راشد القاسم في قلبِ دمشق، حيث تلتقي الأزقَّةُ الضيِّقةُ مع معمارٍ يخطفُ الأنفاسَ، كان فنُّ العمارةِ الدمشقيِّ يشعُّ بألوانهِ الزاهيةِ، ويغني تفاصيلَ كلِّ بيتٍ وفناءٍ. لكنَّ هذه الروحَ الدمشقيةَ لم تبقَ محصورةً بين أسوارِ المدينةِ، بل تحوَّلت مع مرورِ الزمنِ إلى جسرٍ يمتدُّ إلى الأندلسِ، حيث التقت حضارةُ الشرقِ مع الغربِ، ونسجت معمارًا جديدًا ينبضُ بروحٍ دمشقيةٍ أصيلةٍ. كان الفناءُ الدمشقيُّ في قلبِ البيوتِ القديمةِ مثلَ نبعٍ يتدفقُ بين الجدرانِ، ينفتحُ على السماءِ، كما لو أن السماءَ نفسها جزءٌ من البيتِ، حيث تتوسطه نافورةُ ماءٍ رقيقةٍ تعكسُ ضوءَ الشمسِ، وتغني المكانَ بحفيفِ الأشجارِ والنقوشِ الخشبيةِ المعقدةِ التي تزيِّن الجدرانَ. في دمشق، كان البيتُ يحملُ روحًا منفتحةً على الطبيعةِ، تتنفسُ مع كلِّ زهرةٍ في فناءِه، ومع كلِّ قطرةِ ماءٍ تنسابُ في نبعٍ داخليٍّ. في الأندلسِ، أضاءت هذه الفكرةُ المعماريةُ نفسَ السماءِ، حيث كانت البيوتُ الأندلسيةُ تحملُ ذاتَ الفلسفةِ: فناءٌ واسعٌ يتوسطه حوضُ ماءٍ، تعكسُ مياههُ ضوءَ الشمسِ وتنثرُ البهجةَ في الفضاءِ، بينما كانت الأعمدةُ المزخرفةُ والنقوشُ العربيةُ تزيِّنُ الأسطحَ، متشابكةً مع الزهورِ المتسلقةِ لتكونَ مثلَ لوحةٍ فنيةٍ تغني بتفاصيلِها. إذا اجتزتَ الشوارعَ الضيِّقةَ في «دمشقَ القديمةِ»، ستجدُ أن الجدرانَ ليست فقط مغطاةً بالجصِّ والزخارفِ، بل كانت كلُّ زاويةٍ تحكي قصةً من الجمالِ المعماريِّ، في تداخلٍ واضحٍ بين التوازنِ بين الوظيفةِ والجمالِ. كان لكلِّ منزلٍ، من بابِ توما إلى القيمريةِ، سحرُهُ الخاصُّ، حيث تلتقي الأعمدةُ المنحوتةُ في الداخلِ مع الفناءِ المفتوحِ الذي يمنحُ الضوءَ للغرفِ، فتكتملُ الصورةُ بلمسةٍ من الحياةِ الطبيعيةِ التي تحتلُّ كلَّ زاويةٍ. هذا الإبداعُ الدمشقيُّ، بنقوشهِ المعماريةِ الفريدةِ، كان هو نفسه الذي ارتحلَ إلى الأندلسِ ليصبحَ جزءًا من قصورِ غرناطةَ وقرطبةَ. في قصرِ الحمراءِ، على سبيلِ المثالِ، تتناغمُ الأعمدةُ المزخرفةُ مع النوافيرِ التي تتوسطُ الفناءاتِ، ليبدو كأنه امتدادٌ طبيعيٌّ للفنِّ الدمشقيِّ نفسه. الزخارفُ الهندسيةُ الدقيقةُ، التي كانت تزيِّنُ جدرانَ دمشقَ، تكرَّرتْ هنا لتشكِّلَ لوحةً فنيةً سابحةً في الضوءِ والماءِ. أما في قرطبةَ، فقد امتزجت روحُ دمشقَ مع عبقِ الأندلسِ في البيوتِ التي كانت تضمُّ الزخارفَ الخشبيةَ المنقوشةَ بأسلوبٍ يعكسُ السحرَ الدمشقيَّ، حيث النوافذُ المشبكةُ تعكسُ أضواءَ النهارِ في الفناءِ الذي يعجُّ بالخضرةِ. بيوتُ قرطبةَ، مثلَ تلكَ التي كانت في دمشقَ القديمةِ، كانت تحاكي التوازنَ المثاليَّ بين الداخلِ والخارجِ، حيث الزهورُ تزيِّنُ الحوافَ والنافوراتُ تروي الأشعارَ بنغمةِ مياهِها الجاريةِ. لقد أخذَ المهندسونَ الأمويونَ في دمشقَ من الجمالِ ما استطاعوا حملَه، ثم زرعوه في قلبِ الأندلسِ، ليجدوا له في القصورِ الأندلسيةِ مكانًا يليقُ به. في القصورِ، كان الضوءُ يعكسُ صورًا دمشقيةً حيةً على جدرانِ القصورِ الملكيةِ، والنقوشُ التي زيَّنتْ المساجدَ في دمشقَ أصبحتْ تزيِّنُ الأروقةَ الأندلسيةَ، فكان للعمارةِ الإسلاميةِ طابعها الخاصُّ الذي امتزجَ بين جمالِ الشرقِ وروحِ الغربِ. هكذا، استمرَّ الإبداعُ الدمشقيُّ في التأثيرِ في معمارِ الأندلسِ، وكان هذا التبادلُ الثقافيُّ بين الشرقِ والغربِ بمثابةِ شريانٍ حيويٍّ ربطَ بين العوالمِ، ليظلَّ معمارُ دمشقَ شاهدًا على روحٍ معماريةٍ واحدةٍ، تقطعُ المسافاتَ بين الأزمنةِ والأمكنةِ، وتُشكِّلُ لوحةً فنيةً متكاملةً.