rحكيلك - د. تيسير المشارقة - كيف نبدأ ؟ يشغلنا هذا السؤال عندما نباشر في الكتابة الأدبية أو الفنية أو الصحفية، وطالما البدايات والمطالع تقلق الكتّاب، فهذا الأمر يعني أنها مهمة لقيادة القارئ نحو الفكرة المنشودة والتفاصيل المتعلقة بها. وتظل إشكالية التوصيل الإعلامي بالسرعة الممكنة هاجسنا. كيف نصل إلى عقل وقلب القارئ بأسرع وقت ؟! تقلقنا التواصلية مع الآخر، أي القارئ. لا كاتب على الإطلاق يعرف بالضبط متى يكون مقنعاً ومؤثراً وقادراً على توصيل رسالته. ولكن الكل يحاول لفت انتباه القارئ الحائر في التلقّي وإشكالياته. مطالع أو بدايات الروايات هي التي تحكم على انطلاق عملية التلقي والقراءة، أو توقفها. فالبدايات المتعثّرة للروايات تربك القراءة و ربما تعطّلها. المسألة أن الكتابة فن وأشكال ألوان. البناء اللغوي وذكاء طرح الفكرة في البداية أو النهاية هو مربط الفرس ومركز الجذب الأساس. المسألة أن الكتاب مفكّرون والكتابة تطرح الأفكار، ولكن من أين لنا بالفكرة المجنّحة أو الأصيلة. ربما يأتي الكاتب بموضوع هام، ولكن الفكرة(فكرة الموضوع) قد تكون غير مشوّقة. هناك فرق بين الموضوع وفكرته. ويمكن أن نتناول موضوعات كثيرة في كتاباتنا، ولكن بلا أفكار تُذكر. إذاً، الكاتب الجيد هو المفكّر الجيد، الذي يأتي لنا كل مرة بأفكار جديدة وأصيلة ومشوّقة. من هم المفكرون في العالم العربي؟ إنهم بكل تأكيد الكتاب وليسوا كلهم، بل الذين يأتون لنا بالأفكار الجديدة والأصيلة في كل مرة يكتبون فيها، والسؤال الذي يترتب على هذه المسألة هو: ألدينا مفكرون لا يمارسون الكتابة؟ نعتقد بأن “القلم” و”الكتابة” أدوات تعبير عن الأفكار ولا أفكار بلا كتابة وأقلام. ربما يعتقد البعض أن كونفوشيوس، مفكّر الصين العظيم، لم يكن كاتباً، وإنما كان حوله أشخاصٌ يكتبون أفكاره.أشك في هذه الفرضية لأنه ينبغي على المثقف المفكّر أن يتحقق دائماً من صدق تدوين أفكاره من قِبَل الآخرين، وبالتالي عليه إتقان القراءة والكتابة في آن. هل يوجد مثقفون، في الكون كله، لا يقرأون ولا يكتبون.لا صحة لهذا الافتراض، فالكتابة حِرفة المثقفين أصحاب الرؤى والأفكار. بلا كتابة وتدوين بالأحرف والكلمات تبقى الأفكار هاربة، بعيدة عن متناول اليد والعقل. وإذا أراد الكاتب (أوالمفكّر) الكتابة عن مسألة ما ، يقلقه أمر كيف يبدأ في التعبير عن فكرته، وأين يضع فكرته أو افتراضه الأساسي؟ هل البداية/ المطْـلع هو المكان المناسب لطرح الأفكار أم في الوسط أو النهاية. على سبيل المثال الفكرة في الكتابة الصحفية التحليلة تساوي الافتراض الأساسي للكاتب،وهي القضية التي تشغل الناس أساس التحليل.ومن هنا ينبغي أن تتواجد الفكرة في بدايات المقالات التحليلة (كالعمود، والافتتاحية، والزاوية ) بينما في “المحبوكة”(من حبكة)ـ قصة السمة أو القصة الصحفية ـ التي تدخل في نطاق الكتابة الإنشائية التحليلية [فن المقال]، فلا تحتمل أن تكون فكرتها في البداية ، لأن الشكل القصصي (المَحْبوكي) يدفع باتجاه أن تكون الفكرة في الخاتمة أو قبل الخاتمة بقليل. وكي لا نفسد الدهشة عند القارئ، ينبغي أن تكون الذروة قبل الهبوط والنزول والاختتام في القصص. فالحبكة لا تظهر في بدايات القصص الأدبية والصحفية، وإنما قبل نهاياتها. وينبغي