اربد : 

في الأمسية الختامية لمهرجان إربد الشعري الثالث، الذي نظمته مديرية ثقافة إربد على مدى الأيام الثلاثة، كانت أمسية الختام أكثر دهشة وإيقاعا لما قدمه الشعراء: كوثر الزعبي، علي شينيات، أحمد الخطيب، خالد أبو حمدية، ود. مهند ساري، وأدار مفردات الأمسية الشاعر مهدي نصير بحضور مندوب مدير ثقافة اربد السيد حسن العبابنة وحشد كبير من المثقفين والمهتمين.
استهلت القراءة الأولى الشاعرة الزعبي، فقرأت غير قصيدة استحضرت فيها الشاعر مصطفى وهبي بقصيدة التحية له، وكما قرأت قصيدة بعنوان:»أين نسيت روحك» بلغة معبرة عن خصوصية البوح للذات الشاعرة، شاعرة نسجت قصائدها بفضة الروح لتضيء بحروفها أرواحنا، كما أن قصيدتها النثرية تنم عن تجربة مهمة في هذا الشكل الشعري الذي له الحضور الكبير في الساحة الشعرية الأردنية والعربية.
من قصيدتها الغزلية التي تبث فيها شؤونها وشجونها «أين نسيت روحك؟» نقتطف منها:»هل تبددت غيمة؟/ هل احتسيت حنينا في الشرفة/ هل عدت من وادى الجلنار/بسبحة العقيق/صرة رمان بمناقير الطير/جراحك تين/ مرهمك غيمة/ هل جربت موت النقيق في جدول الرغبة/ وخمّرت عجينة البزوغ في حضن الأفق/ وخبزت  قبلتك على شفاه النار». 
أما الشاعر علي شنينات قرأ غير قصيدة من مثل:»غيمة فوق رأسي، أيتها الكثيفة في رؤاي» عاين طقوس المرأة وحرارة البوح نحوها بلغة موحية ومعبرة عن الذات الشاعرة، واصفا تلك المرأة وندبتها السمراء الوجه العريض، شاعر يمتلك لغة خصبة ومخيّالا يأخذه إلى عوالم أخرى تجاه الحياة، ولا تخلو نصوصه من الوقوف على غربة الروح وأدق التفاصيل، غير قلبه كما يصفه شارعا يقوده إلى حديقة الأسف.
يقول في قصيدة له «وَحْدَهَا المِرْآةُ/تَعْرِفُ السِّرَّ فِي وَجْهِي/تَمَامَاً كَمَا تَعْرِفُهُ القَصيْدَة/أيُّهَا السَّارِقُونَ!/أعِيْدُوا النُّدْبَةَ السَّمْرَاءَ إلَى وَجْهِي العَريْض/وَأنْفِيَ المَعْقُوفَ/ أعيْدُوا لِي شَحْمَةَ أذْنِ القَصيْدَة!!أنْتُمْ أيُّهَا الغُرَبَاءُ/تَجْلِسُونَ فِي كَفّي/وَتُدَلّونَ أرْجُلَكُمْ /عَابِثِينَ فِي وَجَعِي/أيُّهَا الغُرَبَاء!كَفّي مِكْنَسَةُ الرَّصِيْفِ/وَقَلْبِي شَارِعٌ/يُفْضِي إلَى حَديْقَةِ الأسَفْ!/وحِيْنَ تَعَثَّرْتُ/وَأنَا أصْعَدُ دَرَجَ النَّصِّ طَرِيَّاً/وَتَسَاقَطَ نِصْفِي بَيْنَ رَكَاكَةِ الْمَعْنَى وَلَعْثَمَةِ السُّؤالِ».
فيما قرأ الشاعر أحمد الخطيب صاحب ديوان «مرايا الضرير» قصيدتين :»فقراء نحن، والشاعر»، كعادته يمضي بنا الخطيب بسحر اللغة وفضاءاتها ليبحر في خصوصية الشاعر راسما لوحة منودرامية للمشهد المتخيل في ثناياه، قدرة فائقة ومحلقة في سماوات الرؤى والصور الشعرية التي تضع المتلقي في دهشة التصوير وتسحبه إلى عوالم جديدة في الكشف الشعري، فقصيدته «فقراء نحن» مشهدية شعرية يعايشها الإنسان بتوجعاتها والفقر في الأوطان و ما آلت إليه الحياة على منصة هذا الكوكب المصاب بجفاف الأرواح، إلا أن القصيدة ورغم الوجع والحزن والحق المنهوب، يضعنا الشاعر في مشهدية التفاؤل والأمل عبر تنصاته الدينية التي أغنت القصيدة ومنحتها بعدا دلاليا ومعرفيا.
