ازداد الاهتمام بالقصة القصيرة وأصبحت عروس الأنواع الأدبية بعد فوز القاصة الكندية ” آليس مونرو” بجائزة نوبل العالمية عام 2013.
ولأن القصة القصيرة لا تشغل حيزا كبيرا في الصحف والمجلات رأينا كما هائلا من القصص القصيرة ينشر دون الاهتمام بالقيمة الفنية والفكرية لما يتم نشره. وقد أصدر الأديب والفنان الشامل سامي النجار المجموعة القصصية “البهلوان”؛ وقبل أن نتناولها يجدر بنا أولا أن نقوم بتعريف القصة القصيرة حتى يستطيع القارئ أن يلم بها. القصة القصيرة كما يرى كثير من النقاد هي فن أدبي قائم على السرد والوصف والحوار، حيث يراعي القاص أن تشتمل قصته على حدث أو موقف إنساني يتطور؛ ليكشف لنا كقراء جانبا من جوانب الشخصية الإنسانية في لحظة التنوير؛
ولا بد للموقف الإنساني الذي يعرضه القاص، أن يكون ذا دلالة أو معنى يفهمه القارئ دون تدخل من الناقد المتخصص! عنوان المجموعة القصصية: يرى الناقد الدكتور محمد عبد المطلب أن العنوان هو عتبة النص التي يجب أن يخطوها القارئ في تؤدة مصحوبة بقدر من التأمل اليقظ حتى لا يتعثر فيها؛ فتتوقف قراءته وتقصر عن المتابعة؛ ويمكن النظر إلى العنوان بوصفه “مفتاح” النص، ووظيفته شبيهة بمفتاح البيت على معنى أنه لا يمكن الدخول إلى البيت إلا بعد إعمال المفتاح.
وعنوان المجموعة القصصية هو “البهلوان”، وكلمة البهلوان تحيلنا إلى عالم السيرك والألعاب الرياضية التي يؤديها اللاعبون بمهارة واقتدار. أما كلمة “بهلول” فهذا يحيلنا إلى شخصية أبى وهيب بهلول الذي ولد بالكوفة؛ وهو أحد علماء الدين بالدولة العباسية؛ و تم تعيينه في وظيفة “قاض” ؛ فرفض أبو وهيب فتظاهر بالجنون فقال الناس “جُن بهلول” ؛ وتم إطلاق كلمة “بهلول” على كل شخص يقوم بحركات غير طبيعية ويتكلم مع أشخاص لا يراهم المحيطون به! وكلمة “بهلول” كلمة عربية وليست تركية، وتعنى الرجل المرح الضحوك، وكانت العرب تطلقها على الرجل الذي يجمع صفات الخير؛
أما جمع كلمة “بهلول” فهو “بهاليل”! قصة “البهلوان” هي قصة رمزية مزج فيها القاص بين شخصية البهلوان والبهلول والحاوي من خلال شخصية البهلوان الذي يطوف بالمقاهي ليقدم بعض الحركات التي تعتمد على الخفة والمرونة والرشاقة،
عارضا من خلالها مأساته الشخصية بين الدموع والضحكات حتى يتعاطف معه رواد المقهى رغم أنه لم يطلب منهم نقودا. يقول القاص في مفتتح قصة “البهلوان” : (جلس على المقهى؛ يصنع حركات بهلوانية؛ شد انتباه الرواد؛ يرتدى جلبابا قصيرا؛ وسروالا شبه قديم؛ يمسك بيده عصا صغيرة؛ يتحرك بطريقة حلزونية حول الأرائك؛
يضرب بعصاه في الهواء؛ تساعده في أداء حركاته البهلوانية. صار إلى الداخل على أول أريكة؛ جلس؛ ما زال يؤدى حركاته البهلوانية). ولأن القصة القصيرة تتطلب قاصا متمكنا من اللغة حتى يستخدم التركيز والإيجاز دون إخلال بالمعنى؛ فان القارئ يلاحظ ا أن القاص يهتم بالتفاصيل التي تبدو زائدة في كتابة قصة قصيرة لكنها وردت هنا، حتى يتم بما يطلق عليه النقاد المتخصصون اسم “الإيهام بالواقع”،
من خلال حركة البهلوان بين الأرائك وهو يضرب بعصاه الصغيرة الهواء، كما أن هذا البهلوان يرتدى سروالا شبه قديم؛ كل هذا أورده القاص ليشعرنا أنه يتحدث عن شخصية حقيقية رآها من خلال سرده بضمير الغائب. وقد استخدم القاص ككاتب مسرحي بجانب كتابته للقصة القصيرة أبعاد الشخصية الثلاثة؛ فبدأ بالبعد الاجتماعي ثم المادي، فنحن أمام شخصية البهلوان وهذا بعد اجتماعي يشير إلى طبقته الاجتماعية الفقيرة.
