البنيات المخاتلة في الرواية التسجيلية: «نزلاء الحرّاش» للحبيب السايح أنموذجًا
عرار:
د. أحمد زهير رحاحلة – جامعة البلقاء التطبيقية تبرز التسجيلية في الرواية العربية بوصفها تجليا من تجليات الكتابة السردية المرتكزة على نزوع لتوثيق الأحداث والوقائع، أو تقديم شهادة عليها، أو تفسير لها، أو لتسليط الضوء على بعضها زيادة على بعضها الآخر، وهو ما قد يجعل الرواية التسجيلية مختلفة نوعا ما عن غيرها من الروايات، وتحتاج إلى مخاتلة فنية وبراعة من كاتبها لإخراجها من سطوة التوثيق الاجتماعي والتأريخي وتأثيثها تأثيثا فنيا، ويمكن لنا من خلال الرجوع إلى الأطر النظرية الخاصة بالأدب التسجيلي أو ما يسمى أحيانا «بالأدب الريبورتاجي» أن نتلمس الصعوبات التي ترافق كتابة هذا اللون الأدبي والانتقادات الموجهة إليه. رواية «نزلاء الحرّاش» هي أحدث روايات الروائي الجزائري الحبيب السايح وختام ثلاثية في هذا السياق، اعتبرها السايح «تكملة وخاتمة لمشروع آخر مختلف عن مشاريع كتاباته السابقة ذات الصلة بالمحنة الوطنية وما خلفته من آثار نفسية عميقة في وجدان الشعب الجزائري وبتاريخ حرب التحرير وثيمة الهوية، بدأ برواية « من قتل أسعد المرّوري؟» وتبعها برواية «ما رواه الرئيس»، والرواية التي أخذت تسميتها من معتقل «الحرّاش» الجزائري بسمعته السيئة، وحكاياته المؤلمة، توثق للعقود الأخيرة من تاريخ الجزائر الحديث، وتبرز بصورة أساسية محنة الإرهاب والتناحر في هذا البلد، إلى جانب الفساد المستشري في مفاصل الدولة والذي انتهى بثورة كانت حتمية في وقوعها من منظور الكاتب، ولا مخالفة لمن يرى أن هذه الرواية تندرج ضمن ما يعرف «بأدب السجون» ولا يلغي النظر إلى أنها تمثل الرواية التسجيلي، فأدب السجون – كما يراه كثير من النقاد – أدب تسجيلي. في الرواية التسجيلية يصبح الحدث الحقيقي هو القوة الفاعلة والمحركة للعمل الروائي، وذلك يعني الاقتراب الكبير من الواقعية التسجيلية، وهي على المستوى الفني مغامرة محفوفة بالمخاطر، فمعرفة القارئ المسبقة للوقائع ونتائج الأحداث سيقف عائقا في وجه التخييل الذي تنزع الرواية إليه دائما، ويجعل العناصر السردية الأخرى، كالشخصيات والزمان والمكان وغيرها مؤطرا في فضاء معلوم ومحدود، وهذا كله وزيادة ما دفع الحبيب السايح لتوظيف مجموعة من الحيل والأساليب البنائية التي تنهض بنزلاء الحراش إلى مصاف الروايات الفنية المتكاملة، ويمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو الآتي: نجح الحبيب السايح في «نزلاء الحراش» في الموازنة بين الناحية التوثيقية والناحية الفنية من خلال امتلاكه لوعي مزدوج بين أهمية الوظيفة التسجيلية والوظيفة الجمالية، فنجده يقصد إلى الإيهام بالواقع من خلال التأشير إلى الحقائق، فيذكر بعض الشخصيات والأماكن بمسمياتها الصريحة، ويسرد بعض الوقائع الحقيقية بتواريخها، دون مواربة أو تجميل لقسوتها أو فضاعتها، ولكنه مع ذلك ينمي الجانب الفني من خلال تجاوزه لكثير من التفاصيل، وانتقائه البارع للوقائع التي يسجلها بصورة انسيابية، والتوليف بينها وتغذيتها بتخييل سردي يتجاوز الواقع الموثق وينقل القارئ إلى عوالم لا تراها إلا عين الكاتب، فإن لم يكن الكاتب يصنع أحداثا محورية مبتكرة فهو يقارب ذلك من خلال إعادة سرد الأحداث من منظور مغاير، وبأسلوب تجاوز الكتابة الصحافية المعتمدة على القصة. ومن ناحية أخرى، لجأ الكاتب إلى ما يمكن أن نسميه تقنية السؤال، فطرح الأسئلة الجدلية ذات الصلة بالوقائع المركزية من جهة، وترك الإجابة الصريحة أو القطعية عنها من جهة أخرى، وهو بذلك يخاطب وعي القارئ ومخيلته ويستثيره، ويبقي الحدث الذي يسجله ينبض بالحياة والتوقد، وبهذا يتجاوز الحدث حدود الرصد والتسجيل ويمد جسرا مع الراهن