|
عرار:
لقد حّول نبيل قديش قلمه الذي كتب به روايته «شارلي» إلى مشرط عرَّى به تشوهات كثيرة منها ما طفح خارجا ومنها ما ظلّ كامنا ليذكرنا بتفاصيل حقبة مهمة من تاريخ تونس المعاصر، مازالت تداعياتها كامنة وراء صور عديدة رسمت ملامح الذهنية الإجتماعية والسياسية التونسية إلى اليوم. الرواية رمزية إلى ذلك الحدّ الذي نحس فيه بمعاناتنا معاناة الوطن الجريح من خلال قرية نائية في الشمال الغربي التونسي ومعاناة الناس الذين فقدوا أبسط حقوق المواطنة ليصبح النظام والدولة بعبعًا يبتلع كل شئ بما في ذلك أحلامهم الصغيرة بأن يكونوا أحرارا حتى في علاقتهم بربهم وما يمارسونه من شعائر دينية من خلال السلطة التي يمارسها عبد الجبار الفرعون رئيس مركز الحرس الوطني ، فهاهو يلاحق بسيارته اللاندروفر المفطرين في شهر رمضان حتى خارج القرية وما جاورها من حقول وسهول وجحور . كما تلاحق أعينه الخارجين من المسجد والمواظبين على الصلاة في إشارة واضحة وقوية لما اقترفه النظام السياسي والأمني التونسي طويلا من شنائع تغذت بروح الاستبداد والقهر. تتجاوز الرواية الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتي جاءت في 216 صفحة، ما احتوته من قضايا تدور في فلك القرية النائية لتكون ذات دلالات رمزية عميقة عبر شخصياتها التي حركت أحداثها مع كل فصل من فصولها. فالفرعون وصالح شارلي وكرشة ودردور وحياة والشادلي الطبال وحمية وغيرهم ليسوا مجرد شخصيات تقود أفعال الرواية إلى التطور بل إنّ كلا منهم يوثق لصورة معينة عن تونس في فترة الثمنينات التي عاش فيها التونسيون ظروف الانقلاب الذي اصطلحوا على تسميته بتغيير 7 نوفمبر 1987 والذي استولى فيه زين العابدين بن علي على الحكم بعد أن أزاح الرئيس السابق الحبيب بورقيبة. لقد صوّر قديش هذا المشهد برمزية تامة بدأت بوصفه لصورة الحبيب بورقيبة وما كان لها من مكانة في قلوب مواليه وصولا عند تجمع القرويين فبعد أن سادهم التساؤل حول الوحشية التي أزيح بها بورقيبة عن الحكم والتي تتنافى مع ما يتمتع به من مكانة في قلوب التونسيين بوصفه كما يعرف المجاهد الأكبر تقديرا لِما بذله من أجل تونس وصولا لسرعة تغيرهم وتبنيهم لمظاهر الفرح بالجنرال الجديد وهو ما يلخص الحكمة القائلة مات الملك..عاش الملك.. ويذهب قديش إلى تمثيل ما عاشته تونس في تلك الفترة الانتقالية من خلال انتقال السلطة في مركز الحرس الوطني من الفرعون إلى هتلر إذ تتغير الاسماء والوجوه لكن الحال هو الحال حيث يرث كل نظام من النظام الذي سبقه طقوس الجبروت والاستبداد على الرغم من تظاهره بأن عهدا جديدا سيبدأ وفي ذلك إشارة واضحة لما عاشه التونسيون من استبداد غُلِف إبان انقلاب87 بوعود وردية كثيرة. كما يراجع نبيل قديش مفاهيم كثيرة ومظاهر إجتماعية عديدة تبدأ في أولها كسلوك فردي تجاه شخص واحد لكن آثارها مدمرة ووخيمة على المجتمع ككل تماما ككرة الثلج التي تبدأ في التعاظم كلما تدحرجت لتدمر في الأخير كل ما يعترضها من البشر والحجر والشجر، فشخصية الفرعون وما تعرّض له من اعتداءات جنسية في دار الأيتام التي آوته كان له الأثر الكبير على ما يمارسه من تصرفات تعكس ما لخطورة ذلك على نفسية الطفل حيث تؤهله لتكون كائنا متوحشا في المستقبل. هذا بالاضافة إلى ما عاشه في السجن الاصلاحي. وهنا