جديد الأخبار
عرار العرب ولكل
العرب
عرار الإخبارية.. الزيارات(247 ): غسان اسماعيل عبد الخالق في محاولة للدفع بشاعرية الخيال إلى أقصى حدودها الممكنة، يستأنف غاستون باشلار بناء حكايته الظاهراتية التي بدأ سردها في «جماليات المكان»، وذلك عبر كتابه الأخير «شاعرية أحلام اليقظة: علم شاعرية التأملات الشاردة»! والكتاب الذي يقع في مقدمة وخمسة فصول، هو كسابقه، عصيّ على التلخيص من خلال الانهماك في الاقتباسات أو التضمينات، لأن كل ما ورد فيه من سطور، يمكن أن يكون صالحًا للاقتباس أو التضمين، فضلاً عن أنه يحلّق عاليًا في سحب المجاز المرصّع بالتشبيهات والاستعارات والكنايات والصور. وما من طريقة لاستعادته إلا من خلال بذل أقصى ما نستطيع من جهد للتعبير عن مدى إحساسنا به، حتى نكون أكثر انسجامًا مع منهجه الظاهراتي المُحدث. الخطوة الأولى التي يخطوها باشلار، كي يتفرّغ لبناء عشه الجديد، تتمثل في نقض علم النفس التحليلي بوجه عام، والمدرسة الفرويدية بوجه خاص، لأكثر من سبب؛ فهو ليس معجبًا –في الحد الأدنى- بالمرجعية الجنسية التي تحف بمقدمات ونتائج هذا العلم، وهذا ليس بالمستغرب؛ لأنه ظاهراتي يثق بانطباعاته الذاتية الآنية تجاه كل حالة إنسانية على حِدة. فيما أن علم النفس معتقل في حجرة تعج بالبروتوكولات التي يجب الالتزام بها حرفيًا، والتي تفضي غالبًا إلى النتائج ذاتها، بغض النظر عن تعدّد الحالات. أي أن الأحلام تمثل قطاعًا نمطيًا متجانسًا حتى لو تعدّد الحالمون. والأهم من ذلك أن عالِم النفس يتعلّق بالحلم الليلي لكونه المتن المعبر عن رغبات وأشواق الإنسان، ويهمل الحلم النهاري مفتوح العينين بوصفه هامشًا على ذلك المتن. إن غاستون باشلار، لا يقلّل من أهمية الأحلام الليلية ويحتفي بالأحلام النهارية فحسب، بل إنه يجعل المتن هامشًا والهامش متنًا؛ فيذهب إلى حد الزعم بأن الأحلام الليلية، وخلافًا لكل ما أكده علماء النفس، ما هي إلا تعبير عن مخاوفنا العميقة وأقسى ما فينا، فيما أن أحلامنا النهارية هي المعبر الحقيقي عن آمالنا الدفينة وأجمل ما فينا. وإذا كانت الأحلام الليلية معلوم لا يحتاج إلى تعريف، فإن الأحلام النهارية وفقًا لباشلار، مجهول ما زال يحتاج تعريفًا. إن مصطلحًا مثل (أحلام اليقظة) ليس كافيًا لاستغراقه، ولذلك فهو يقترح مصطلحًا جديدًا هو (التأملات الشاردة)! ويقصد به تلك الخطرات الوامضة التي تنتابنا بعد أن نستيقظ، وفيما نحن نرتدي ملابسنا أو نتناول وجبة إفطارنا ، أو فيما نحن نجري حوارًا مع الآخرين أو نقود سياراتنا. لكنها تبلغ حدّها الأرقى والأجمل، حينما تصبح مقصودة لذاتها، فننتزع أنفسنا من زحمة مشاغلنا اليومية، ونتجه إلى البحر –مثلاً- لنجلس قبالته ساعات وساعات كي نسلم أنفسنا لتيار متدفق من (التأملات الشاردة)، نفكّر في كل شيء وفي لا شيء معًا! وأما بلوغ درجة الكمال في امتياح هذه (التأملات الشاردة) فهو وقف على الشعراء فقط، الشعراء الذين يمتلكون القدرة على التعبير عن محصلة هذه التجربة الفريدة، في جوف الصحراء أو وسط الغابة أو أمام البحر، عبر صورة شعرية مبتكرة مكتوبة. يجري غاستون باشلار تمييزًا نوعيًا بين أطياف