عرار- خاص :تونس يا تونس، يا قبلة نشتهيها حين حصحص الحق وزهق الباطل..تونس ايتها العاشقة والمعشوقة كنست زمن الرداءة على حين غرة بعد ان بلغت القلوب فينا الى الحناجر، من كان يصدق أنك ستخرجين يوما من صمتك لتعلني للعالم العربي أن المستحيل ليس تونسا ما دمت قد انجبت ولدانا لا يقعقع لهم بالشنان، انجبت البوعزيزي الخارج من قمقم الظلم مرددا على حد قول درويش:
ولكني إذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
حذار! حذار! من جوعي ومن غضبي. / م
تونس ايتها العصية الم يبكي درويش  في حضرتك، يوم ودعك مرغما ليلتحق بالمجهول ثانية وثالثة بعد ان كنت  للفلسطينيين اما ووطنا وعشيرة؟ درويش يا درويش، ها انا اعيد عقرب الساعة الى البارحة، هنا بكيت مودعا تونس بسمفونيتك الخالدة:
كيف نشفى من تونس؟
فهل نقول لك شكرا؟
لم اسمع عاشقين يقولان شكرا...
ولكن شكرا لك لأنك أنت من أنت..؟
............................
هل نسينا شيئا وراءنا؟
نعم نسينا تلفت القلب
وتركنا فيك خير ما فينا
تركنا شهداءنا الذين نوصيكم بهم خيرا...
أأنت حقا يا تونس من انجبت بطلا مفردا بصيغة الجمع، ليقنعنا بزمن عربي رديء افتضحت فيه الوجوه المقنعة والسياسات المعقمة التي توالت على الممالك والدول العربية التي باعت عنوة النخوة والإيمان ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف..؟ زمن عربي تواطأ مع الشيطان الأكبر، وباع ما تبقى له من هوية في سوق النخاسة بثمن بخس زهيد.. زمن عربي غابت فيه السياسات المستوردة، وانسل المثقف كما انسل السياسي يبحثان عن الكراسي الوثيرة بعد أن تنصلا من ميثاق طالما حدثتنا عنه بلاغاتهما الفاجرة.. زمن ظهر فيه الباطل شاحذا سيفه، وزهق الحق إلى زمن مؤجل إلى إشعار آخر.. أمة عجزت عن تغيير المنكر ولو بلسانها، وأسلمت الروح إلى قابضها قبل الأوان.. زمن يكتبه التاريخ المدنس، متنكرا للقيم والأعراف الدولية، فتوارى خلالها المقدس، واجتثت من القواميس والمعاجم كي لا يروج لها كبضاعة لم يعد لها وجود إلا في المتاحف القابعة في بطون الديكتاتوريات الحداثية.. زمن جفت فيه الدموع في مدامعها، واحتمت القلوب بالأمل الشاحب شحوب السياسات العربية الناطقة / الصامتة.. حيث تعالى العويل والنحيب في الشوارع العربية والدولية، وعيون الحاكم العربي تلوك الهزيمة تلو الهزيمة، وتغتال فينا البسمة والأمل حتى لا تغضب أمريكا التي باتت توزع صكوك الغفران على كل الخونة والدجالين والنصابين..  هنا تقتلني التفاصيل اخوتي التونسيين، وكانني بالبوعزيزي الخارج من جباهكم العالية يهمس في آذان كل الدول العربية قائلا: أما آن الأوان للأمم المتحدة أن تعلن وتشهر إفلاسها وتبيع طاولاتها وكراسيها وملفاتها في المزاد العلني !..لماذا نحن صامتون  بني أمي ولغة الضاد انقسمت إلى اثنين وعشرين لغة.. لكل لغة مفرداتها، وأسماؤها وإعرابها، ولم يعد غائبا علينا أيتها الجماهير المذبوحة من الوريد حتى الوريد أن بعض السياسيين والسياسويين منا تحولوا بقدرة قادر إلى باعة متجولين؟ عفوا سادتي أفتخر بأنني كنت من الباعة المتجولين الذين لم يشربوا يوما عرق كائن من كان، ولم ينهشوا لحم أحد، ولم يثبت أن اشير اليهم بالبنان، عفوا عفوا فشتان بين زيد في الدار سبع وزيد في الدار ضبع...