لطالما أثارت عبارة نظرية الأدب Theory of Literature أو النظرية الأدبية Literary Theory شجونا كثيرة لدى القراء والدارسين العرب، فأكثر الذين يهتمون بالأدب ونقده يجمعون على أن التراث النقدي العربي، عموما، يخلو من نظرية تقوم على تُـتَّبَع الأعمال الأدبية وتصنيفها أجناسًا Genres وما يندرج تحت كل جنس منها من أنواع kinds. ولقد ضلَّ نفرٌ من الدراسين فأنكروا الاعتراف بوجود ما يمكن أن يُحسب بوادر وإيماءات بوجود مثل هذه الأساسيات. وهذا ما حاولنا في دراسة لنا نشرت قبل زمن غير قصير التنبيه عليه، والتنويه إليه ( في نظرية الأدب وعلم النص، الدار العربية للعلوم – ناشرون، ط1، 2010 ص 19- 23). وذكرنا ما كان قد صنفه أبو إسحق الصابي عن الفرق بين الشاعر والناثر، وأشرنا لبعض ما جاء في كتاب ابن وهب (335هـ) «البرهان في وجوه البيان» من تحديد لأجناس الأدب من شعر، وخُطب، ورسائل، وما ذكره هذا الناقد الذي جار عليه الزمن فنُسب كتابه لغيره، بعنوانٍ آخر هو» نقد النثر « المنسوب زورًا وجورًا لقدامة بن جعفر (337هـ). 
 مؤشراتٌ أولى
وأيا ما يكن من أمر، فإن للدكتور التميمي فضل العودة إلى هذا الموضوع باحثا منقبا عما يقيم(خطاطة) أوليّة – إذا ساغ التعبير- لنظرية الأجناس الأدبية عند العرب، مستفيدا من إشارات وردت عند من سبقوه للخوض في هذا المعترك، والسير في هذا المسلك، لا يأبه بما فيه من وعورة، ولا يبالي بما يترتب عليه من خطورة، فممَّن أفاد منهم فرج بن رمضان وكتابه «الأدب العربي القديم ونظرية الأجناس الأدبية- القصص». وأفاد أيضا من دراسة رشيد يحياوي الموسومة «بالشعرية العربية ، الأنواع والأغراض». وأفاد من الكتاب المنشور بعنوان «مشكل الجنس الأدبي في الأدب العربي القديم» وهو كتابٌ يتناول فيه عدد من الباحثين موضوعات شتى تتوافق في أنها جميعًا تدور حول التجنيس. 
علاوة على هذا، أفاد من بحوث كتبها هو، ونشرت متفرقة في أزمنة متباعدة، منها فكرة الأجناس الأدبية ومرجعياتها عند أبي هلال العسكري (395هـ) المنشور في العدد 38 من مجلة المورد ببغداد (2011) وأفاد من بحث آخر بعنوان « النقد العربي القديم والوعي بأهمية الأجناس الأدبية- مقولاتُ الجاحظ وابن وهب «  المنشور في العدد2/3 من مجلة العميد، ببغداد (2013) أما المصادر الأجنبية والعربية التي أفاد منها، فكثيرة، لا ضرورة لذكرها في هذه المراجعة.
 مقارباتٌ 
وينوِّه المؤلف في توطئته لكتابه بمحاولات متقدمة أخرى مبعثرة لا تشكل دراسة منهجية متماسكة، ولا متكاملة. فقد ذكر محمد غنيمي هلال في «النقد الأدبي الحديث» أن قدامة بن جعفر(337هـ) هو أول من نبه على أهمية التعريف بأجناس الأدب الشعري منه خاصة، وتبعه في ذلك آخرون.. في حين يرى عبد السلام المسدّي في كتابه «النقد والحداثة» (1983) أن مقولة الأجناس الأدبية دخيلة على الثقافة العربية، وينحو هذا المنحى صلاح فضل في كتابه «بلاغة الخطاب وعلم النص» (1992) مؤكدًا أن فكرة التجنيس فكرة غائبة تمامًا عن النقد العربي القديم، بسبب هيمنة البلاغة عليه، والبيان. ويتكرر هذا الموقف لدى كل من محمد الماكري، وعبدالله إبراهيم، فهما يؤكدان خلوّ الفكر النقدي العربي من هذا الوعي بالتجنيس. ولا ينكر عبد العزيز الشبيل في كتابه «نظرية الأجناس الأدبية» أن لدى قدماء النقاد نظرية في البلاغة لا تُعْوزُها أحيانا الإشارات لما يسميه - من باب التسامُح - بنظرية للفنون الأدبية.