هذه (التأملات الشاردة)؛ إذ أن هناك تأملات شاردة مخطّطة، ردها إلى الانشغال بتفاصيل العيش من مأكل ومشرب وطموحات للارتقاء في سلم العمل الوظيفي مثلاً، وهناك تأملات شاردة مرسلة، مردها إلى الإنشغال بتفاصيل الحياة من أسئلة وجودية كبرى حول الجدوى واليقين والسعادة والألم والمصير. إن النوع الأول من هذه التأملات الشاردة -وإن بدا ممتعًا وأخّاذًا- لن يفضي بنا إلى الشعور بالطمأنينة المنشودة فضلاً عن أنه سيتوقف بنا عند هذا الحد، دون أن يتولّد عنه صور شعرية باهرة. أما النوع الثاني منها فإنه سيأخذنا إلى حالة الخدر اللذيذ المصحوب بتجليّات شعرية فاتنة. ولمزيد من التمييز، فإن غاستون باشلار، يهرع لكارك يونغ، عالم النفس الوحيد الذي يثق به، ليستعير منه مصطلحين رئيسين هما: (Anima= النَّفْس) و(Animus=النَّفَس)، فيغدو للنَّفْس كل ما هو مُرسل وعفيّ وناعم وشارد، ويغدو للنَّفَس كل ما هو مخطط ومصطنع وخشن ومراقَب. بتعبير آخر فإن النَّفْس أمّارة بكل ما هو رائع ورفيع وجميل، أما النَّفَس فهي أمارة بكل ما هو ماكر ومراوغ وليس أصيلاً. ويمد غاستون باشلار لهذا التمييز بعدا أسطوريًا، حينما يسهب في الكلام على النَّفْس المؤنثة والنَّفَس المذكر؛ فالحلم وفقًا لباشلار مُذكّر لكن التأمّل الشارد مؤنّث، وشتان بين المذكّر والمؤنّث على صعيد المفهوم والصورة؛ فالمذكّر قاس وخشن ولئيم، لكن المؤنث لطيف وناعم وطيّب. ولا بد للشاعر المُذكّر من التواصل مع الجانب الأنثوي في شخصه كي يتمكن من إحراز تأملات شاردة حقيقية. ووفقًا لباشلار، فإن هذا التفارق في الجوهر على صعيد المذكّر والمؤنّث، يضرب بعيدًا في جذور المفاهيم والصّور ليبلغ الكلمات التي تتكوّن منها اللغة، فالكلمات أيضًا (تنام في معناها)! أي أن كلاً منها يرتد إلى أصول مذكّرة أو أصول مؤنّثة. حُدّدت منذ أمد بعيد، فكلّ ما ابتكره الذكور من كلمات ينتمي إلى عالم النّفَس، وكل ما ابتكرته الإناث من كلمات ينتمي إلى عالم النَّفْس. بل إن هذه الكلمات تتكاشف وتتزاوج كما لو كانت ذكورًا وإناثًا على أرض الواقع، وما علينا نحن الكتّاب والقرّاء إلا أن نعي هذه التمايز، حتى نتمكّن من بلوغ رتبة تدوين التأمّل الشارد في حالة الكتابة، أو حتى نتمكّن من بلوغ رتبة تذوّق التأمّل الشارد في حالة القراءة، إذ إن القراءة أيضًا تنقسم إلى قراءتين: قراءة نَفْسية عميقة ومتمهلة ومخلصة، وقراءة نَفَسية ومتسرّعة ونفعية. ويبدو أن غاستون باشلار، قد ظلّ في نفسه شيء كثير من «جماليات المكان» ورغب في استكماله، عبر الاستطراد حول العلاقة المعقّدة التي يمكن أن تقوم بين التأملات الشاردة وكل من ذكريات الطفولة والمراهقة والشباب. ولعل أبرز ما يمكن الإشارة إليه -على هذا الصعيد- هو اعتناؤه بتأكيد حقيقة أن هناك طفولة كامنة موجودة في كل واحد منا، لكنه يستدرك بالقول: إننا حينما نظفر بإيجاد هذه الطفولة عبر تأملاتنا الشاردة ونعيشها مرة ثانية، فإن ما تمّ إيجاده هنا ليس بالضرورة طفولتنا كما وجدت على أرض الواقع، بل طفولتنا المشتهاة، أو طفولتنا التي كان يمكن أن تكون! وما لا يقل أهمية عما تقدّم، هو السعي عبر التأملات الشاردة