|
عرار: يخوض الشاعر تجربته الشعرية مسلحاً بالحلم، لكن ملامح هذا الحلم تتنوع وتتعدد وتختلف من شاعر إلى آخر، بحسب ما يختزنه الشاعر من ثقافة ورؤية، وبقدر انتمائه لبيئته وتاريخه، ومدى قربه من مناخه اللغوي والحضاري، وعلاقته بتراثه وحسه الديني والشعبي . لهذا فإن ملامح الحلم ليست واحدة لدى الشعراء، ومن ثم جاء اختلاف الشعراء وتميزهم منذ وجد الشعر حتى عصرنا الراهن، حتى لو تناول كل منهم غرضاً شعريا واحدا، لأن مساحة الحلم ليست لها حدود، ولأن الشاعر مثل الطائر المحلق يمتلك حريته في النظر إلى أية بقعة من هذه المساحة، وبقدر ما يشحذ أدواته الشعرية يحقق تواصلاً فنياً جيداً يضعه في موضعه اللائق بين الشعراء . ولعل هذه الصورة تؤكد تجربة الشاعر التي تختلف بالقطع عن تجارب غيره من الشعراء، بما تتضمنه من خصوصيات وتميز، بحيث لا نستطيع أن نقارن تجربة بأخرى بالقدر الذي يجعلنا نرتب أو نصف الشعراء من حيث الجودة أو التفوق . وبين أيدينا الآن تجربة لشاعر ينتمي إلى بيئة ثقافية ثرية، بدأ رحلته مع الشعر الشعبي في دواوينه (همس الخلود) و(سكون العاصفة) و(ساحة رقص) و(زايد) كما قدم قراءة نقدية للساحة الشعرية الشعبية في كتابه (على الطاولة)، وها هو اليوم، بعد أن انتهى من (طاولته) يخرج علينا بديوانه (بيت آيل للسقوط) من شعر الفصحى، كأنه يريد أن يؤكد لنا قدرته على الحلم بكل اللغات . إنه الشاعر محمد عبد الله البريكي المسؤول عن بيت الشعر في إمارة الشارقة الذي له إسهامات مختلفة في مجالات الإعلام والثقافة، فجمع بذلك بين الإبداع تعبيراً، وممارسته مهنياً . ودعونا نقف في البداية أمام هذا العنوان المثير، وهو عنوان لقصيدة داخل الديوان، يقول فيها: زارني الصمت خلتُه مثل ذئبٍ يملأُ القلبَ رهبةً وعويلا لا أرى الشبابيك إلا ثكالى غاب عنها الضياءُ وقتاً طويلا انثروا القمحَ فوق رأسي فإني جئتُ كالطير لا أمل الهديلا آيلٌ للسقوط بيتُ الأماني أنقذوا سقفه يعودُ جميلا تُرى أي بيت هذا الآيل للسقوط، إنه توجس الشاعر من الصمت والعجز عن التعبير أمام النفي والإقصاء ولعْق الجراح التي يعانيها الشاعر في رحلته الإبداعية، ولأنه يحلم دائما بالتغيير والعالم الأفضل فهو لا يستسلم لأنه يرى في المنفى طموحه، وفي الإقصاء قوته وقربه من الحلم، وفي جراحه براءته لاختراق الصعاب، وهو شاعراً من مهامه نشر الجمال، ولعن القبح ونبذ الدمار والنفي . وتكاد هذه المعاني جميعا تنتظم وقصائد الديوان، وإن تعددت الرؤى والأساليب الفنية التي تتناولها، والتي توضح لنا عمق ثقافة الشاعر وحريته في التحليق في آفاق مختلفة سنتعرف إليها حالاً . إن أول أفق من هذه الآفاق يتعلق بالتراث الديني الذي نشأ عليه الشاعر وتعمقه، فقد استطاع أن ينهل منه بحس فني متفرد ليسقطه على واقعه وواقع مجتمعه . إنه مثلاً شاعر مغرم غراماً كبيراً بقصة يوسف عليه السلام وزليخة امرأة العزيز، والديوان حافل بالإشارة إلى هذه القصة في أكثر من موضع ومن زوايا مختلفة . ففي