يطرح قديش قضية محورية حول أهمية هذه المراكز الاصلاحية في إنتاج جيل سوي وإن كان قادرا على اعتلاء السلطة أو امتلاكها. كما ينتقد الكاتب وضع الاطفال حيث اختار أن يبدأ روايته بمشهد أطفال القرية وهم ينظرون إلى النسوة وهن عاريات في الحمام في نقد واضح لما تعانيه هذه الفئة كغيرها من تهميش. حكايات كثيرة كقطع فسيفساء صغيرة أثثت الإطار العام للرواية، التي تنتهي بمشهد مسرحي تراجيدي حيث يفاجئ القارئ أن قديش سيتركه لمخيلته يتصور كيف سيكون لقاء الأم بابنها الذي تركته من سنين رضيعا بين الحقول متنصلة من عار أمومته المشوهة بالرفض الإجتماعي كأم عزباء وابن مجهول النسب. هذا بالاضافة إلى تطرقه لطبيعة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الريفي الذي تصبح فيه الخصوصية ضربا من الخيال لتسري فيه الأخبار سريان النار في الهشيم وهو ما يؤهله لاستيعاب آفات إجتماعية عديدة. كما لا يخفى على القارئ تسليط قديش الضوء على مكانة المرأة في المجتمع الريفي والتي يُنظر إليها بدونية فهي التي يجب أن تتحمل مسؤولية أخطاء الرجل ومهاتراته دون أن يحق لها الاعتراض أو الشكوى ويبدو ذلك واضحا في المشهد الذي اشتكت فيه حياة زوجها الخائن وضربته أمام المقهى الشعبي حيث لم يطلب القرويون منه أن يكف عن خيانتها لكنهم طالبوه بمعاقبتها وضربها لأنها قامت بفضحه أمام العيان. أما شارلي الذي عنون به الكاتب نصه السردي فهو ينقل لنا في كثير من تصرفاته ملامح جيل كامل من التونسيين الذين عايشوا فترة الاستعمار الفرنسي وما بعد الاستقلال والذي ظل منسيا في غياهب السجن في إشارة واضحة لما لقيه البورقيبيون وبورقيبة نفسه من استهتار وتغييب متعمد. كما لا يخفى على القارئ أن يكتشف أنّ الأنظمة السياسية والقادة كذلك تتوالد من بعضها البعض فكما أن الفرعون هو الابن غير الشرعي لشارلي فإن نظام بن علي هو الوريث الشرعي لما اقترفه النظام البورقيبي من عبث. شارلي نص سردي ثري صاغه قديش على إيقاع التشويق والعمق لينقل بدقة مرحلة خطيرة من تاريخ تونس المعاصرة إبان الانقلاب النوفمبري الشهير لتكون بذلك من الرواي. وتصريح له لجريدة الدستور الأردنية يقول صاحب شارلي: لقد شرعت في كتابة الجزء الثانيّ لثلاثية ابتغيتها للرواية وقد اخترت للجزء الثاني عنوان» الزيروويت». مضيفا : لمن لا يعرف هذه التسمية فهي تشير إلى الترقيم الهاتفي لمنطقة الشمال الغربي والتي ارتبطت في المخيال الشعبي التونسي بالنظرة الدونيّة لتلك المنطقة المهمّشة وبخصوص قدرة الرواية على التوثيق لأحداث تاريخية يقول قديش: «الرواية في إحدى تعريفاتها هي أداة فنية يمكن من خلالها التعبير ورصد أوضاع المجتمع المختلفة ومعرفة أهم التغيرات التي تحدث في المجتمع وهى أيضا ليست أداة للرصد فقط ولا للتحليل فقط ولكنها أداة للتاريخ. ومن هنا يمكن اعتبار الإبداع مصدر غير تقليدي للتاريخ وخاصة الرواية حيث نجد أن الرواية هي أقرب لروح المجتمع والتي تستطيع أن تدخل في طياته وتحاول تحليل ما حدث من أحداث وتؤرخها بصورة سهلة ومرنة تصل إلى القارئ بل وتستطيع أيضا من تحليلها للماضي أن تتنبأ بالمستقبل وما يمكن أن يحدث فيه من أحداث مماثلة للماضي». الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 17-03-2017 09:12 مساء
الزوار: 759 التعليقات: 0
|