|
عرار:
د. عمر الخواجـا هل انتهى زمن القصة القصيرة؟... من خلال متابعة المشهد الثقافي على السّاحة الأدبية الأردنية يُمكننا ملاحظة أنّ فنّ القصة القصيرة كشكل أدبيّ مميّز يُعاني من مأزق حاليّ تظهر ملامحه من خلال قراءة النماذج القصصية الحديثة المتواضعة كمّا وكيفا أو من خلال ما نراه منعزوف كتّاب القصة القصيرة عن إصدار مزيد من مجموعاتهم القصصية ممّا يشيرُ لحالة من التوقف عن كتابة القصة والتوجه نحو ساحة أخرى من ساحات الابداع الأدبي، فبعض كُتاّب القصة القصيرة لم يجدوا صعوبة في اقتحام ميدان الرواية نظراً لما يحظى به هذا الجنس الأدبيّمن اهتمام نقديّ وجوائز أدبية عديدة وترحيب كبير من دور النشر المختلفة والجهات الداعمة للعملية الأدبية ،ومن الأدباء كتاب القصة القصيرة من وجدوا في الشكل الأدبيّ المُسمّى (القصة القصيرة جدا: ق ق ج ) وجهة مفيدة لهممحاولين جعل هذا الشكل من الفن القصصي يحلّ مكان القصة القصيرة ذات الحكاية الواضحة حيث اكتشفوا انهم يستطيعون بكلمات معدودة تفصيل الفكرة ووضعها في قالب سرديِ يختلط فيه الشاعري بالمباشر والايقاع بالضجيج والمعلوم بالمجهول ... وبعيدا عن محاولة فصل الاجناس الأدبية أو اتباع قوالب نمطية جاهزة أو مدارس نقدية معينة لا يمكن للرواية مهما صغر حجمها أن تحلّ مكان القصة القصيرة كما لا يمكن للقصة القصيرة جدا ذات الكلمات المعدودة أن تكون بديلا عن القصة القصيرة مهما احتوت من عناصر ايقاعية أو زمنية أو مكانية ومهما استخدمت من كلمات شـاعرية او جمل أدبية تصويرية ..نحن لسنا في معرض توجيه نقد أو لوم لكتاب القصة القصيرة ومبدعيها ولكنّها محاولة بسيطة للإجابة عن التساؤل المطروح : أين واقع القصة القصيرة على الساحة الثقافية الأردنية والتي تميزت في أواخر القرن الماضي بإنجازات قصصية تركت أثرا واضحا في الحركة الأدبية ولمعت من خلالها أسماء أدبية مميزة ؟ يمكننا أن نسرد كثيرا من المبررات الواقعية التي أدت لتراجع ملحوظ في أهمية القصة القصيرة وحدت بالكتّاب والنّقاد والمهتمين للابتعاد قليلا عن الاهتمام بهذا المجال مما جعل من فن القصة القصيرة فنّاَ يعاني أزمة في الابداع والنقد والقراءة ربما يمكننا القول أن الشكل الادبيّ المعروفبالقصة القصيرة يعتبر من قائمة السهل الممتنع والذي يحتاج لكثير من الخصائص الفنية كي يحوز على إعجاب القارئ أو رضى الناقد ، فلا الحكاية وحدها تستطيع أن تجعل من القصة نصّا ناجحا ولا اللغة المتقنة يمكن أن تجعل من نجاح القصة القصيرة أمرا محتوما وحتى الاختزال والتكثيف يجب أن يكون محسوبا بدقة متناهية وإلا ساهم في هبوط مستوى السرد فنيا وشكليا ، وتحتاج القصة القصيرة للمضامين الإنسانية والاجتماعية والفكرية ولكنها لا تستطيع استيعاب المباشرة والسطحية والوعظ والإرشاد ومن هذه المنطلقات المختصرة يمكننا أن ندرك أنّ تجويد القصة القصيرة يحتاج من القاصّ جهدا فكريا وإبداعيا وفنيّا كبيرا بينما تعطيه الرواية مساحات شاسعة للوصف والاسهاب والشرح والتضمين والتعليق وتُمكّنه القصة القصيرة جدا من التّحايل على الضرورة الفنية للحكاية وتعويضها بالإيقاع والاقتراب كثيرا من النّسـق الشعري ولكننا نلاحظ أنّ كثيرا من الروايات المتداولة لا تعدو كونها صفحات من الخواطر والهواجس والأحلام والتّطلعات والكثير أيضا من القصص القصيرة