أما البعد المادي أو الجسدي فيبدو من خلال ملابسه وحركاته: “يرتدي جلبابا قصيرا؛ وسروالا شبه قديم؛ يمسك بيده عصا. وفي الجزء التالي يلاحظ الناقد المتخصص وليس القارئ أن القاص استخدم الرمز في إطار قصته التي يسردها على المستوى الواقعي ليفهمها عامة القراء: (الرواد يلتفون حوله؛ يتحرك؛ يصرخ فيهم اتركوني أيها الجواسيس؛ أدركوني أين رجالي؟ أين أبنائي؟ أنا المارشال درويش.. اقبضوا عليهم.. إنهم خونة؛ خونة؛
يجري مسرعا إلى الخارج؛ يجلس على الأرض؛ يلتف حوله الأطفال؛ يصنعون حوله نصف دائرة يقولون: “ياناس يا عسل.. المجذوب وصل “). يهتم القاص بحرفية في هذا الجزء بالبعد الإنساني لشخصية البهلوان مستخدما البعد النفسي للشخصية؛ وكان يجب على القاص أن يستخدم علامات التنصيص حتى يدرك القارئ ما يسرده الراوي بضمير الغائب وبين ما يقوله البهلوان حتى لا يختلط تعبير القاص وسرده مع حديث البهلوان لرواد المقهى وهو يعرض مأساته عليهم. تنتهي القصة بنهاية مأساوية حيث يقذف الأطفال البهلوان بالحجارة فينزف منه الدم وتكون آخر كلاماته هي الحديث عن المؤامرة التي تعرض لها بعد خيانة أصدقائه له كما يتبين في هذا الجزء من القصة الذي يطارد فيه الأطفال الذين يسخرون منه: (يهرول وراءهم يقذفونه بالحجارة. الدم ينزف بغزارة.. يسقط مغشيا على الأرض؛ يصرخ من الألم؛ يلتف حوله حشد كبير من المارة؛ يصرخ فيهم أنا المارشال درويش؛ يردد: اللعنة عليكم أيها الخونة.. اللعنة عليكم أيها الخونة.).
يتبين لنا كقراء اهتمام القاص بالبعد النفسي مما يجعلنا أمام قصة إنسانية استخدم القاص فيها “بذكاء ومهارة” الرمز من خلال شخصية غير سوية وهي “البهلوان”؛ فلا يهتم البعض بما يقول؛ لكنه يجعلنا كنقاد متخصصين أمام شخصية يوليوس قيصر الذي تآمر عليه أعوانه حتى أقربهم مودة وهو “بروتس”، لذلك فإن شخصية “البهلوان” هي رمز لكل شخص في أي وقت تعرض لخيانة من المحيطين به أو من “عشيرته”! ليتم خلعه أو سجنه أو قتله وهو ما حدث فعلا في مصر؛ وهذا يدعونا إلى عدم الثقة العمياء في الأشخاص المقربين منا حتى لا نتعرض لغدر ونقول بعد فوات الأوان: “اللعنة عليكم أيها الخونة.. اللعنة عليكم أيها الخونة”!!!