أن نلفت انتباه المهتمين بفن المقال إلى ممارسة قد لا تحسب لصالح فن الزاوية. فهناك من لا يجترح من عقله وقلبه فكرة ناضجة في زاويته الصحفية، وتبقى زاويته(المنزوية يميناً أو يساراً في الأعلى أو الأسفل) إنشاءاً لغوياً مبعثراً مشوّهاً بلا فكرة واضحة في مكان محدد. الزاوية كما “النكتة الطريفة”، عندما يطرحها الزاوياتي، ينبغي أن تقول لنا فكرتها أولاً، أو قبل القفلة بقليل، أو في القفلة اللذيذة والمفرقعة التي توصل القارئ إلى مجد مفاجئْ (ذروة ضاحكة أو مفكّرة ولمحة ذكية أو مُـلْحة طريفة في الكتابة القصصة، وبخاصة القصة القصيرة كفن أدبي، يتناول الكاتب في نصه أفراداً وشخصيات قليلة قد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. ينتقل الكاتب من طرح (الفكرة) إلى طرح تعقيدات العلاقات بين الأفراد في ذروة تصعيدية تكون في النهاية(نسميها: العقدة/ الحبكة). ولكن البداية في القصة القصيرة ينبغي أن تكون “مُحكمة البناء” لكي تُسهّل عملية “العبور” أو الدخول إلى عالم القصة القصيرة، أو إلى تلك الغرفة المُدهشة والمثيرة التي اسمها القصة. يحتاج الفيلم الروائي السينمائي كذلك إلى “الفكرة اللاظمة” والمثيرة والغريبة، فالفكرة أساسية في السينما الروائية والتسجيلية. وهناك ذروة كبرى في نهاية الفيلم الروائي، قبل القفلة بقليل، ولكن هناك ذروات صغيرة متوالية تَحدث، على مدار سير الرواية في الفيلم، وصولاً إلى الذروة العظمى وكذلك الأمر في الرواية، فإن الخيط الدرامي أو النسيج الروائي المنظوم بشكل محكم البناء، يتطلب من الكاتب ترتيب أولوياته الذُرْواتية بشكل متسلسل ومنطقي كي لا يُفسد عملية السرد. هناك دارسون وباحثون يدرسون مطالع الروايات، ويطلعون بدراسات وأبحاث حول البدايات القوية والفاشلة. وبها يؤشرون إلى تواصلية أي منها وقابليتها للجذب، ويقولون علناً عن بدايات فاشلة جعلت من نصوص مهمة تنزل إلى ملف النسيان وحفرة عدم المقروئية. ليس كل ما يكتب يُقرأ. وكل ما يُقرأ ليس بالضرورة أن يمتلك بداية أو مطلعاً موفقاً. ولكن المطلع الجيد والبداية “مُحْكمة البناء “هي الحكم والفيصل على الاستمرار في القراءة والاهتمام بالمحتوى أو عدمه. ربما تقتل البدايات الضعيفة النصوص المهمة ذات الأفكار العظيمة، والبداية هي نقطة الاستقطاب والجذب الأولى وباب الدخول إلى العالم الروائي. فإذا كان الباب مهلهلاً أو ضيقاً أو مُقـفلاً أو مربكاً فإن عملية العبور أو الدخول ستكون غير مُوفـّقة. لا أحد يستطيع الحكم المبدئي على الكتابة الأدبية والثقافية بالنجاح دون الالتزام بقواعد السرد والروْي ودون تسلسل المحاور و ظهور الفكرة. والعمل الفني الواحد يحتمل فكرة واحدة، ولا يجوز حشو العديد من الأفكار في نص أدبي واحد أو مقال واحد. ومن لا يُبلور فكرته وينسجها بشكل صحيح تضيع منه بوصلة الوصول للقارئ. كما أن طرح مجموعة من الأفكار في العمل الفني الواحد يدفع القارئ إلى وعورة ومتاهة التقاطها أو جمعها؛ كمن يغطس في البحر محاولاً الإمساك بعدّة سمكات في آن. الانطباع الأول مُهمٌ في العلاقات ما بين الأشخاص، وكذلك في مسألة التلقي، وكذلك في العلاقة ما بين النص والقارئ. لذلك، فإن لذة النص يمكن الاحساس بها من أول رشفة، أو منذ الخطوة الأولى، من البداية.