رائحة الثومrn قصة قصيرةrn الطيب بنعبيدrnrn لم تستطع فاطمة تحمل روائح الثوم المنبعثة من أفواه الزائرين الذين يتحلقون حولها للإطمئنان على صحتها بالمستشفى، فغطت أنفها بفوطة وهي تتساءل عن لعنة هذه الرائحة الكريهة التي تنبعث من الأفواه دون اعتبار لإذاية الآخر، وهي الرائحة التي ترتبط بأحداث غرزت مخالبها في يوميات فاطمة السوداء. وهي تشم مرغمة هذه الرائحة ، انتقلت ذاكرتها العليلة للحظة الطفولة البريئة ، كانت متجهة نحو الساقية ولازال حمل السنوات الست أخف عليها من الجرار وهي لاتلامس من الحياة إلا عبير السعادة المطلقة رغم الفاقة والوحدة. وفي التفاتة تفحصية للمحيط إسترعتها حركات خفيفة تحت سنديانة مخضرة مورقة في موقع منعزل . دفعها فضول الطفولة لتدنو أكثر فإذا بها تعاين جلسة حميمية بين شاب وشابة ، وازداد فضول المعرفة عندها إلحاحا فبدأت تسرق النظر دون أن تنتبه لانغماس رجلها في روث البهائم الطري. إختفى الشاب فجأة وبدأت الفتاة تصلح حالها وفاطمة تشرئب بعنيقها لاستكمال الفرجة فإدا بصفعة حارة تهز قفاها وإذا بالشاب يشدها من تلابيب كسوتها ويتوعدها إن هي كشفت ما رأت للآخرين . فأطلقت ساقيها للريح صوب العين لاستكمال المهمة اليومية. بدإت تطرح على نفسها عشرات الأسئلة في ذهابها وإيابها ، دون أن تأبه لثقل الجرار المملوءة بالماء.وبمجرد وصولها للبيت وتحت إلحاح التساؤلات أفرغت الماء في الخابية الضخمة ثم انطلقت في اتجاه كالسهم صوب أمها التي إمتزجت حمرة الحرارة على وجهها مع سواد الحطب ، وبدون مقدمات بدأت تطرح على أمها المنهكة بالأعمال المنزلية كل الأسئلة التي شغلت بالها كالفرق بين الرجل والمرأة ، ومعنى الزواج ، وكيفية الإنجاب و الولادة ، وسبب إختلاء الشباب بالشابات في القرية ، وتساءلت نهاية عن إختلاف بعض أعضائها عن أعضاء إبن جارتها متسائلة إن كان بها عيب خلقي أم العيب بابن الجارة...لم تجبها الأم عن أي سؤال وإنما غرزت عينيها الجاحظتين فيها ثم خرجت وهي تضرب صدرها بعنف غريب. لم تفهم البنت الذي حدث، فإذا بالأم تعود متبوعة بالأب الّذي لم يدخل المطبخ طوال حياته إلا اللحظة ،وهي السابقة التي أدهشت الطفلة ، توجه الأب نحو ابنته ، وبدون مقدمات شدها من شعرها ثم انهال عليها صفعا وضربا وركلا والمسكينة تتحمل دلك صامتة دون أن تعرف له سببا. ولما خارت قواه بهذا التعنيف الهمجي ، شد رأسها الصغير بين يديه الخشنتين الضخمتين وألصق وجهه بوجهها ثم صاح بأعلى صوته ورائحة الثوم الكريهة تهب من فمه كأنها روائح جيفة الضباع قائلا :- " والله إن عدت للسؤال عن تلك الأشياء القبيحة لأذبحنك وأسلخنك و أقطعنك ثم ألقي لحمك طعاما للذئاب أيتها الفاجرة ."rn-rnحركها عمها الشاب المعلم الذي حضر خصيصا لمساندتها في أزمتها الصحية ، فانتبهت لوجوده قربها بالمستشفى فابتسمت له ، هو الوحيد الذي وقف بجانبها طوال حياتها ورد عنها كثيرا من ظلم الأسرة.لقد استطاع أن يقنع أباها رحمه الله بتسجيلها بالنادي الصغير بالقرية كي تتعلم القراءة والطبخ والخياطة ، كان هذا النادي إصطبلا قديما رسمت فيه الأزبال على جدرانه لوحات خالدة لم يفطن لها المتطفلون على الفن العصامي ، وقد تبرع بهذا الإصطبل مرشح جماعي تمهيدا للإنتخابات.وعين بها عانسا فظة لتبين للأميين الفرق بين الألف والعصا. لم يجد الأب بدا من تلبية رغبة أخيه عن مضض.فبعث بها للنادي، وبذلك أخرجها من عزلتها ، وقد أظهرت نبوغا ملحوظا سرعان ما انقطع بمأساة نفسية لم يندمل جرحها رغم زمنها البعيد ، بكت وهي ترى نفسها في ربيعها الثالث عشروقد بدأت تبدو عليها علامات البلوغ المبكر. شاءت الصدفة الغريبة أن يخصص يوم الثلاثاء لكتابة حرف الثاء ولم تجد المدرسة مثالا مناسبا غير كلمة ( ثوم ) .