|
عرار:
كتابة المذكرات الشخصية ليست بالأمر السهل، وليست كل المذكرات تنفع كي يكتبها أصحابها، فبعض المذكرات ليست ذات قيمة إن لم تتضمن أحداثا في فترة المذكرات، ومواقف تاريخية، ومذكرات عطية عبدالله عطية التي وضعها في كتابه (حياتي بين يديك)، الصادر عن دار يافا العلمية للنشر والتوزيع، وهو مؤلفه الثالث والعشرين، ليست مجرد ذكريات ويوميات وأحداث عبر رحلة زمنية مر بها، إنها تاريخ بحد ذاته ، امتدت من عام 1939 إلى عام 2021، وثق فيها الكثير من الأحداث والكثير من المواقف، فكان ينقصها السيناريو لتصاغ مسلسلا يتحدث عن سيرة هذا الرجل الأديب والروائي. (حياتي بين يديك) كما أسماه، كتاب يعد تغريبة خاصة في سياق عام، جاء كما وضعه، وكما قال: «وما دمت أستشعر الأمل فأنا حي.. وما دمت أعمل فأنا حي وما دمت أكتب فأنا حي». تظهر لك في أولى صفحات الكتاب خارطة فلسطين العربية ثم صورة لبلدته «عين كارم» التي ولد فيها عام 1939، وصورة لجده المختار محمد عطية نعواش، وصور أخرى لبيت المقدس وبيت لحم وبيت ساحور وعدة صور أخرى ارتبطت حياته بتلك الأماكن، وتفاصيلها في الكتاب، ثم يبدأ إهداءه الى روح جده وجدته وأبيه وأمه، لما لهم من فضل عليه في تربيته وتأديبه وتعليمه، ثم يهدي كتابه لأبنائه وأحفاده وزوجته والى القراء. ثم تظهر لك المقدمة الطويلة المقسومة الى ثلاثة أجزاء، وهي كما قال عنها أنها جزء لا يتجزأ من موضوع الكتاب. جاء القسم الأول من المقدمة تحت عنوان (حرية التعبير)، والتي يقول فيها – وهو الذي تجاوز الثمانين، أطال الله في عمره: « سأضع حياتي على بساط الحديث بين يديك وأمام ناظريك وفي مكان قريب من قلبك ووجدانك ومشاعرك، وفي متناول فهمك وإدراكك، بأمانة وعدالة وشفافية وصدق، قبل كل شيء، حيث أني لا أرمي من وراء ذلك الا أن نتكاتف أكثر ونتقارب أكثر ونحب بعضنا أكثر». وفي القسم الثاني من المقدمة والتي جاءت بعنوان « عن أي هموم نكتب؟» يحاول أن يبين لماذا كتب عن نفسه وهو ليس من علية القوم ولا هو صاحب قرار عام ولا حتى صاحب قرار خاص مترامي الأطراف. ثم برر قيامه بذلك بأنه سيكتب عن الخبرات والتجاوزات والتجارب الخاصة، والمعاناة الشخصية الخالصة، والتي هي ليست بعيدة عن هموم ومصاعب العامة، والرابط بينها، الخاصة والعامة، وثيقة كل الثقة، ولا مجال للفصل بينهما، فلا غنى للواحدة عن الأخرى. ويواصل متحدثا مع القارئ: فتجاربي وخبراتي إذن لن تكون بعيدة عن تجاربك وخبراتك، مشيرا الى أنه سيكتب عن الجهاد الأكبر الذي هو مجاهدة النفس والسهر على رعايتها وحمايتها، وسيكتب عن الهم الوطني الذي يشغل بال الفلسطينيين. ويواصل عطية مقدمته في جزئها الثالث والأخير تحت عنوان « الحال واحد» الذي أشار فيه الى أنه كتب هذه التغريبة بأسلوب روائي أدبي جامع لكل مقومات العمل الأدبي والشامل. ويقول: ستقرأني، كلمة كلمة، سطرا سطرا، وصفحة بعد صفحة، فقد يثيرك ما تقرأ ما يثيرك، ويهدؤك ما يهدؤك، ولكني على يقين أنك لن تتخذ مني موقفا فليس لدي ما أخفيه عنك وليس فيها ما يؤذيك أو يضرك. ويبدأ عطية تغريبته بالباب الأول متحدثا عن المرحلة الأولى في بلدته عين كارم (1939- 1948) وأسماها «ذاكرة وطن بامتياز»، وقد تحدث في هذا الباب عن ولادته ونشأته وعن طفولته التي عايش خلالها الحرب العالمية الثانية بين أعوام 1939 وعام 1945، ثم تطرق الى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ثم حرب 1967 ثم تحدث عن معركة الكرامة عام 1968، وهو يريد القول أنه شهد سنوات متتالية من الحروب التي عاش ظروفها وأحداثها وألمح الى الحروب الأخرى كحرب 73 والحروب على جنوب لبنان وغيرها، وهذا كله جاء في الجزء الأول من الباب الأول الذي جاء بعنوان (أبناء الجيل الغاضب). وفي الجزء الثاني من الباب الأول والذي جاء بعنوان (يافاوي يا برتقال) وهنا ينطلق الحديث عن طفولته وذكرياته، ثم جاء الجزء الثالث من الباب الأول بعنوان (كمباز الجوخ)، ثم الجزء الرابع (الحفيد الضائع) والذي تحدث عن ضياعه حين ذهب للصلاة في الأقصى مع جده لأول مرة، وهي الحكاية التي جسدها في رواية للأطفال أصدرها عام 1985، وتوالت أجزاء الباب الأول على النحو التالي: القط الأشقر، البيت الذي أسلم، الدكتور شور، الشيخ أحمد، أمر ساعات الفراق، وهنا تحدث عن خروجه وأسرته وهو في عمر تسع سنوات من بلدته عين كارم. ثم يذهب عطية عبدالله عطية بنا الى المرحلة الثانية في بيت ساحور بين أعوام 1948- 1958 وأسماها (طفولة مهجرة بلا أجنحة)، وانقسمت هذه المرحلة الى أحد عشر جزءا حملت العناوين التالية: حقل الرعاة، دموع بلا ثمن، وأصبح الوطن حلما، شحادين بالمزاد، بداية السنين العجاف، شرارة من نوع آخر، الجرح لم يندمل بعد، ضالتنا والجنس اللطيف، العودة الى الوراء، بين الفطرة والفقر. وكما نلاحظ فإن كل عناوينه الفرعية لكل مرحلة أو محطة هي عنوان روائي بحد ذاته، فعطية عطية تسلسل بالأحداث مع القارئ فهو كأنما يقدم لك رواية بأسلوب مذكرات، وبطريقة أدبية سليمة، سلسة، مشوقة، يجعلك تتخيل الأحداث كما يرويها وكأنك جزء منها تعيش لحظاتها وتفاصيلها، وهذا أسلوب يحسب له، حتى لا يشعر القارئ بالملل. ثم ينتقل بنا الى المرحلة الثالثة من الباب الأول وعنوانها (فندق الأردن انتركونتيننتال) وهي الفترة من 16-6-1958 الى 7-6-1982، وانقسمت هذه المرحلة الى 20 جزءا، أذكر منها العناوين التالية: قبلت بما لا أقبل، الحلم في عالم الغيب، وجاء الفرج على مضض، الوظيفة والسراب، الدخول في عالم المستودعات، العهر والفجر، البرامكة في فندق الأردن، فاطمة.. وبراكين الشوق، القطة السوداء، وغيرها من العناوين التي تحدث فيها عن رحلته العملية في فندق الأردن والأحداث التي مرت معه في تلك الفترة، إضافة الى ذكريات خاصة وصفها بدقة ومشهدية عالية، سياسيا واجتماعيا . ثم انتقل الى المرحلة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة وكلها حملت عناوين لمحطات مختلفة من مراحل حياة الكاتب التي أشار فيها الى أحداث عديدة في أماكن عديدة ، قبل أن ينتقل الى باب خاص ، وإن لم يعنونه على أنه باب، فبعد الباب الأول الذي احتوى كل المراحل السبعة السابقة بكل تفرعاتها، يأتي جزء تحت عنوان (زمن الكورونا وزمن الفجور العربي) واحتوى هذا الجزء أو الباب أربعة عناوين هي: حالة بعضها من بعض، رب ضارة نافعة، الطريق الى المدينة المنورة، في وحل أسن. واختتم الكتاب بباب أخير أو جزء أخير جاء بعنوان (الحياة الأدبية أو الوجه الآخر)، وحمل العناوين التالية: قبية والبلاء الحسن، وذات يوم، أسماء في الذاكرة، عين كارم الحقيقة والحلم، ناصية الفكر وناصية الكلمة. ثم وضع سيرته الذاتية الحافلة بالإنجازات والعطاءات وهي مختصر للكتاب، فالكتاب ما هو إلا تلك التفاصيل الدقيقة من سيرته الشخصية، ثم وضع الكاتب قائمة بمؤلفاته الثلاثة والعشرين، واختتم الكتاب بعدة صور من الذكريات كما بدأ الكتاب. لم أشأ كتابة تفاصيل كل مرحلة أو أن ألمح لها مطولا تاركا المجال لمن يودون قراءة المذكرات والسيرة الشخصية الاستمتاع بتلك التفاصيل التي عايشت الحياة الاجتماعية والسياسية التي عاشها الكاتب، وتلك المواقف المتنوعة التي تكشف الكثير من جوانبه الشخصية، لكن الكتاب كان حقا تغريبة أدبية درامية كتبت وصيغت بفنية عالية الحس وجودة اللغة وسلاستها. المصدر: جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-08-2021 11:54 مساء
الزوار: 1255 التعليقات: 0
|