جدا تقترب من كونها كلمات متباعدة تحاول أن تُشكّل ومضة سردية تفتقرُ للفكرة والشّكل والمعنى، ويمكن لنا أن نؤكد بأن الأوضاع السياسية الحالية والتغيرات الثقافية المفاجئة والاختراعات التقنية الهائلة وما يعتري واقعنا المعاش من تقلّبات غير خاضعة لمنطق أو نسق معروف ساهمت في ابتعاد القارئ عن الكتابات ذات الأسلوب المعقد والتي تحتاج لجهد وتعامل إبداعيّ خاص وتوجههُ نحو الكتابات ذات الأفكار السهلة أو الطروحات الخيالية البعيدة عن الواقع، لقد ساهمت التغيرات التكنولوجية في مجال التواصل الاجتماعي والنشر الالكتروني في جعل الفكرة أكثر قابلية للنشر وأسرع للتداول بين الكتاب والقراء وعامة الناس، ان العصر الحالي الذي يتميز بالتغير السريع جلب معه مزيدا من التغيير على الواقع الثقافي والوضع الأدبي حيث حظيت بعض الأشكال الأدبية بمزيد من الاهتمام والمتابعة وصولا لتربع الرواية على عرش السرد وتراجع الاهتمام بالشعر الذي كان ديوانا للعرب ومستودعا لأخبارهم ومسرحا لحكاياتهم ومعبرا عن آلامهم وآمالهم وأحزانهم وأفراحهم وأصبح ميدانا لبعض النخب الثقافية للاستمتاع والدراسة والذكريات ... وضمن نفس السياق من التراجعات الأدبية تراجعت القصة القصيرة تراجعا ملحوظا وكبيرا من حيث الكم والكيف وبدت كأنّها تعيش آخر لحظاتها الجميلة حتى شعرنا أن تلك الحقبة التي تصدرت فيها القصة القصيرة ساحة الاهتمام النقدي كانت حلما بعيدا عن الواقع والحقيقة. يقول الدكتور عبد الرحيم الكردي أستاذ النقد الحديث بكلية التربية جامعة قناة السويس في كتاب البنية السردية للقصة القصيرة مكتبة الآداب – القاهرة الطبعة الثالثة 2005في مقارنته ما بين الرواية والقصة القصيرة من حيث الشكل والمضمون (.... فالقصة القصيرة لا يمكنها أن تتناول الحياة برمتها لشخص واحد أو لعدة أشخاص وتجعل من هذه الحياة إطارا لها كما تفعل الرواية ، بل تتخير شريحة واحدة من هذه الحياة أو جزئية واحدة من هذه الشريحة ثم تسلط عليها الأضواء وتجعل من صورة هذه الشريحة أو هذه الجزئية والحدث الذي يتخللها مادة لها –كما سبق القول- انها لا تجعل من هذه الشريحة إطارا فنيا يحكم تركيبها ، بل تنتقي منها الخيوط والألوان والظلال التي ترسم صورة لها وتحكي الفعل المتعلق بها والمعبر عنها وتمزجهما معا فتأتي القصة معبرة لا عن هذه الجزئية فقط بل عن الحياة كلها ولكن من خلال رؤية واحدة هي رؤية الكاتب ومن خلال مقطع واحد هو هذه الشريحة ومن ثم فإنّ القصة القصيرة أكثر إحكاما وتركيزا من الرواية ... ص 108 ) ويؤكد الدكتور عبدالرحيم الكردي في كتابه المذكور سابقا حقيقة صعوبة فن القصة القصيرة وحاجته لكثير من التركيز والذكاء والثقافة كي يستطيع القارئ أن يدرك مقاصده وأسراره ويصل لبعض مراد الكاتب ، ومن هنا يمكننا أن نميّز بين قارئ الرواية وقارئ القصة ( ... ومن ثم فإنّ قارئ القصة القصيرة يختلف عن قارئ الرواية ، إذ أنّقارئ القصة القصيرة – كما يقول الدكتور صبري حافظ – لا بدّ أن يكون مرهف الحس متوقد الذكاء فالأقصوصة تفترض أن كل الاشكال التعبيرية القديمة مستحضرة في ذهن القارئ ومتعارف عليها وتكفي اللمحة الواحدة لاستحضار صورتها أو موضوعها ... ص 109 كتاب البنية السردية للقصة القصيرة ) ...