إلى بلوغ لحظات العزلة المبدعة والخلاقة التي عشناها في مرحلتي الطفولة والمراهقة؛ فهذه اللحظات الاستثنائية، غالبًا ما يتم إبصارها وتفهمها –غالبًا- في مرحلة الشيخوخة، أي بعد فوات الأوان. وربما لو أننا نجحنا في اقتناصها قبل هذه المرحلة، لحظينا براحة استثنائية، فضلاً عن أننا كنا سنكون أكثر إيجابية على صعيد كثير من المفاهيم النّفَسية، وربما كنا سنطورها في مرحلة مناسبة من أعمارنا إلى صور نَفْسية. وفي عبارة تفيض بذلك الرثاء للطفولة المحاصرة، وبالتعاطف مع عزلاتها أو تأملاتها الشاردة المستهدفة دومًا بنصائح الكبار وتوجيهاتهم ، يقول باشلار: (إنهم يعرفون يعتقدون أنهم يعرفون، يقولون إنهم يعرفون يبرهنون للطفل أن الأرض دائرية، إنها تدور حول الشمس. أيها الطفل المسكين الحالم، ماذا يجب ألا تسمع؟ وأي تحرر لتأملاتك الشاردة عندما تترك الصف لتصعد منحدر التلّة، تلّتك. أي كائن كوني هو هذا الطفل الحالم؟!). هذا يعني أن كثيرًا مما قد يبدو لنا لحظات من البلاهة الطفولية، ما هو في الواقع إلا حالات من الاستغراق العميق، في الاطمئنان المؤنّث والصور التي يتمنى أعظم الشعراء لو أنهم يظفرون بها. ولا يفوت باشلار طبعًا، أن يربط كثيرًا من هذه التأملات الطفولية الشاردة بأكثر حواسنا ضراوة، ألا وهي حاسة الشمّ. لأن أصل العالم عند كل منا، يتحدد بالمرة الأولى التي اشتم فيها رائحة شيء ما، إلى درجة أننا وفي كل مرة نحاول فيها أن نستعيد الجذر الأول لهذه الرائحة أو تلك، فإننا لا نملك إلا أن نشعر بالحيرة؛ هل نحن الآن نحلم أم نتذكّر؟! فالذكريات هي حقًا (البخور المحجوز في الماضي)، بل إن كل رائحة من روائح الطفولة هي (قنديل في غرفة الذكريات)، وربما لهذا السبب يتضاعف شعورنا بألم الروائح، كلما ابتعدنا عن مساقط رؤوسنا التي احتضنت تلك الروائح الأولى التي ملأت أنوفنا الفتية. إن أحد أكبر أسرار الشعر والشعراء، تتمثل وفقًا لباشلار، في الإمكانيات الهائلة والاستثنائية التي يمكن للروائح أن توفرها للشعراء، على صعيد استدعاء طفولة كل واحد منهم، وخاصة حينما تتمثل هذه الرائحة في عطر ما، لأنه سيصبح تفصيلاً هائلاً جدًا، في أحلامهم وتأملاتهم. هذا إذا اقتصر الأمر على الرائحة فقط، فماذا لو تعاضدت حاسة الشم مع حاسة الذوق؟ إن محصلة هذا التعاضد الفريد هي تحوّل العالم إلى: سعادة مأكولة؛ تُشَمّ وتُمضَغ! وهل هناك ما هو أبلغ -على هذا الصعيد- من روائح الخبز في الأعياد، تلك الروائح التي ستظل تلازمنا وتلتصق بنا، لكننا لا نستطيع في الوقت نفسه القبض عليها أو وصفها أو تجريدها. من حق باشلار إذن أن يطلق لنفسه العنان في إعلان هذا الاعتراف: (في أيام السعادة، العالم يؤكل، وعندما تعود إليّ الروائح الكبرى التي كانت تحضّر الأعياد، يبدو لي أنني آكل الذكريات، وتأتيني الرغبة فجأة في تجميع كل أرغفة الخبز الساخنة عند الشعراء). ومع ضرورة النظر بعين الاعتبار الشديد ، لحقيقة أن الاستبصارات التي يطلقها غاستون باشلار، على صعيد تأنيث وتذكير المفاهيم والصور، لا يمكن تفهمها أو تطبيقها تمامًا، إلا في سياق اللغة الفرنسية التي يمكن تطويعها تاريخيًا ومعرفيًا وبنيويًا، فإن