 التمْحيصُ
لقد تقصَّى المؤلف فاضل التميمي في كتاب هذا (مجدلاوي،2017) تلك الآراء، وهاتيك المواقف، لأنه يعتزم من خلال التمحيص، الرد على هؤلاء جميعًا، مقدمًا في فصول كتابه الأربعة ما ينفي بالأدلة الملموسة، والأمثلة المحسوسة، خلو النقد العربي القديم من بدايات، وبوادر، تأسيسيَّة لنظرية في الأجناس الأدبية، وإن لم تكن مطابقة لتلك التي نجدها لدى قدماء الغربيين، بدءًا من افلاطون، وأرسطو، مرورا بهوراس وغيره، وانتهاءً بنورثروب فرايFrye   وتيري إيجلتون Eagleton. ففي الفصل الأول تتبَّع، بصورة موجزة، فكرة التجنيس لدى الجاحظ(255هـ) وابن طباطبا العلوي(322هـ) والقاضي عبد العزيز الجرجاني (366هـ) والرماني(386هـ) والخطابي(388هـ) وأبي هلال العسكري(395هـ) ومسكويه (426هـ) وعلي بن خلف الكاتب(437هـ) وابن رشيق القيرواني(456هـ) فلدى هؤلاء جميعًا ملاحظاتٌ يرصدها المؤلف، ويتتبَّعُها، فهي تشير إلى تصنيف أجناسي للكلام بين موزون، ومنْثور، وكلام غير مقفى. والموزون هو الشعر، والشعر منه أنواع هي: الرجز، والهزج، والمسمَّط، والمزدوج، والمشطور، والمخمَّس إلخ. والنثر منه الخطب، والرسائل، والأمثال، والوصايا، والكلام غير المقفى منه القرآن الكريم، بما له من مزيَّة على غيره. وقد ربط بعضهم بين الأنواع والجنس النثري، كابن وهب(335هـ) الذي صنف النثر أنواعًا فمنه: الخطب، والترسُّل، والاحتجاج(الجدل) والحديث، والوصايا، والتوقيعات. وقد بالغ الكلاعي (543هـ) في كتابه «إحكام صنعة الكلام» في تفريع النثر- من حيث هو جنس - على أنواع، فعلاوة على ما ذكره ابن وهب، نجده يضيف: المقامات، والمعمّى، والحكاية، والتوثيق، والتأليف.
 سُلالاتُ الأدب
ويلفت المؤلفُ النظر إلى شيء آخر، وهو تداول النقاد القدماء لفكرة تحوُّل الأنواع الأدبية، فقد وجدنا لدى غير واحد منهم تأكيده أن الشعر انبثق من النثر المسْجوع، ووَرَدَ في كتاب عبد الكريم النهشلي(405هـ) الموسوم بعنوان « الممتع في نقد الشعر « ما نصه:» أصل الكلام المنثور، ثم تعقبت العرب ذلك، واحتاجَتْ إلى الغناء في أفعالها، وذكر سابقيها، ووقائعها، وتضمين مآثرها، فتدبروا الأوزان، والأعاريض، وأخرجوا الكلام أحسن مخْرَج في أساليب الغناء، فجاءَهم مستويًا، ورأوه باقيًا على الأيام، فألِفوا ذلك، وسمّوهُ شعرًا «. وهذا نصٌّ يوحي بما سبق إليه النهشلي من رأي حول تحوُّل الأجناس، وانبثاق جنس أدبيٍّ من آخر. ففي رأيه ساد النثر أولا، ثم انبثق من أحد أنواعه (المسْجوع) الشعر المنظوم، وغلب على المنثور لما فيه من مزيَّة الوزن، والمخْرَج الحسن بالغناء، والاستواء، والحفظ، على مدى الزمان. وهذا نظير قول أرسطو: إن التراجيديا انبثقت من المراثي، وإن الكوميديا انبثقت من الأهاجي، وفي هذا، وذاك، شيءٌ مما أطلق عليه الشكليون الروس في العصر الحديث اسم Ethnology of Literature « السُلالات الأدبية «.
ويُعرَفُ عن أبي هلال العسكري أنه أول من فرق بين الكتابة والشعر، فهما جنسان، يندرج تحت الكتابة نوعان، هما: الخطب والرسائل. وقد فرق في « الصناعتين « بين مزايا هذين الجنسين، وتلك الأنواع. فالخطب تحتاج للطبع، والرواية، والدربة، واختيار الخطيب للألفاظ، وأما الشعر، فمزيَّته التأثير ذمًا أو حمدًا. والارتباط بالألحان، والشيوع، والحفظ أبدَ الدهر، والاهتمام به وبروايتهِ من عصر إلى عصر، والنظم الذي تتجلى فيه زينة الألفاظ. ومثل ذلك من مزايا يذكرها للتفريق بين الرسائل والخطب. وهذا الحديث عن مزايا كل جنس، وطبائع كل نوع، يُعد في نظر المؤلف دليلا ساطعًا، وبرهانا قويًا قاطعًا، على بوادر الوعْي بالتجنيس، وإلا لما كان العسكري في حاجة ماسة لذكر الصفات التي تُسْتحْسن في كل جنس، وكل نوع. فالصفات التي حدَّدها لكل جنس، ونوع، كافية لأن تجعل من كل واحد منهما جنسًا مباينًا، ومختلفًا عن الجنسيْن الآخريْن.