قصيدته (جدتي وعصاي) نجده يعيد إلينا عصا موسى التي يهش بها على غنمه، ولكن لأنه ينتمي إلى المدينة وليس لديه غنم، فإن له في عصاه مآرب أخرى، ومع ذلك يكتشف أن عصاه أيضا عاجزة عن تحقيق هذه المآرب التي تمثل له المتعة في حياته فيعود إلى قريته على حد قوله: لكن صوت المدينة لن يسعفهْ ورجعتُ إلى قريتي بقميصي الذي قُدّ منْ ؟! يالهذا القميص الذي كلما عدتُ قد من الظهرِ، لا لعصايَ، لدربِ الغوايةِ للموتِ في الوقت، عدت وحيداً، عدت لأن المدينة ليست لأهل الغنمْ . لقد جمع البريكي بين موسى ويوسف عليهما السلام في موقف واحد، وأسقط حكايتيْهما على حالته الشعرية العاجزة عن تحقيق حلمه، بالرغم من أنه حمل بين ضلوعه (أحلامه البكر) وأنه (فرّ من ذئب غربته لفضاء الوطن) وأنه حمل في يديه (عصاه ومسبحته) إلى آخر هذه الإشارات كأنها بطاقات عبور إلى الحلم، لكنه في النهاية يعود إلى موقعه في القرية، لأن المدينة ضاقت به وبأحلامه . ومرة ثانية يلجأ إلى القصة نفسها في قصيدته (ننام على الريش) كأنه يعارض قصيدة (وضاح اليمن): قالت: ألا لا تلجنْ دارنا إن أبانا رجلٌ غائرُ قلت : فإني طالب غرةً منه وسيفي صارم باتر قالت: فإن البحرَ من دوننا قلت: فإني سابحٌ ماهر أما شاعرنا البريكي فيقول: وقالت: من الطارقُ الآنَ والليلُ يسكنُ من يستفز الأحاسيسَ والبيتُ ناطورُه غابَ والبردُ إبليس والليلُ في صمته مدفأةْ . . دع الباب واغربْ . . ويمتد الحوار بين الشاعر والمرأة، حتى يفيق على حاله ويقول: أنا لستُ في غيبةٍ من قميصي فقد قُدّ من قبلٍ حين قلتُ لربي نريد لهذا الفضاء جناحينِ نخرج من ظلمة القهر، وينهي القصيدة نهاية مأساوية: أيا أيها الطارقُ، ارجعْ فإن قُرانا تجول فيها أسدْ .! إن هذا الاستخدام التراثي قد اتكأ عليه الشاعر حتى جعل من المرأة الوطن، ومن الحب الانتماء، ومن المواجهة تمرداً على الواقع، وهذا له أهميته في استلهام التراث، حيث لم يقف الشاعر عند حدود القصة، وإنما جعلها مفردة في عالمه الخاص، فلونها بألوانه، وشحذها بمعانيه، فابتعد كثيراً عن الأصل، وحلقت في آفاق أخرى تمت إلى المعاصرة، والواقع المعيش . ومرة ثالثة يجمع أيضا بين موسى ويوسف عليهما السلام في قصيدته (آت من البحر) لكن من زاوية مختلفة، فيقول: وإن عصت أمنياتي (لا مساسَ) أنا (السامري) ظنوني، إنها عِبَري بذرتُ في بيْدر العشاق أمنيةً تطاولتْ ثم غبتُ الآن عن مدري كشاردٍ من جراح الذنب ينصفني هذا القميصُ الذي قد قُد من دُبرِ وتستمر القصيدة لتصور رحلة الشاعر بما فيها من الإحباطات والإخفاقات وهو يشعر دائما بالغربة والنفي، لكنه يتمنى أن يجد خلاصه في حضن أنثى دافئة: مازلتُ أسألُ والأيامُ أشرعةٌ يا هذه الريح هل مازلتِ في أثري؟ هنا سأبحث في حضني ومدفأتي عن سر ما سطرت أنثى على قدري يا هذه الأرض هل لي ها هنا كفنٌ؟ وهل لبعضي سريرٌ يحتوي وطري؟ ومرة رابعة يذكر القصة نفسها في قصيدته (الباب يطلبني للدخول) على هذا النحو: تلصصتُ في حضرة الناسِ أعلمُ أني أنا لستُ صاحبَ ذاك القميص الذي قدّ من ظهرهِ لستِ أنتِ زليخةُ في دعوتي بينما كان ثمّةَ من قال: هيْتَ وقلتُ أنا: هيْتَ للقربِ والشاعر هنا مصرّ على هذا اللقاء برغم زحام الرجال في باب زليخة، فهو يدرك أنه الوحيد الأحقّ بها: أميرة هذا المكان حملت سلاحاً من البوح كي أحرسكْ أقوم على باب قلبك أمنع كل الرجال وأبقى أنا من تبرع كي يؤنسكْ . . . . . . . . والباب يطلبني للدخول وأدخل يا شهرزاد أتوق إلى فصل بوحك والليل يأتي بليلٍ ولا ينتهي منكِ فصل الكلام لكنه في نهاية المطاف يستيقظ من هذا الحلم ويدرك واقعاً مريراً يعبر عنه في طلاقة وصدق: كان حلما، وأحلامنا كالرياح تطير ومن يُمْسِكُ الريح حين تفيقْ؟ أحلام الشاعر هنا إذن أحلام محبطة، أو هي أحلام مستحيلة، فدائما يتوهم أن قميصه قد من دبر، ليشبع توقه وتوهمه بأنه مطلوب من المرأة، ثم يكتشف أن هذا التوق كان حلماً يطير كما الريح . والديوان يتضمن قصائد متنوعة تؤكد أن الشاعر لن يكف عن الحلم حتى ولو تكسرت نصاله، ولقي الغربة والنفي . ويبدو أن هذا الإحساس الممضّ قد طغى على قصائده، حتى إننا لا نكاد ندخل إلى عالم أية قصيدة، حتى تواجهنا معاني النفي والغربة التي تترجم تمرده على واقعه وإحساسه بالألم، ورغبته في التغيير إلى الأفضل . أمن سعفٍ أؤثّث للمنافي أمن تعبٍ يُسافرُ يا رحيلُ وجدتُك والمسافات استباحت خرائط رحلتي وأنا السبيلُ (صوت المنافي) لا فُلْك تأخذنا والريحُ تدفعنا على جبالٍ من الأمواج تنفجرُ (شاطئ الحب) احتسى في الميادين هم رغيفٍ يشاطرني غربتي والمدينةُ أغنيةٌ للمجانين (جدتي وعصاي) تعال، خارطة المنفى بي اتسعت وبعثرتني رياحٌ تقتفي عُمُري تلك أمثلة قليلة مما يتضمنه الديوان من معاني الغربة والنفي، تلك المعاني التي تمثل ركيزة مهمة في إبداع الشاعر . والديوان يضم عدداً من القصائد التي تتسم ظاهريا بالذاتية، لكنها سرعان ما تدخلنا عالماً مختلفاً يشعر به القارئ، ويتبنى تفاصيله وتجربته . تبنى البريكي القضية الفلسطينية وخاصة المقاومة على لسان فتى فلسطيني يتحاور مع أبيه ويؤكد له عدالة القضية، وهي حوارية ليست صارخة ولا تتميز بالصوت الزاعق، ولكنها تخاطب وجدان الأب، وكأن الابن يعاهد أباه على استمرار المقاومة . وكما جسد الشاعر صورة وصايا الشهيد في غصن زيتون، وأحلامه مثل الحمامة المسجونة في قفص الموت، والرصاص الذي يخنق الأشعار، نراه يجسد مأساة العراق في قصيدته (صوت الرصاص) فيقول: حلمتَ بصوت الحمام يصيحُ من البندقيةِ لا يا صديقي أزيزُ الرصاص يصيح من الطلقات ويصطادُ سربَ الحمام ويترك ذئباً يُبيدُ القطيع وفي نهاية القصيدة يضع الأمل والحلم بالخلاص: تذكّرْ، كما أحرق الأرضَ نيرونُ ماتَ، وكانت هيَ الباقيةْ وأنتَ أنا كلنا في الحقيقةِ نحلمُ لكنّ بغداد تبقى وطنْ! الحكام والأشخاص إذن زائلون وتبقى الأوطان . . الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الجمعة 12-04-2013 04:20 مساء
الزوار: 1780 التعليقات: 0
|