|
عرار: عرار: المتتبع للمكتبة الغنائية العربية سوف يكتشف أن شعراء القرن العشرين لم يتطرقوا -إلا قليلاً - للقصائد الشتوية ونذكر منهم مأمون الشناوي الذي كتب عام 1949 أغنية "الربيع" التي لحنها وغناها فريد الأطرش، وفي مقطع واحد منها أشار للشتاء، وربما يكون الاستثناء الوحيد في القرن العشرين هما "الأخوان رحباني" اللذان أبدعا لوحات غنائية ثرية على مستوى الكلمات واللحن وتوجت نجاحها فيروز في أكثر من أغنية، وكذلك صباح التي غنت أكثر من أغنية عن الشتاء مثل "يارب تشتي عرسان"، وأيضا محمد قنديل. ورغم تجاوز عدد أغنيات أم كلثوم 400 أغنية فإنها لم تقدم مقطعاً أو حتى شطرة شعرية واحدة عن الشتاء وكذلك عبدالحليم حافظ الذي غنى للصيف والبلاج والأجازات فقط. وفي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي, بدأ شعراء وكتاب الأغنية الحديثة - بحسب صحيفة الاتحاد الاماراتية - توجيه قريحتهم الشعرية نحو فصل الشتاء، وغنى محمد الحلو للشتاء وكذلك علي الحجار وراغب علامة ومدحت صالح وكاظم الساهر ومحمد منير وحنان ماضي وداليدا ولطيفة وميريام فارس، وأخيرا إليسا في ألبومها قبل الأخير "أيامي بيك"، حيث غنت "أواخر الشتا". الشاعر الغنائي إبراهيم عبدالفتاح صاحب أجمل أغنية شتوية في السنوات الماضية "لما الشتا يدق البيبان"، والتي لحنها أحمد الحجار وغناها علي الحجار يقول: كتبت "لما الشتا يدق البيبان" في ظروف نفسية وصحية ومناخية شتوية خالصة، فقبل غنائها بأربع سنوات وتحديداً في شهر ديسمبر 1986 كنت في مدينة رأس البر الساحلية، وكما هو معروف إنها شواطئ صيفية شهيرة لا يقترب منها أحد في الشتاء، لكني ذهبت مرغما بحكم حضوري مهرجان شعري أقيم هناك، وفي تلك الأيام كنت أمر بظروف صحية صعبة، فقدماي مصابتان، وأمشي على عكازين ووسط ظروف البرد وتيارات الهواء العاتية في رأس البر، قررت التمرد على أجواء الكسل والمرض، فتركت العكازين وقررت المشي على قدمي، وولدت فكرة الأغنية التي راحت تنساب بسهولة في شكل كلمات صارت بعد ذلك أجمل أنشودة شتوية في حياتي الشعرية. ويؤكد الشاعر عماد حسن صاحب أغنية "فات الشتا" من ألحان محمد ضياء وغناء داليدا رحمة، صعوبة تذوق أغاني الشتاء من غالبية مطربي هذا الزمان، رغم أن تلك النوعيات من الأغاني تتميز بالشياكة إلى حد أنها تشعرك بمجرد سماعها بأنك ترتدي أفخم الملابس، عبر الكلمات الموحية والصور والأخيلة والزخارف اللغوية التي تصنع الثراء والغنى فتجلب المتعة والدفء للمتلقى الذواقة، لأن الشتاء مقترن بالوحدة والتأمل العميق في مفردات الكون المشحون بالذكريات. ويضيف عماد حسن: فصل الشتاء فيه زخم هائل يدفع الشاعر إلى الغوص في السماء الملبدة بالغيوم، والبرق والمطر أكثر عناصر الطبيعة من وجهة نظري للولوج نحو الكتابة، ففي ظل أجواء كتلك يصعب على الناس مغادرة بيوتهم، فتغمرهم السكينة والهدوء وخلف الجدران والشبابيك يتأملون هذا الطقس البديع بشغف، وإذا لم يتوفر للإنسان في تلك اللحظات نديم أو صديق أو