 الباقلاني(403هـ)
وعلى هذا النسق جاء حديث المؤلف عن الباقلاني، الذي عدّد في كتابه « إعجاز القرآن « أجناس الكَلِم وهي: الشعر، والنثر، ومن النثر أنواعٌ، هي: الوصايا، والأمثال، والخطَب، والرسائل، وأخيرا مجاري الخطاب الأخرى. ثم يعود في موضع آخر من الكتاب إلى الحديث عن جنْس الكَلِم، فمنه: الكلام الموزون المقفى، ومنه الموزون غير المقفى، والكلام المعدَّل المسجوع، والموزون غير المُسجع، ثم منه ما يرسل إرسالا من غير تقفيةٍ، ولا تسجيع، وهذا تقسيم يحيلنا – في رأي المؤلف- إلى ما سبق من تصنيفه لاثنين من الأجناس، هما جنس الشعر، وجنس النثر، وتحت كل منهما أنواع، وأنماط. والأولُ له شروط لا يتطلَّبها الثاني. كالنية، والوزن، ووحدة الروي، والقافية التي تشمل فيما تشمله الروي، وأنْ يحظى النصُّ الواحد منه بطولٍ مناسب، وإلا عُدَّ من الشوارد. وقد استعمل الباقلاني كلمتيْ جنس، وأجناس، ولو أنه لا يعني باستعمالهما ما يعنيه المدلول الشائع عند الغربيّين، وهو المقابل الحرفي لكلمة Genres  ونحن نرى في قول المؤلف التميمي: إن الباقلاني عنى بهما المعنى الذي يريده الغربيِّون، قولا لا يخلو من غلوّ،ٍ وشَطَط. 
واللافت للنظر أنَّ الاهتمام بتصنيف الأشكال الأدبية العربية لم يقتصر على البلاغيّين، أو النقاد، وإنما خاض فيه أيضًا من لم يكن من هذا الفريق، ولا ذاك. فابن خلدون(808هـ) وهو مؤرخ، يخوض في إشكالية التصنيف، فتحت مسمى علوم اللسان يؤكد أن لسان العرب، وكلامهم، على فنين اثنين، هما: الشعر المنظوم، والكَلِم المنْثور، وفي كل واحد من الفنين فنون، مؤكدًا أن كلَّ جنس أدبي لا بد فيه من أنواع، أو أنماط، وزاد على هذا في موقع ثانٍ قوله: ولكلِّ فن من الفنون أساليبُ تختص به دون غيره. أي أن ابن خلدون يشترط لكل نوع من أنواع الكَلِم أسلوبًا يختلف فيه عن أساليب الفنون الأخرى من الجنس ذاته. ويستنتج المؤلف من ذلك أن منظّري الأدب العربي قديمًا أدركوا أن لكل نوع أدبي أسلوبًا في إطار الأسلوب الذي يميز هذا الجنس عن ذاك. ومما لا ريب فيه، أنَّ هذه الأقوال المقتبسة من مقدمة ابن خلدون، تعبر عن إحساس قوي بضرورة التجنيس، بيد أن المؤلف يبالغ في تقديره هذا الإحساس إلى الحد الذي يزعم فيه أنهم كانوا السبّاقين للقول بأن الأساليب- هي الأخرى - تخضع لما تخضع له الأجناسُ، والأنواع، من تصنيفٍ، وتجنيس.
صفوة القول أنَّ الخطاب النقدي القديم، بشقيه؛ البلاغي، وغير البلاغي، يتضمَّن أفكارا متفرقة تتحرى جميعًا الإجابة عن سؤال التجنيس، شعرًا ونثرًا. وهي، وإن كانت مبعثرةً، لا يعثر عليها المتتبع إلا بشقّ النفس، يمكن أن تكون مادة أولى لمدخل نقدي يتلمَّس فيه جهابذة الآداب الإجراءاتِ التي تتعلق بعمليات التصْنيف، ورصد التحولات التي تمسُّ الأنواع، أو الأجْناس، فتؤدِّي لولادة أنواع أخرى من الجنْس نفسه وفقا لمبدأ الاختيار الطبيعي، والبقاء للأصلح. وإذا نظرنا إلى هذه الملاحظ، في الظروف الخاصة بها من حيث الزمان، والمكان، اتضح ما كان لدى القدماء من حرصٍ شديدٍ على التجْنيس، والتنْميط الأدبي. وذلك لا يُسوِّغ لأي من المحدثين من أمثال: صلاح فضل، أوعبد السلام المسدي، أو عبدالله إبراهيم، وسواهم.. أن ينكروا ذلك، أو أن يدعوا بأن « نظرية الأدب « فكرة دخيلة على الثقافة والأدب العربيين.