في سوق الرمادي القديم
شعر : د ..فهمي الصالح
لا زال سوق الرمادي القديم يعبق بروحك الجميلة
في السوقِ القديم منفى السيابِ الأخير
الرمادي شاحبةُ الوجوهِ
روحُها مصلوبةٌ على دكّة
الصبايا المكبوتاتِ حينَ يهرُبنَّ
إلى التفاحِ من غُرفٍ مُقفلةٍ بالمرايا
لا أحد يشعرُ بالسيّابِ المنفي في الرمادي
حينَ يمرُّ مُخترِقاً روائحَ التنباكِ وباصاتِ العرب
غير أنَّ طيورَ الغروبِ البعيدة
ترفرفُ لقلبهِ الأسطوري الحافلِ
بالمناديلِ والرسائلِ والخيول
الشوارعُ مُعتلّة ببراءةِ القمصانِ الحالمة
التي مزَّقَها تعبُ الهزائمِ البريئة والبربرية
وبللَ أكمامَها أقحوانُ الخريفِ النازف
يمشي السيّابُ خارجاً من ( خان الخانجي ) *
بشتائهِ الخجولِ وحيداً
إلى جانبِ الخدوشِ المُختبئةِ في الحيطانِ
مثل بقايا كائنٍ حائرٍ يموعُ أمامَ تفاصيلِ الملوك
عدا عن بعضِ عباءاتٍ سودٍ كما الغربان
لا أحد يحفلُ بالهالةِ الزمنيةِ الفوّارةِ
المضمحلةِ خفقاتها في بوصلةِ العيونِ الشريدة
السيّابُ الذي يقاومُ حفرَ المجاعةِ
على سجيتهِ العميقةِ دونَ معطفٍ
في بردِ الرمادي المرتعشِ بالشجون
يتعثرُ بالأسئلةِ عن مطرٍ بعيدٍ مجهولِ الغيوم
وعن مصيرٍ قابعٍ في عاصفةٍ لا تعرفُها ملائكةُ
سعالهُ مريرٌ لا يكفُّ عن الدماء
ولا عن التوغّلِ في رسمِ أوردةِ الألمِ بغبارِ الطباشير
ولا عن الضجرِ الذي يجوسُ روحَ البلاد
يمتصُ بقعرِ لفافتهِ الأخيرة
ملامحَ المخطوفةِ وجوههم في البردِ
من الريفيين وأهلِ البراري والدراويش
حين تخترقُ حواسَ المُسرعين من الدركِ
غبطةُ الفقراءِ في نهايةِ الضوءِ
المتصاعدِ إلى مئذنةِ اللهِ
لا أحد يتكئ عليه السيّابُ في محنتهِ الرماديةِ
التي يضربُها سلُّ البلادِ الغافيةِ في غيبوبةِ الرمال
طيورُ الغروبِ ينوءُ بها الظلامُ إلى حزنٍ كثيف
يتداعى السيّابُ بجسدهِ الخيطي
مثل شعلة حادَّة تهوي إلى الجراح
يشعرُ بإنخطافِ الروحِ والحنينِ إلى المعاقل
إلى أبي الخصيبِ وشطِ العرب
إلى الشناشيلِ والليلِ في العشار
إلى الأحلامِ في قاعِ الخليج
يجلسُ مشدوهاً أمامَ موقدِ الشاي المحروق
بمقهى الراحلين من العربانِ في السوقِ القديمِ
يغمضُ عينيهِ غارقاً في بروقِ المتاهةِ الساطعة
تهدأُ روحُهُ لحظتها وتتأججُ أنّاتُه المكتومةُ
في الرمادي الشاحبةِ وجوهها وشوارعها
حين يدمدمُ بأولِ قصيدتِه الحزينة :
" الليلُ والسوقُ القديم
خفتت به الأصوات إلا غمغمات العابرين "
....................
....................
....................
تنام الرمادي وروحُ السيّاب مُجهدةٌ
ترحلُ بكلِّ السعالِ وراءَ القصيدةِ البعيدة ..
طبعاً ..
في ذلك المساءِ الرمادي الشاحب
من عام 1948 بحرائقهِ الموغلة
لا أحد يشعرُ بكلَّ ذلكَ التجلّي الخفيّ
باستثناءِ السيّابيينَ الجُدد
القلّة المخمورين
بعزلةِ السوقِ القديمِ في الرمادي ..
____________________________________
* مبيت الشاعر العراقي السياب في مدينة الرمادي .