، فما كان قصدي إلا للذين أطلقوا الرصاصة الأخيرة على الحرية في وطني، وانكشفت أوراق القوميين العرب، ليثبتوا للعالم علانية أنهم ليسوا قوميين، وليسوا عربا... وها هو الشارع العربي مضروب على دماغه.. وها نحن نرى مذبحة العصر ومذبحة القهر والإذلال وإلغاء الشعوب من مقوماتها، وخصوصياتها، وشرائحها الاجتماعية..أجل اخوتي لأجل هذا فضلت الاحراق بعد الاحتراق كي اعطي شرعية التطهير والخلاص لكل ذات تابى أن تعيش الذل والقهر في حضرة زبانية شداد يفعلون ما يؤمرون.. لم اكن لاقبل أن امارس على ذاتي أشد العذاب لولا أن هتف بي هاتف من اعالي السماوات مرددا: « وحدك الآن يا البوعزيزي تحمل همك، وهم الوطن، وتغني لموجة هاربة.. تفكر في مصير أمة لا يوفر حاكمها قطعة خبز جاف لمن يسميه جورا « مواطنا مع وقف التنفيذ »، لينزع عنه جلد التراجع، ويلبس مع الشرفاء الغرباء عن أوطانهم عاصفة.. وبرقا.. ورعدا.. يشق البحر الصاخب، ويتوقد بالموج، ليصير ذلك المد العنيد. وهل تراك يا ايها البوعزيزي الخالد فينا تستطيع أن تشعل في ظلام المقهورين شمعة لترى أن ركوب الموجة ومصالحة التيار أصبحا سعيا حثيثا لكثير من الوجوه التي مارست السباحة ضد التيار؟. أتخيلك تتلفت أماما ووراء فتجد حاملي الشهادات مثلك والذين كانوا أصحاب قيم رنانة في محراب الحجاج بن يوسف الثقفي.. أصبحت الأشياء تعكس ذاتها ببريق أخاذ رغم نزيف معدنها. فكلمة حق في هذا المضمار لابد أن تجلب لصاحبها الكراهية، وكلمة الحق ضائعة، كما تضيع كل يوم حقوق المهمشين من ابناء الشعوب العربية ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف.. تراك أيها المواطن، أيها المكمم المعتوه، والأخرس المنبوذ.. أن تكون رافضا مرفوضا من كل الأطراف، أو معظمها، إما لهيمنة التيار الزائف أو لغياب الوعي نتيجة التعتيم.. أن تكون منبوذا في زمن كاليوم، يعني أنك حقيقة...» !ورب الكعبة لست أدري، ولهذا قلت مزهوا: أيتها النار النمرودية طهريني من دنس حكام لا يشبهون إلا أنفسهم فما عادت دنياي عاشقة ولا معشوقة، ولن اقول لذات النار قطعا: كوني بردا وسلاما على جسد يتولاه خالقة... لكن بلغي رسالتي للعالم الأخرس على أن تونس ستظل أبدا كما أراد لها الشابي..آه منك يا شابي، قلت فعدلت فنمت وعلى طريقك سائر ولو اختلفت طريقة الموت، عفوا لم نمت يا شابي؟ ألا ترى اعراسنا هنا وهناك؟ ألا ترى عيوننا تقمصتها عيون أحبة وأصبحنا نشيد الاناشيد ومزامير داوود؟ في زمن تهاوت فيه بفضلنا العروش النخرة، وارتعدت فرائس النيرون العربي الذي طالما عتا ثم جفا ثم اقمطر؟؟
لقد علمتنا يا البوعزيزي، ويا كل شرفاء تونس أن محاولة شطب تونس وكل الدول العربية المضطهدة من التاريخ هي محاولة مستحيلة، ومهما كان الخراب كبيرا، والجرح عميقا، والأساليب متوحشة، فسوف تعود هذه الدول لتبني أوطانهما حجرا، ونخلة، ومئذنة مئذنة، وكنسية كنسية.. ولن يتحول نشاماها إلى أضغاث أحلام.. أكيد أن صيحة الشاعرة سعاد الصباح يوم كان الحلم الجميل جميلا صدقت حين قالت في غمرة احتفائها بالإنسان العراقي:«إن الفكر النرجسي العربي هو أساس كوارثنا القومية؛ فنحن لا نستطيع أن نعمل على شكل «فريق» أو «مجموعة»، أو شركة، أو اتحاد، فالجامعة العربية منذ تأسيسها عام 1945، لم تكن أكثر من فندق كبير، يسكن فيه اثنان وعشرون نزيلا، لا يكلمون بعضهم، ولا يرون بعضهم إلا في غرفة الطعام.» وها هي عيون الحاكم العربي