في قصيدته «فقراء نحن» نقتطف منها هذا المقطع حيث يقول:»فقراءُ لكنَّا نَعي أمراضَنا/إذْ نَتَّقي الأحزابَ منذُ تَرَجَّلَ الأُمَنَاءُ/عَنْ أعراسِهمْ عُرْسَاً فَعُرْسَا/فقراءُ مَحْظوظونَ بالشُّهداءِ/يَنْدَسُّونُ في أحلامِنا بحراً وَمَرْسى/فقراءُ لكنّا نُوَزِّعُ في أقاصي الأرضِ/إيقاعاً وَدَرْسَا».
الشاعر خالد أبو حمدية صاحب ديوان «دالية آثمة» قرأ بلغته العالية مجموعة من القصائد هي:»نخلة، مريمية، سواحل اللهفة» وقصائد أخرى تفيض بدهشة القول الشعري وقوافيه المنتقاة بعناية فائقة وكما أن الشاعر أبو حمدية يتقن الإمساك بزمام اللغة ويبحر من خلال ثقافته وتمكنه مرامي اللغة، فنجد أسلوبية في اللغة تضعنا في مفاهيم جديدة لمسار قصيدته وتقنيتها العالية في اشتغاله الكثيف والاختزال لإبراز أهمية النص الشعري وإيصاله، فهو شاعر يحفر عميقا في اللغة إلى جانب التنويع في مسألة الوزن القافية.
من قصيدته المنسوجة والمبحرة في التراث الديني «مريمية»التي يقول فيها:»تـَتـَمَرْيمينَ/فهل/حملتِ مسيحا/وتركت/ليلَ التائقين/كسيحا؟!/ أم نخلة الصبر/افتداك جنينُها/فـَهززتِهِ/في مهده ليبوحا/يا هذه الأحلامَ/صرت صليبنا/والقهرَ
والنكباتِ/والتجريحا/كم طُفـْْتِ/كالنَسَمات/إنْ خَجِلَتْ وفَتْ/وأجيئ ُ/- أختصر المسافة -/ريحا»
واختتم القراءات الشعرية الشاعر مهند ساري فقرأ ثلاث قصائد هي:»لم أمتلك إلا الذي يكفي، أقول للطائرات، وهو قيس الأخير..التي أهداها لصديقه الشاعر المغترب تركي عبد الغني»، مهند ساري حالة شعرية متفردة بالنسبة لمجايلها إبداعا وإلقاء، عندما تستمع إليه يأخذك على حين شهقة إلى عوالمه وتجليات هذه الروح المكتنزة بالإنزياحات وكذلك ثراء اللغة عبر تناصاتها الدينية وانصهارها مع لغته الوجدانية الإنسانية المتشظية، فقصيدته محملة بالفكرة واقتناص الرؤية العميقة، فيوضات من الدلالات والمعاني، التي يبث فيها خراب الكون وهذا ما تجلّى كثيرا في قصيدته «أقول للطائرات» في حواراتها المتشظية، الطائرات المدمرة لمعنى الإنسانية والحياة.
من قصيدته التي رسم لنا فيها هذا التغول للطائرات التي هندسها الآدميون لقتل معنى الجمال، يقول فيها:» يا طائراتُ/ وفي بلادِكِ ثَمَّ أَشْجارٌ وأَولادٌ/وتحْتَكِ هَهُنا وهناكَ أَحياءٌ/يُرَبُّونَ الحَمامَ كأَنّهُ وحْيٌ تَنزَّلَ في ثيابِ الرِّيشِ فوق بيوتِهمْ/ أَوْ يزرعون القمْحَ تَحْتَ/سحابةٍ مجروحةٍ في السّهلِ/لكنْ هُمْ هناكَ كما هنا: يَخْشَوْنَ من نارٍ تَشِبُّ بسَهْلِهمْ سَهْوًا/ومِنْ حَدَقِ الجرادْ/والنّاسُ يُحْزنُهمْ كثيراً أَنْ يموتوا/ههُنا وهناكَ مِنْ لَسْعِ البعوضةِ أَو قنابلِكِ الذّكيّةِ/فاتْرُكينا كيْ نعيشَ حياتَنا/بوجودِها الهشِّ الجميلِ/النّاسُ تُحْزِنُهُم هناكَ الحربُ إنْ وَقَعَتْ/ويُوْجِعُنا هُنا.. أَلَمُ الجِيادْ».