاً :" اللهم أعدني إلى رحاب رجلٍ يهدل الحمامُ على كتفيه..
لماذا الحمام وليس شيئاً آخر..
لأنّ في الحمام رمز للسلام والأمان، وعبد الكريم هذا الرّجل الضخم لديه فيوض منهما، ناهيك عن صمته الجميل، الصمت الذي أحبُّ، يتكلم حين الضرورة ويتركك لتتأمل، وتتواصل مع أفكارك وأنت تمضي معه، على الرّغم من أنني أعرفه ، طاعناً في الحزن مثلي، ومطعوناً بسكين الحياة والتجارب. وتستطيع كلّ مسامة فيه أن تغني وجعاً.
بدأت الرحلة من شارع الرشيد، وانتهت عند شواطئ دجلة ، ثم العودة إلى حي النضال حيث فندق شناشيل.
أخذنا إلى نصب معروف الرصافي ، ثم إلى شارع المتنبي ، هذا الشارع يقع وسط بغداد ، ويعد ملتقى ثقافياً وسوقاً دائماً لمعرض الكتاب، خاصة يوم الجمعة إذ يكتظ بالمثقفين والأدباء ، والنشاطات الفكرية الزاخرة.
في المتنبي، تناثرت الكتب على الطرفين، والهدايا الصغيرة واللوحات المشغولة بأنامل مبدعين عراقيين. اقتنيت بعض النحاسيات ، وتذكارات صغيرة معبّرة عن شخصيات في أساطير بغدادية، بينما أهدى عبد الكريم كلّ واحدة منا تمثالاً لشهرزاد وهي تقصُّ حكاياتها على شهريار، الذي يصغي باسترخاء إليها ، هذا العمل رأيته في شارع أبي النواس مع الشاعر الصديق أمين جياد، وهو من إبداع النحات " محمد غني حكمت" نحته في منتصف السبعينيات من القرن الفائت.
كانت ذكرى رائعة ولافتة من عبد الكريم العبيدي، الأديب الطيب ، مالك جرار العسل في قلبه ، وحقول الحنطة في يديه ،الإنسان الذي ترى بأم عينك أسراب الحمام وهي يهدل فوق كتفيه.
رحتُ أطلبُ منه أن يصوّرني هنا وهناك،خاصة عند نصب المتنبي الباهر، فما ملّ لحظة ، وإنما كانت الابتسامة التي تشبه شمساً وقت الضحى ترتسمُ على ثغره.. بينما يبدو وجهه مشوقاً لزرع الفرح في قلوبنا ، نحن النساء الصّغيرات ، القادمات من غبار حربٍ وبركِ دم، التائقات للشمس والدفء، وسهول من الألوان.
نحملُ ما في صدورنا من قصائد ، لنلقيها في مهرجان المربد ، علنا نحظى بمعراجٍ سامقٍ للرّوح المتشظية؛ علنا نقول: نحن بنات سوريات ، قدمنا لنزرع أقحواناً في حدائق الشعر ، ولنعلن أنّ الحياة للحياة ، ونحن أبناء الحياة.
عبد الكريم الطفل الجميل، لم يشعرنا قط أنّ رجله التي تعيق سيره، تؤلمه كلما مشى خطوات، ونحن كنا طامعات في الخطى .أخذنا إلى المتحف الشعبي، فقطفنا من ضوء ماضي الحياة العراقية الكثير، بما فيها من عفوية وطيبة وعطاء، مازال عبد الكريم يحتفظ بهذه السمات.
ولأنّ نافورة قلبه النبيل لا تتوقف ، أتحفنا صعوداً بالمركب لتتراذذ أمواه دجلة على وجوهنا ، ونغني مع صوت عراقي يشدو من مكبر :" فدوة يا عزيز العين فدوة"
وأنا أمضي في موكب الرذاذ والهواء البارد، وجدتني أستحيل نورساً ، يطير فوق ضجيج الماء اللازوردي ، يعاقر ألوان الفرح الآني، النابعة من كفيّ عبد الكريم، المبتسم بأدبٍ لافتٍ، نورساً جاب موانئ الحزن، فهرب إلى عوالم انفتحت على يدي مبدع يتقن الصمت إلا من جملتين راح يرددهما كلما أراد رشنا بالفرح.
الجملتان قلتهما حين كنا في الفندق ننتظر هاتفاً من القنصل السوري ، لموافاتنا بموعد السفر ، وحين تم تأجيله ساعات إضافية ، قلت باللهجة الرقاوية:" ترانا جاعدين" فضحك عبد الكريم ، وراح يردد الجملة ،كلما نظرنا بالساعة لنعرف الوقت إن كان قد داهمنا.
أما الجملة الثانية فقلتها بعد أن روى قصة عن رجل ، شبيهة بقصة تروى في الرقة، والتي تختتم بعبارة :" خلهم يكرطون" أي يأكلون ما لم يحضره الرجل أثناء زيارته إلى بيت أخته ، صاحبة العيال، وكان قد نوى أن يشتري خياراً وجزراً، بيد أنّ أخته قالت له لترفع الحرج عنه: لا عليك ، نريد سلامتك" فقال :" خلهم يكرطون..
راح عبد الكريم كلما عزمنا على أكلة ما ، نتمنع، فيضحك ويقول: خلهم يكرطون ..
بيد أنه كان فاعلاً لا محال ، كريماً حتى بعواطفه وابتساماته ، حيث يشرق وعدٌ أخضر ، يتدلى من عينيه على شبابيك الخدود المجهدة من الدّموع.
دلفنا في شارع طويل طويل ، قيل إنّ معظم الرّؤساء مروا من هنا ، ووقفوا عند بائع عصير " أبي زبالة" وشربوا عصير الزبيب، وهاهي صورهم تشي بذلك.
ضحكنا كأقمار من الغبطة ، وأسْعِد بنا البائع الذي فاخر بالعديد من الصور المعلقة على الجدران ،راح يتأمل وجوهنا وضحكاتنا المتخابثة بطيبة متناهية.
عند باب الفندق أوصلنا، ومضى مثقلاً بالتعب، بينما رأيت على ظهره نجمتين خضراوين، تحاولان إضحاك النبي حتى سرير وصوله.