ان هذه المقارنة المميزة بين قارئ الرواية وقارئ القصة القصيرة تجعلنا ندرك ان المتلقي الحالي للمنتج الأدبي ليس لديه الوقت الكافي لفكّالغاز القصة القصيرة وإعادة تجميع أطرها المختلفة للوصول لما أراده الكاتب من أفكار وأحداث وعبر... لقد أدرك كثير من النقاد ما تعانيه القصة القصيرة حاليا من وضع شائك حتى ان بعضهم تنبأ باختفاء هذ الفن الأدبي مستقبلا واندماجه ضمن خطوط الرواية نظرا لأنه لا يمتلك شخصية محددة او تعريفا فنيا كاملا فلقد اخذ هذا الشكل الادبي بعضا من خصائص الرواية والشعر والمقالة ان الآراء النقدية التي تتنبأ بموت القصة القصيرة لا يمكن أن تجد كثيرا من التأييد والموافقة بين الكتاب والنقاد والقراء ولكنّها رغم ذلك تحمل في رؤيتها الحادّة كثيرا من التبريرات المنطقية التي بنيت على ما آلت اليه القصة القصيرة والتي تعتبر جنسا أدبيا هاما من المفروض أن يحتل مساحة هامة من اهتمامات الساحة الثقافية ولكنّه حاليا يواصل خسارة كثير من القراء والمتابعين والنّقاد والكتاب ، يقول القاص الروائي العراقي رياض الفهد ( القصة القصيرة ستبقى حية على مدار الزمن رغم اعترافنا أن الرواية بدأت تتفوق عليها بشكل كبير وواضح ، لكن تبقى القصة القصيرة محافظة على استمراريتها وديمومتها كونها جنسا فعالا بين الاجناس الأدبية ولن يتحول هذا الجنس المهم الى جنس هامشي في الثقافة والادب ..... صحيفة الخليج 21/11/2008 ) وهناك رأي نقدي يشير ان الوضع الذي تعانيه القصة القصيرة هو وضع طبيعي ضمن مرحلة التطوّر التي تمرّ بها معظم الأشكال الأدبية فالدكتور يوسف وغليسي يشير - في كتابه مناهج النقد الادبي الحديث جسور للنشر والتوزيع الجزائر- لرأي الناقد الفرنسي فرديناندبرونتيار 1849- 1906 الذي حاول تطبيق نظرية دارون في تطور الكائنات الحية على الأنواع الأدبية (... فكما تطور القرد الى انسان تطور الادب كذلك من فن الى آخر وقد الف كتابه تطور الأنواع الأدبية سنة 1809 على غرار كتاب أصل الأنواع لداروين حيث رأى أن الآداب تنقسم الى فصائل أدبية مثلها مثل الكائنات الحية وأنها تنمو وتتكاثر متطورة من البساطة الى التركيب في أزمنة متعاقبة حتى تصل الى مرتبة من النضج قد تنتهي عندها وتتلاشى وتنقرض كما انقرضت بعض الفصائل الحيوانية .... ص 17 ) الرأي المقابل لنظرية موت القصة القصيرة نقرأ للدكتور محمد عبيد الله في مجلة فيلادلفيا الثقافية العدد 6 /سنة 2010 ضمن ملف القصة القصيرة طرحا نقديا هاما ( ... ومن ناحية المبدأ فإن كل الأنواع والأجناس الأدبية معرضة للتغير والتحوّل والتقدم والتراجع ولكن قلما تصل الأنواع الأساسية إلى حالة الموت أما حالة القصة القصيرة فمختلفة تماما ... الظروف التي أنتجت هذا النوع لم تزل مستمرة ولم تجر تحولات كبرى تؤدي إلى اختفائه أو موته وعالم اليوم عالم قصصي بامتياز فهو عالم الحالات والتمزقات والتكسرات عالم (الإستيحاش) وعزلة الفرد وتمزق الجماعات والهويات وكلها من الأمور الأساسية رؤيويا في نوع القصة القصيرة ... ص 45 ) ان هذا الرأي المضاد لمقولة موت القصة القصيرة والذي يحمل مرافعة نقدية هامة دفاعا عن فن القصة القصيرة لا يجيب عن سؤال الأزمة الحالية للقصة أو عن سبب هذا العزوف الكبير من الأدباء عن التشبث بهذا الجنس الأدبي كتابة وإعجابا فنحن ما زلنا أمام التساؤل الأول دون إجابات قاطعة تحمل في ثناياها تنبؤات حادة بموت او استمرار هذا