معلقة على أبواب مؤتمرات تهريجية، تدبلج بياناتها خارج الخريطة العربية البلهاء.. فما أرحمك يا حلقات جامع ألفنا، وما أقساك أيتها الحكومات حين تطاردين مقولة: اذهب انت وربك فقاتلا.. ! تعبنا منك، وتعبنا من أنفسنا، وتعبنا من الانتظار الطويل.. الطويل.. تعبنا من النظر إلى شاشاتنا الفاجرة العاهرة، وتعبنا من أقلامنا المتواطئة مع بيانات القمم العربية والإسلامية، وعدم الانحياز... تعبنا من التعب، ومن ظلنا المكسور.. تعبنا من التاريخ الذي طالما علمنا النخوة والعزة الهلامية..نخوة من اهتز واستجاب يوما لنداء امرأة صرخت يوما : وامعتصماه ! تراه حقا تاريخنا أم هو كذبة مؤرخ كان يكتب تحت الطلب.. ! من نكون يا أمة ضحكت منها الأمم حين تشخص أبصارنا تقديرا وإعجابا للشارع الدولي الذي بح صوته بلا آته التي صمت آذان النمر المصنوع من الورق «بوش» وقرينه «شارون»؟ مسيرات تشيب لها الولدان.. من نكون يا أمة...؟ حين يصرخ شراك في وجه بوش نيابة عن الشارع العربي؛ والحاكم العربي يرفع الشعارات والخطوة إلى الوراء..؟ آه يا البوعزيزي وكل البوعزيزيين؛ لم تعد تسعفنا الكلمات التي تلاشت في صهيل ضائع، وأحرقت بقايا نظراتنا المصوبة نحو العدم.. نظرات تنطق بما كان من المفروض أن تنطق به الشفاه المختومة بالشمع الأحمر.. عقارب ساعاتنا لا زالت في البارحة، وساعاتنا اعتلاها غبار داحس والغبراء في زمن تداخلت فيه الفواجع الطالعة من ثنايا الإهانات القادمة من التاريخ الموبوء.. تاريخ بصمته أنامل يهود خيبر والأوس  والخزرج.. التاريخ الذي أخطأ الطريق إلينا وأوهمنا أننا خير أمة أخرجت للناس..
أيها الاخوة الكرام، ما بال حكامنا وأباطرتنا وهم يقرءون « من لا غيرة له فاقتلوه.. !»، وما بال حكامنا يقتلون أطفالنا وشيوخنا ونساءنا بآبار نفطهم المقدس، ويدخلون جثثهم تحت حجة المواثيق الدولية.. الشرعية الدولية.. الأمم المتحدة.. دول عدم الانحياز.. ! ما بال الشارع العربي يغضب من أمريكا ومقاطعتها، ولا يغضب من خزنته وحراسه الذين يفعلون ما يؤمرون.. ! ما بال مثقفينا تناسوا شرف الكلمة، فباتوا كمن ضاع منه خاتم في بحر الظلمات.. ارضوا بالمقام فأقاموا أم تراهم تركوا هناك فناموا.. ! أين صولتهم وعزتهم في زمن تقاطرت فيه على البيت الأبيض آلاف الصرخات، لآلاف الشعراء من القارات كلها، إلا قارة أمتنا التي ضاع منها المجداف والملاح ؟ أين صرخة سعدي يوسف حين دعا إلى تكوين جبهة للمثقفين علها تزعج الحاكم العربي، وترفع عن رقبته المقصلة، وتقذف أبوابه الزجاجية الماكرة ؟ أين المواقف الثقافية التي أبت يوما أن تدجن داخل دهاليز السياسيين والسياسويين على حد سواء ؟ أين.. أين..؟ اليس لكل هذا فضل خليل حاوي الانتحار وزكاه البوعزيزي بالاحراق والبقية تأتي؟ اليس لاجل هذا نحن هنا نعلن أن لا مهادنة بعد اليوم مع من يخالنا قطيعا..نحن هنا لنقول لشهدائنا عبر هذه الخريطة العربية البلهاء: ناموا قريري العين لاننا، لن نصالح ابدا من اراد بنا كيدا، ولن نصافح اليد ذات اليد التي كتبت لنا تاريخا تحت الطلب، والتاريخ هو من خطته عنعنة البوعزيزي قرأناه يوم غرغرته مشتعلة في نار ليست نارا بقدر ما كانت بداية تصالح العناصر الاربعة مع بعضها... اليوم اخوتي يجب اعادة قراءة وصيانا العشر:
- ممنوع عليها إحراق الرايات كي لا تدرج لا قدر الله في خانات الإرهاب الدولي.