والمستقبل، فالحقيقة قد تتضح أكثر من خلال السؤال عنها، وقد تضيع أو تتأثر مع محاولة وضع إجابة واحدة لها. ونقف كذلك على أسلوب الاعترافات والإدلاء بها، وهذا ملمح يخفف من حدة الحدث الواقعي، والوصف الثقيل، ويغذي الجانب التخييلي، ويعزز عنصر التشويق، فمما لا شك فيه أن في داخل كلٍ منا رغبة وتشوقا للاطلاع على الخفايا، والوقوف على الأسرار، وعندما تدلي الشخصيات الرامزة باعترافاتها المتصلة بالحدث، ينفتح الباب على جانب مختلف من الحقيقة، أو جانب من المشهد متوار خلف الظلال، وتنسجم فكرة الاعترافات بين الوظيفة التسجيلة والوظيفة الجمالية، ويخلق الكاتب من خلالها حالة من التوازن بين شعوره بالمسؤولية والمشاركة تجاه الحدث الواقعي، وبين وظيفته ومسؤولياته الأدبية تجاه قارئ الرواية. على الرغم من أولية الأحداث والوقائع الحقيقية وسطوتها في الرواية التسجيلية إلا أنها لم تؤثر في بناء شخصيات «نزلاء الحراش» تأثيرا سلبيا، واستطاعت أن تبقى ذات قوة فاعلة منسجمة مع الحقائق، وحققت الرواية تكاملا واتساقا بينهما دون أن يؤثر أحدهما في الآخر تأثيرا سلبيا، فعلى سبيل المثال تبرز شخصية «فيصل» و «نبيلة» في حالة انسجام مع سيرورة الأحداث، وعلى الرغم من ثباتهما البنائي إلا تفاعلهما مع الأحداث أخرجهما من دائرة العموم إلى دائرة الخصوص، وسلك الحبيب السايح إلى ذلك سبيلا ناجحا عبر الخوض في البناء الداخلي للشخصيات وتفكيك حالاتها النفسية وانفعالاتها الوجدانية، ليخلق من الأحداث الداخلية الخاصة بها أحداثا موازية للواقع الخارجي العام، وبذلك أصبحت الشخصيات ملتحمة بصورة عضوية بالوقائع التي يستند إليها السرد. وعلى خلاف ما قد يراه بعض النقاد أو الدارسين لهذه الرواية، فيمكن القول إن واحدة من عناصر المخاتلة البنائية الأساسية في «نزلاء الحراش» كانت في مبدأ الحيدة، فالروائي الذي لا شك أن له موقفا ورؤيا من الأحداث والوقائع التي عايشها ومرت بها بلاده، لم يحاول التموضع خلف شخصية من شخصيات الرواية، وحاول أن يخلق حالة من «البولوفونية» في الرواية، ربما تكون الوقائع والحقائق والأحداث أثرت في امتدادها ووضوحها إلا أنه لا يمكن إنكارها، فالتزام الكاتب الحياد والموضوعية، ووقوفه على مسافة واحدة من مختلف الشخصيات، وإعطاؤها مساحات متقاربة لها للكشف عن ذاتها وصلتها بالأحداث، أخفى كثيرا من ملامح التسجيلية التقليدية، على نحو يجعل الرواية تتجاوز شهادة الكاتب أو تسجيله الفردي، لتصبح شبه مدونة لشهادات وتسجيلات متنوعة لفئات وشرائح مختلفة من المجتمع الجزائري تشهد على ما فيه من تعددية فكرية وثقافية. ومع أن بعض التأمل فيما ورد في الصفحة الأخيرة من الرواية، وتحديدا الإشارة إلى كلمة «تمت» التي ذكرها «فيصل» بطل الرواية، وانتهت بها رواية الحبيب السايح قد يدل على أن «فيصل» هو الروائي ذاته أو صوته، إلا أن ذلك لا يمثل الحقيقة كاملة، وإن كان لا شك أن «فيصل» يحمل كثيرا من رؤى الكاتب، إلا أن استرجاع معالم الشخصية الداخلية والخارجية وصلتها بالأحداث، يدفع هذا الاعتقاد، ولعل تفسير ذلك يرجع إلى رغبة الروائي في إعادة القارئ إلى الواقع والحقيقة بعد أن أنهى تسجيله الخاصة للأحداث التي تناولها في عمله، وبمزيد من التأمل يمكن القول إن كلمة «تمت» التي انتهت معها كلمات الرواية قد تعني أنها «بدأت» على مستوى الخطاب الذي تحمله. وختاما فإن الخبرة التي يكتسبها المبدع من واقعه، ومعايشته لأحداث ووقائع مؤثرة ومؤلمة، واستشعاره بالأمانة والمسؤولية تجاه قضايا ومرتكزات وثوابت تتصل بمعاني وجوده قد تكون الحافز الأكبر لمقاربة هذا النوع من الكتابة الإبداعية، وتسجيل شهادته بأسلوب أدبي.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 11-02-2022 09:18 مساء
الزوار: 1001 التعليقات: 0