الشكل الأدبي ولكننا لا يمكن ان نغلق أعيننا عما نراه من نجاح فن الرواية في احتواء القصة القصيرة وتجاوزها مما يسجل كنجاح يضاف للفن الروائي بعد ان نجح في تنحية الشعر عن مكانته الأولى كديوان العرب الأول ومصدر الحكمة وموسيقى الكلمة ... وعند رؤيتنا للمرحلة الذهبية للقصة القصيرة نجد ان معظم النقاد قد تحاشوا طرح تعريف كامل للقصة القصيرة بل تم ترك هذا الشكل الادبي كظاهرة فرضتها العوامل السياسية والثقافة والاجتماعية وحتى قضية الشكل من حيث الطول او القصر فلم يتم اعتماد حجم او طول معين للنص القصصي تتحول بعده القصة لرواية بل ترك الامر للكاتب ان يكتب فكرته القصصية ضمن ما شاء من صفحات او كلمات ما دام قد أطلق على نصه الأدبي مسمى قصة قصيرة وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر إشكالية موضوعية فعندما تحرر الشعر من شكله الكلاسيكي العمودي اصطلح النقاد والشعراء على تسميته بالشعر الحديث او الشعر الحر ولم تستطع القصة القصيرة ان تصنع قواعدها الشكلية فقد وجد كتاب القصة القصيرة ان هذا الاطار الفضفاض هو ما سوف يخدم فن القصة القصيرة لكي نجد حاليا ان هذه الميزة هي السبب في تمكن الفن الروائي من تنحية الفن القصصي عن دائرة الاهتمام الادبي والنقدي. ان الدور الذي كانت تؤديه القصة القصيرة لم يكن دورا فرعيا أو تابعا لجنس أدبيّ آخر بل من المفروض ان تجسد القصة القصيرة عالمها الخاص من خلال تميزها واختلافها عن باقي الفنون الأدبية السردية من حيث قدرتها الضرورية على الوصول بالقارئ نحو الفكرة بشكل رئيسي بعيدا عن التشابك والتفرع والتعقيد الذي تحتويه الرواية وبعيدا عن المباشرة والتسطيح والوضوح الذي تقوله المقالة او الخاطرة حيث ينقل الكاتب المغربي ( محمد الخطابي ) في مقال له بعنوان ( القصة القصيرة في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر ) في صحيفة القدس العربي ( 16/8/2020 ) عن الناقد المكسيكي ( ليوناردو فوينتيس ) قوله عن قراءته لمجموعة كبيرة من القصص اثناء اعداده انطولوجيا عن القصة القصيرة الكوبية في القرن العشرين ( ... عندما كنت أبدأ في قراءة أي من هذه القصص يحدث عندي إلغاء تام للعالم الخارجي ، وأعيش وكأنني واقع تحت تأثير سحري في حياة تلك الشخصيات الأدبية ، ويُخيّل لي أنهم قريبون مني وأحياء بواسطة تلك الصفحات القليلة التي تدور فيها أو عبرها قصصهم التي أمكنها أن تخلق لي وجودا مستقلا التهمها فيه بشكل لم يسبق له مثيل من قبل ، وكانت عملية القراءة في حد ذاتها نوعا من الهيمنة أو الامتلاك أو كبح النفس ) ... من الملاحظ ان معظم الدراسات النقدية تعطي لقارئ القصة القصيرة دورا مهما في التعامل مع النص القصصي فعلى هذا القارئ امتلاك أدوات إحساس تستطيع فك أسرار النص القصصي والوصول لفكرته والاستمتاع بجماليته وهذا الدور المهم قد يكون سببا في ما يشبه حالة العزوف والإهمال التي تعيشها القصة القصيرة من القارئ والناقد على حد سواء ، مرة أخرى الى هل انتهى زمن القصة القصيرة ؟ لا يمكننا الجزم باستمرار أو اختفاء هذا الشكل الأدبيّ ولكننا نؤكد انه يعيش مرحلة صعبة تحتاج من مُؤيديه ومبدعيه مزيدا من الاهتمام والإصرار والابداع. المصدر: جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 05-10-2021 09:01 مساء
الزوار: 808 التعليقات: 0
|