- ممنوع عليها تجاوز الخطوط الحمراء:« من ليس معنا فهو ضدنا ».
- ممنوع عليها فذلكة لغة قابلة للتأويل والبلاغات المشحونة بالغمز واللمز، وهي تشبه تماما الأسلحة المحظورة الفتاكة والبيولوجية..
- ممنوع عليها إغضاب زرقاء اليمامة البانتغون.. والكنسيت..و..
- ممنوع عليها إغضاب وزراء الداخلية والخارجية إن على وإن سفل..
- ممنوع عليها إغضاب إسرائيل الطفلة المدللة في مهد تل أبيب..
- ممنوع عليها التحرش بثوابتها الاقتصادية، ماغدونالد، مارلبور، وكوكا كولا..و..
- ممنوع عليها الاحتماء بالمواثيق والأعراف الدولية التي كنستها أحداث 11 شتنبر.
- ممنوع عليها ممارسة حرية التعبير في دولة الحق والقانون.
- ممنوع عليها أن تغادر الحزن باسم المقاومة وجمع الشتات، والحلم بمشاريع الوحدة العربية.. حلم ولى الأدبار وفي القلب شيء من حتى.
علينا ان ننتبه اخوتي إلى الآتي والحال أننا نصنع التاريخ ذات التاريخ الذي علمتمونا إياه، بل علمتموه للعالم قاطبة، اكيد أنكم أصبحتم مرجعية نضالية غير مسبوقة..اخوتي من ينكر أننا أصبحنا نعيش زمن ديكتاتورية العولمة التي تسعى جاهدة إلى رسم خريطة عالمية جديدة؛ خريطة تبتدئ من البيت الأبيض وتنتهي عند البانتغون المقدس، وليشرب العالم العربي والاسلامي البحار.. ! فإذا كنا غير قادرين على مواجهة الشر بالشر، فبأي حق لا يدافع عنا قادتنا الذين تولوا أمورنا وجردونا من أصواتنا المبحوحة ؟ لعمري كم كانت صادقة سعاد الصباح حين صرخت قائلة:
إن العصفور يدافع عن عشه.
والنحلة تدافع عن خليتها..
والنملة تدافع عن بيتها..
والحصان يدافع عن أنثاه..
والديك يدافع عن دجاجته.
فلماذا يعمل حكامنا على قمعنا، واستهجاننا وترويضنا، ولا يتعلمون من هذه الكائنات الإلهية الذود عن بيتهم وعشيرتهم.. لقد صدقت سبحانك من قائل: «إن شر الدواب عند الله الصم البكم..». ماذا سنقول لأطفالنا وأحفادنا؟ بل ماذا سنقول للتاريخ؟ أمن حقنا أن نسترجع بعد الآن سيمفونية يا زمان الوصل بالأندلس ؟ أمن حقنا أن نتشدق بأننا خير أمة أخرجت للناس ؟ أم تراه من حقنا التغني بالوحدة العربية والشارع العربي اخترقت دماغه أكاذيب مؤتمراتنا التي غدت تتغنى بلغة غير لغتنا، فحنطت الحرية وذبحتها من الوريد إلى الوريد..؟ إنه زمن رديء.. في ظل شعارات وبطولات دونكيشوتية.. في ظل سياسات شتى والضياع واحد.. في ظل تقدميين بلا مبادئ، ومتدينين بلا ديانة.. في ظل كتب سماوية شتى والمعبود أصنام بشرية، الجحيم ارحم منهم ومن تعاويذهم التي لا تصدق إلا نفسها..