حبيب يسامره ويزيل عنه غيوم غربته، فسوف يجنح بخياله إلى الماضي وتتسلل خيوط الذاكرة من بين ثنايا حبات المطر. أما جمال الشاعر، صاحب أغنية "عصفور المطر" لحن ياسر عبدالرحمن وغناء حنان ماضي، فيرجع سر الحزن في أغنيات الشتاء إلى فرق التكنولوجيا بيننا وبين الغرب، والفجوة الرقمية هي السبب في ذلك، لأن الشتاء عندنا يعني الاعتكاف والخمول في المنازل فشوارعنا غير صالحة أو مجهزة لاستقبال المطر، وبالتالي تتعطل حياتنا ونصبح محبوسين وإحساس الفرد بأنه محبوس يجعله في حالة من الضيق والحزن والكآبة أما المواطن الغربي فإنه يعيش فصل الشتاء كأي فصل عادي، وينطلقون فيه بخفة ورشاقة ويعتبر الشتاء في بلادهم موسم الذروة السياحية مثل سويسرا التي تعيش أزهى أيامها في الطقس الشتوي المميز لها. أما عن الكتابة في الشتاء عنده فيقول: أشعر بحالة من الغربة عبر طقس فصل الشتاء البارد الذي يتسم بليل حالك الظلمة ونهار لا تسطع فيه الشمس طويلاً، وربما كان هذا دافعي لكتابة أغنية "عصفور المطر" وكانت أجواء الشتاء الباردة مناسبة فعلاً وكانت حافزاً لحالتي المزاجية والتي ولدت لدي حالة من التوهج الموجود عند أي شاب، سواء كان توهجاً عاطفياً أو حباً مفعماً بنبض الحياة، وهو ما جعلني أتمكن من التعبير عن فكرة الهشاشة العاطفية التي يعيشها جيل الشباب. ويأسف جمال الشاعر لقلة الأغاني عن الشتاء ويرجع ذلك لأننا أسرى قوالب فنية معينة ونعيش ثقافة الاعتياد فمنذ قديم الأزل والشعر عندنا مرتبط بالربيع والعصافير والأزهار والأشجار وتوارثت الأجيال "عدة الشغل تلك" وكأن هناك ارتباطا بين الشاعر والربيع ولم ينتبه الشعراء إلى مواطن أخرى لجمال لوحة الحياة الغنية بالمعاني والتفاصيل ليكتبوا عنها، وتلك أيضاً نظرة أحادية فمعظم الشعراء أهملوا الشتاء واهتموا بالربيع وكلمات الغزل التي تتغنى بعيون الحبيبة. ويقول الشاعر وائل هلال صاحب أغنية "مهما الشتا قسى" والتي غناها مدحت صالح ولحنها فاروق الشرنوبي، إن الشتاء هو الفصل الوحيد الذي يسمح فيه للإنسان بأن يجلس أكبر وقت مع نفسـه فهو مقرون بالانطواء نظراً لبرودة الطقس وبالتالي عندما تتاح للإنسان فرصة الخلوة المفروضة عليه رغم أنفه يعود بخياله إلى الخلف يبحث ويقلب في الذكريات ودهاليز الماضي البعيد، وغالبا ما تكون تلك الذكريات مرتبطة بالانكسارات أو بالانتصارات وفي الحالتين تبدو حساسية الشاعر الذي يتأثر بهذا الجو الذي ينعكس على الكلمات. يقول الدكتور أحمد عكاشة ـ أستاذ الطب النفسي ـ إن الشتاء يقصر نهاره ويطول ليله، وهذا يجلب للناس الوحدة وتلك بدورها تتسبب في زيادة مساحة الهم والكرب، بالتالي يشعر الإنسان الوحيد بالعذاب نتيجة العزلة في الليل، ومعروف أن العلاقات الاجتماعية تقل في الشتاء نتيجة لضعف التواصل الإنساني في هذا الفصل من خلال التزاور الذي يصبح نادراً بسبب عوامل الطقس البارد. الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الإثنين 21-11-2011 04:22 مساء
الزوار: 1915 التعليقات: 0
|