|
|
||
|
قراءة نقدية فلسفية في قصيدة "عودي كما أنتِ"للشاعر التونسي طاهر مشي إعداد د. موسى الشيخاني
قراءة نقدية فلسفية في قصيدة "عودي كما أنتِ" للشاعر التونسي طاهر مشي من إعداد د. موسى الشيخاني
أولًا: السيرة الذاتية للشاعر طاهر مشي الشاعر طاهر مشي هو أحد الأصوات الشعرية التونسية المعاصرة التي ارتقت بالكلمة إلى فضاء التأمل والوجود، حيث يُعرف بكتاباته الوجدانية التي تنبع من صميم الذات وتنبض بمشاعر إنسانية عميقة. يشغل الشاعر منصب رئيس مجلس إدارة الوجدان الثقافية، وهي مؤسسة ثقافية أدبية تسهم في دعم الإبداع العربي وتكريس قيم التنوير والفكر الجمالي.
يميل طاهر مشي في شعره إلى مزج الذاتي بالكوني، والمشاعر بالتجليات الرمزية، موظفًا لغة ناعمة متماسكة، تنبع من صدق التجربة وعمق الرؤية. وقد أصبح اسمه مرتبطًا بالقصيدة الحديثة الحرة التي تستنطق الوجدان بلغةٍ تنبض بالمعنى والدلالة والصدق.
ثانيًا: قراءة نقدية فلسفية للقصيدة "عودي كما أنتِ" بين نداءات القلب، ومأزق الوجود 1. الغياب كشرخ في الكينونة: يبدأ الشاعر بنداء "عودي كما أنتِ"، وكأن الكائن ذاته قد انقسم، وتشوّه الوجود في غياب المحبوبة. هنا لا يتعامل الشاعر مع الغياب على أنه حدث مؤقت، بل كتحول في بنية الحياة ذاتها: «دَنَت السماء حتى خِلتُها ستفصح، وازدادَت زرقةُ البحر... ورست جميع السفن... إلا أنتِ». المحبوبة لم تكن فقط وجهًا أو حضورًا، بل كانت محورًا تشكّل حوله الوجود. فغيابها يُحدث زلزلة في الأزمنة، ويترك الأشياء بلا جوهر. 2. تماهٍ بين الذاكرة والحنين: تتسع مساحة "الأنتِ" في القصيدة حتى تبتلع الزمان والمكان. فالمحبوبة تشبه المطر، والمرافئ، والطمأنينة، لكنها في الوقت نفسه غائبة، وهذه المفارقة تعيدنا إلى الوعي التراجيدي بالزمن: «في غيابكِ، ضاق قلبي من اتساع الوقت... وتذَكَّر الصباح أنكِ لستِ هنا، ففَقدَ شُعاعَه». الزمن هنا ليس مجرد سياق، بل تجربة معيشة، يغدو فيها الوقت سجنًا، والانتظار عبثًا هادئًا مشبعًا بالوجع. 3. اللغة ككائن مجروح: الشاعر لا يعبّر فحسب، بل ينزف على الورق: «أوراقي مبعثرة، وتئن أنفاسي من فرط الشتات». الكتابة نفسها تتحول إلى صرخة داخلية، وتصبح القصيدة محاولة للملمة الشظايا، كما يقول: «دعيني ألملم ما تبقّى منِّي». وهنا يحضر البعد الوجودي: الذات تبحث عن اكتمالها من خلال الآخر، وهو ما نجد صداه في فلسفة "مارتن بوبر". 4. الميتافيزيقا العاطفية: القصيدة ليست فقط تجربة وجدانية، بل هي تساؤل ميتافيزيقي: - هل يعود الغائب كما كان؟ - هل الصورة المحفوظة في الذاكرة أقوى من الزمن؟ - وهل الغياب ينسينا الأصل، أم يعيده أشد حضورًا؟ من هنا تأتي العبارة المحورية: «عودي كما أنتِ»... لا كجسد، بل ككينونة، كحقيقة، كذاكرة لا يُطفئها الغياب.
ثالثًا: البُنية الجمالية في القصيدة تتميز القصيدة ببنية تكرارية قائمة على استدعاء دائم للحضور. تتكرر عبارة "عودي كما أنتِ" في مستهلّ ومتن وخاتمة النص، مانحة القصيدة طابعًا إنشاديًّا كأنها طقسٌ لاستحضار الغائبة. أما الصور الشعرية فهي حية نابضة: البحر، السفن، المطر، الخيول، الضوء... كلها رموز لعالم يُبنى على الحضور، ويهتز بالغياب.
كما تتجلّى لغة القصيدة في سلاستها العميقة، حيث لا تعقيد مفتعل ولا زخرف لغوي، بل رهافة تلامس المعنى وتغوص في المعاناة.
رابعًا: تأمل أخير في "عودي كما أنتِ"، يصوغ طاهر مشي قصيدةً لا تسكنها المحبوبة وحدها، بل تسكنها الذات الباحثة، الكينونة المتشظية، والحياة التي تنتظر أن تُضاء من جديد.
إنها قصيدة عن العودة إلى الأصل، إلى الألفة، إلى ما يشبه الطمأنينة الأولى، التي فقدناها في متاهة الغياب.
إعداد: الدكتور موسى الشيخاني الرئيس التنفيذي لمؤسسة عرار العربية للإعلام رئيس مجلس إدارة مركز عرار للدراسات الأدبية والنقدية والنقد المقارن
قصيدة الشاعر:
عودي كما أنتِ ااااااااااااااااا ااااااااااا عودي كما أنتِ تبعثرت جميع الحسابات. دَنَت السماء حتى خِلتُها ستفصح، وازدادَت زرقةُ البحر كما لو أنه يغرق في حنينٍ أزلي، ورست جميع السفن على المرافئ، إلا أنتِ، أيتها النفس التائهة... ما زلتُ هائمةً على وجه الورق، أوراقي مبعثرةٌ، وتئنُّ أنفاسي من فرط الشّتات.
عودي كما أنتِ، بملامحكِ التي ألفتها، بصوتكِ الذي يشبه طمأنينة المطر. عودي، ودعيني ألملم ما تبقّى منِّي، فقد أَعْيانِي الترحال، وباتت حقائبي تفيضُ بالخَيبة، وبقايا وجوهٍ مرّت عليَّ دون أن تُشبهكِ.
في غيابكِ، ضاقَ قلبي من اتساع الوقت، وصارت وطأة الأيام كوقع الخيول. كَم خَذَلَني الصباحُ حين أشرَقَ دونَ ظلّكِ، تَذَكَّرَ أنّكِ لستِ هنا، ففَقدَ شُعاعَه.
لا أَقوَى على ترتيب دَواتي، ولا على جَزِّ المسافاتِ المُضَمَّخةِ بالوَجَع. الأماكن كلها تشبهكِ... إلا أنكِ لستِ فيها.
عودي، كما أنتِ... قبل أن يألفني الغياب، يلتهم ذاكرتي شبح النسيان. ااااااااااااااااا ااااااااااا طاهر مشي الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الإثنين 14-07-2025 08:21 مساء الزوار: 196 التعليقات: 0
|
|