يا احبائي في تونس، يا مهد الثورات العربية، يا قلعة الف بوعزيزي وبوعزي،غريب من يرى الشعوب الصغيرة سهلة الابتلاع والاحتواء، وقابلة للترويض شأنها شأن الحيوانات الداجنة.. شعوب تفتقد المناعة والدفاع عن نفسها، فترضى بالأمر الواقع، وتكون بذلك لقمة سائغة بين أسنان الذئاب الجائعة التي لا تقبل بحال من الأحوال أن تظل هذه الشعوب خارج الحضانة المقننة، ويجب عليها هي الأخرى أن تنعم بالحياة والحرية والعيش في طمأنينة وسلام...لقد أثبتت الحقائق التاريخية أن رب بعوضة صغيرة قد تدمي مقلة الأسد، وأن هذه الشعوب مهما كانت صغيرة فإنها تبقى أبدا صامدة، ولا تستسلم للموت وهي تدافع عن حق وجودها.. قادرة أن تنفجر بين لحظة وأخرى، بل  قادرة على الانفجار الذي قد يأتي على الأخضر واليابس.. شعوب سرعان ما تخرج من قمقمها غاضبة مزمجرة حين تشعر بالسيف يتربص خاصرتها، فتعيد ترتيب بيتها، وتعيد النظر في ذاتها، وتلقي جانبا بالاسترخاء والرتابة، فتستنفر قواتها وتجمع شتاتها كي تتأقلم مع حالات الطوارئ التي قد تحمل لهم أكثر من مفاجأة.. شعوب لا يمكن التفكير في محوها من دفاتر الجغرافيا والتاريخ، بل لا يمكن اقتلاع جذورها وجعلها ترضى بالأرض المحروقة لأنها تستطيع مهما كان التنكيل والتقتيل والاحتراق أن تنبعث من الرماد شأنها شأن طائر الفينيق...
ترى ما هول الصدمة التي استطاعت أن تقود البوعزيزي الى الاحتراق وخليل حاوي إلى الانتحار..؟ احتراق وانتحار من يرى بيته ينهار فوق رأسه والعالم الاخرس لا يقوى على الإدانة التي أصبحت نصا مفتوحا على أكثر من دلالة، فانتصرا معا على الموت الرمزي بالموت الحقيقي، وأدين التاريخ في حضرة سياسة الكيل بالمكيالين، وأصبح الانتصار فضيلة بين رذيلتين «التهور والجبن».. ولم نعد ندري من انتصر على من؟ ومن تخاذل ضد من؟ فقلنا لعلهما أرادا أن يكنها ذاتهما المنهارتين حتى لا يؤسسا لقانون «أعطني خدك لأصفعك».. هكذا  اخواني في تونس العذراء اختلطت المفاهيم وتشابكت الفضائل والرذائل، واختلت الموازين، فصمت من صمت، وتقهقر من تقهقر، وجن من جن، وانتحر من ضاق ذرعا بالشر الذي بدا يغزو اوطاننا الجريحة.. وهكذا أصبح المتلقي المثقل بالمفاهيم والمصطحات يبحث له عن خلوة وهروب يجردانه من نقمة المعرفة ويكللانه بنعمة الجهالة الجهلاء كي يستريح قليلا من نقمة لعنة الأخبار التي تأتيه من كل صوب وحدب.. أليس من حق الإنسان المنهزم أن يفر من ذاته وتاريخه وجغرافيته وأقربائه وخلانه، وأن يجلد النفس الأمارة بالسوء خشية اعتقالها للمرة الثانية في أحضان الجسد المتلاشي؟ هل أخطأ سقراط  حين شرب السم مبتسما؟ وهل صدق عبد الله بن الزبير حين جاء أمه يشكوها بثه وحزنه قائلا: 
قد خانني الصحب والزمان فمالي غير سفي المطبوع
فصاحت قائلة: «عش كريما أو مت كريما» ولم تذرف دمعة واحدة حين رأته معلقا على باب المدينة، فرددت بشجاعة الأم المكلومة:« أما آن لهذا الفارس المغوار أن يترجل؟».. ما اشبه اليوم بالبارحة يا أم البوعزيزي، يا أم كل التونسيين..يا أم كل المعذبين في الارض العربية..
لم يكن مظفر النواب ناقما، ولا نرجسيا، ولا دونكيشوتيا حين صرخ غير آبه بما قد يأتي: « فحظيرة خنزير أطهر من أطهركم...»، إنها نفس صرخة البوعزيزي والمقهورين وهم يرون كبرياءهم ممرغا في الوحل العربي.. صرخة من داسته نعال الحاكم العربي كما تداس أقدس المقدسات ولا من مستغيث.. صرخة من تعرى في واضحة النهار ولا من يواري سوءته المستباحة.. صرخة من يبتهل إلى الله قائلا:« ريبي انهزمت فانتصر..».. سلاما عليك تونس، سلاما على البوعزي يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حيا....
الدكتور عبد السلام فزازي/ المغرب