أسقطت فاطمة قطعة الفحم التي كانت تكتب بها على خشبة وتكومت على نفسها وهي تشد على بطبها والم فضيع يمزق أحشاءها ، فوضعت رأسها على الطاولة لإخفاء معالم الألم على الحاضرين ، ولكن صيحة المعلمة أفزعتها وهي تعيرها بتكاسلها واستهتارها ، ثم أمرتها بالقيام للكتابة على السبورة . فتحاملت على نفسها مكرهة وجرت رجليها متجلدة خوفا من المعلمة وقد غلب علها دوار شديد.وإذا بالقاعة تعمها الفوضى والهرج والمرج ، فتعالت همسات الحاضرين وتعابير سخطهم وتدمرهم من الفتاة وهم يسبونها ويعيرونها وقد تجمدت في مكانها وهي تتساءل عما فعلته لتستحق كل ذلك وهي التي كانت قبل لحظات تتوقع أن يشفقوا عليها ويصاحبوها للمستشفى.وبينما هي كذلك إذ شدتها المعلمة بقوة ودفعتها خارج القسم/الإصطبل وهي تشتمها وتقول لها:- "إذهبي عند أمك واغتسلي أيتها البلهاء الفاجرة ..أغربي عن وجهي . "rnلم تعد رجلاها النحيلتان قهدرتين على حملها ، ووصلت مستوى خطيرا من الانهيارالنفسي.وفي عتمة اليأس ، أبصرت (للا هنو السوسية ) كبيرة نساء القرية وهي تدق ثمرة الأركان ، فاستبشرت خيرا وعزمت الإحتماء بها طامعة في كرم جوارها. لكن (للا هنو) ما كادت تعاين حالة البنت حتى نهرتها بشراسة بل شجت رأسها بالحجر الذي كانت تدق به الأركان. فانطلقت المسكينة لا تلوي على شيء وقد اختلطت دموعها مع قطرات الدم الساخن التي بدأت تنزف من جرح رأسها ، وصلت أخيرا بيتها منهكة وبدأت تنادي أمها بصوت متهدج ممزوج بالشهيق وهو ما أخرج الأم بسرعة مذهلة . وقفت لحظة مشدوهة لمنظر ابنتها الملطخة بالدماء،وبدأت البنت تسأل أمها عن مصابها وعن موقف الناس العدائي منها وقالت لأمها بصوت حزين مؤثر:- "بالله عليك يا أمي وضحي لي ما أصابني؟ هل سأموت ؟ هل أنا أموت ؟ ويلي ..هل أنا أموت؟ " وبعد دقائق تبينت الأم حقيقة ابنتها ، ثم شدتها من يدها وهي تولول كالعادة وتلطم وجهها. وتردد :- " لقد فضحتني أيتها الكلبة لقد فضحتني ...أين سأختبىء من الناس ؟" ثم أدخلتها مخزن الحبوب و الأطعمة وحذرتها إن هي خرجت منه الى حين إعداد الحمام لها. كما منعتها من الإقتراب مما في المخزن ، ثم أغلقت عليها الباب . تحسست بطنها ثم جرح رأسها وانزوت في ركن داخل هذا السجن المليء بأكوام الثوم اليابس.واستسلمت لقدرها وهي لاتعرف فك لغز يومها. منذ ذلك اليوم وعلى امتداد عقدين كاملين ظلت تصاب بحالة رعب وصرع في كل دورة شهرية وتغلق على نفسها الباب وتعتزل العالم وتهمل نظافة نفسها حتى أصيبت بتعفن تطور الى سرطان رحم عسر علاجه فاضطر الأطباء الى استئصال جزء من الرحم بشكل نهائي .وكانت لحظتها قد بدأت تستفيق من أثر تخدير العملية الجراحية.وتردد على سمعها صوت امرأة لم تتبين صاحبته وهي تقول:- " المسكينة ، لقد فقدت عذريتها بسبب العملية وهي بكر ، لقد حكم عليها بالبوار ..ما أتعس حظها رغم جمالها الواضح." لقد عزمت على التحدي وقد ساهم في رجاحة عقلها عمها الذي ما فتىء ينير لها سبل الحياة بالتفاؤل.ويردد عليها قصيدة ابتسم لأبي ماضي مسحت وجهها بالفوطة وقالت في نفسها " الحمد لله على قضائه وقدره اللهم إني رضيت بقسمتي ، لن أبكي بعد اليوم ، سأتحدى نفسيتي.وسأبحث عن زهيرات السعادة في حقول الشوك وسأجدها حتما. " ثم مالت نحو رفيقتها بالغرفة وفتحت موضوع خالتها التي زراتها . فتعالت ضحكاتهن بالمستشفى في جنح الظلام وتناوبت المريضتان في التعليق على هذه الخالة التي أحضرت أثناء الزيارة سطل لبن وسلة بيض نيء وديكا بلديا أحمر انفلت من يدها ولم يفلح أي شخص من الزوار في الإمساك به . لأول مرة لم يفزعها صراخ الممرضة الفظة الذي كان يخيفها سابقا ، واستمرت في الضحك مع رفيقتها وكل منهما تشد على موضع الجرحrn الطيب بنعبيد