قصة ”أحزان رجل” : عنوان القصة يجعلنا أمام رجل يعاني من أحزان كثيرة وليس حزنا واحدا مما يجعلنا أمام أحد أسلحة التشويق من خلال العنوان؛ رغم أنه عنوان يتسم بالمباشرة إلا أنه يجذبنا إلى قراءة القصة لنعرف ما هي الأحزان التي يعانى منها هذا الرجل الذي لا نعرفه؛
مما يجعلنا أمام قاص ماهر يملك الحرفية فجعل هذا الرجل نكرة فيكون أي رجل يتعرض ويعاني من الأحزان! يقول القاص في مفتتح القصة: (في نفس الموعد جاء؛ وضع حقيبته على الكرسي المجاور له؛ خفف من رابطة العنق الموجودة حول رقبته؛ فك أزرار المعطف الذي يرتديه.. كنا في نهاية فصل الشتاء؛ وكان الثلج يغطى الأرض والوجوه.
أتى إليه عامل المقهى؛ حمل كوبا من القرفة الساخنة؛ ووضعه أمامه لم يشعر بوجوده؛ جلس أمامه أخذ يحاوره كان يتمنى أن يتجاوب معه؛ ليخرجه من حالة الصمت). يستخدم القاص في هذه القصة الرمزية ضمير المتكلم عندما قال : “كنا في نهاية فصل الشتاء”؛ ويلاحظ القارئ مدى مهارة القاص في تعبيره”؛ وكان الثلج يغطي الأرض والوجوه”.
ويقصد القاص من تغطية الوجوه بالثلج أن الناس لا تشعر بما يدور حولها وتنفعل به، وهذا تعبير حالف فيه التوفيق القاص لأن الشخص الذي تتحدث عنه بالقصة يعاني من غربته، فيرفض أن يتناول مشروبه وهو القرفة الذي اختاره القاص بمهارة، فالقرفة تنسجم مع حالة “القرف” التي يمر بها بطل القصة! وعندما يسأل راوي القصة عامل المقهى عن الرجل الغريب يخبره بأنه يأتي في موعده ويترك كوب القرفة كما هو؛
ويلجأ القاص في براعة إلى استخدام السحب وأصوات الريح والرعد كمؤثرات موسيقية تتناغم مع حالة العالم العربي كما يتبين في هذا الجزء : (فنظرت إلى السماء وإلى عينيه فوجدتها مليئة بالسحب؛ سمعت أصوات الريح والرعد بالخارج؛ حاولت الاندماج مع الأصدقاء؛ كان هناك اثنان يتحدثان في السياسة وأخبار العراق وفلسطين، والباقي يلعبون الطاولة، والآخرون مشغولون بمتابعة مباراة كرة قدم). وتنتهي القصة ببكاء الشخص الغريب ويلتف حوله رواد المقهى كما يتبين لنا: (رواد المقهى يلتفون حوله كأنهم يريدون أن يدركوا سر بكائه فنهرتهم؛ اقتربت منه؛ وجلست أجفف دموعه حتى صار البكاء شهقات متقطعة؛ عاد أصدقائي إلى مقاعدهم؛ وتوقفوا عن اللعب؛ وساد الصمت المكان؛ وعلا صراخ الريح والرعد).
ويلاحظ القارئ أن القاص يتعمد أن تشترك الظواهر الطبيعية من ريح ورعد، وهو يذكرنا بالكاتب محمد سلماوي في مسرحية “سالومي” الذي استخدم البحر كشخصية تنفعل مع الأحداث؛ ليتم التناغم بين الطبيعة وما يحدث في واقعنا العربي الذي لا يحرك ساكنا فينا، وهو الأمر الذي جعل الشخص الغريب يبكي لحالنا وحاله حزنا على واقع غير قادر على تغييره!