من المستبعد تطويع اللغات الأخرى، وبالقدر نفسه، لحدوس باشلار سواء على الصعيد البنيوي البحت أم التاريخي أم المعرفي. فاللغة العربية مثلاً، التي خصّها باشلار بتنويهات لافتة، تؤنث النّفْس وتذكّر النّفَس وفقًا لطروحات باشلار، لكنها تذكّر الحُلم والتأمّل، ما يعني استحالة التمييز على النحو الذي عناه باشلار. وقد تضطرنا هذه الاستحالة إلى اعتماد ثنائية أخرى مثل (الحُلم والخطْرة) أو (الحلم والسانحة)! حتى يستقيم التمييز البلاشلاري على سوقه. ولا تقتصر صعوبة تطويع اللغة العربية لحدوس باشلار على المستوى البنيوي البحت، بل تتعداها أيضًا إلى المستوى التاريخي والمستوى المعرفي، فالذاكرة التاريخية للغة العربية تنوء بمحمول ذكوري يطفح بمدح الفحولة والخشونة ورباطة الجأش وتمور بهجاء الرقة والنعوقة والهشاشة، كما أن المستوى المعرفي يخص الذكورة بالحكمة والوقار والكمال، وتختص الأنوثة بالخفة والمكر والتهور ،مع أننا لا نعدم في سياق المحمول التاريخي والمعرفي لهذه اللغة، بعض الالتماعات المدهشة، كقول ابن عربي: كل مكان لا يؤنث لا يعوّل عليه! بل إننا لا نعدم على صعيد فلسفة الأحلام نفسها، بعض الالتماعات المذهلة كقول المتنبي: نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك من خيال في منام!!! أجمل ما في (علم شاعرية التأملات الشاردة) يمثل أقسى ما فيه! فهو حلم يقظة نادر في تاريخ فلسفة الفن والجمال. وربما كان من أروع أحلام اليقظة الجمالية التي ابتكرت بعد جمهورية أفلاطون. لكن، ومهما بلغت درجة إحكامه، يظل حلم يقظة!! أي أنه قابل للنقض بضربة خفيفة واحدة من ضربات المنطق أو ضربات الواقع. لقد أنضى باشلار كثيرا من أقلامه وهو ينعى على مدرسة التحليل النفسي وعلى علماء النفس الفرويديين مدرسيتهم الصارمة، وإجراءاتهم الروتينية المتشابهة، ومقدّماتهم المحسومة، ونتائجهم المتوقعة، لكنه انتهى إلى ما انتهوا إليه، حينما قيّد (شاعرية أحلام اليقظة) بعنوان فرعي صادم (علم شاعرية التأملات الشاردة)! وكأن كل تحذيراته من مغبة الخيال الممنهج وكل دعواته للاحتفاء بالخيال الراكض، قد ذهبت أدراج الرياح! صحيح أنه أبدع في عرض وسرد حلم يقظته الباذخ بلغة تكاد ترتقِي إلى مستوى لغة الجمهورية الأفلاطونية، إلا أنه لم ينج من الوقوع فيما سبق لكل الحالمين أن وقعوا فيه. وإذا كان أفلاطون قد طرد الشعراء من جمهوريته لكنه أصر على كتابتها بلغة وخيال الشعراء، فإن غاستون باشلار قد طالب بإطلاق العنان لخيالنا المرسل لكنه قيّد هذه المطالبة بخيال بالغ التخطيط، إلى درجة الغوص في دقائق اللغة ومقابلاتها وجندرياتها، فضلاً عن تصنيف النفس ونزعاتها وأهوائها.
الكاتب:
اسرة النشر بتاريخ: الجمعة 24-05-2024 11:39 مساء
الزوار: 247 التعليقات: 0 المشاركة السابقة : المشاركة التالية
محرك
البحث جوجل
مجلة عاشقة الصحراء
عرار للتراث الشعبي العربي والعلاج بالاعشاب" البرية"::
مجلة المبدعون العرب التي تعنى بقضايا
التربية والتعليم والثقافة::
وكالة أنباء عرار بوابة الثقافة العربية
العناوين المشابهة
الموضوع
القسم
الكاتب
الردود
اخر مشاركة
لم تفقد مروءتها الخيام!
ثقافة وأدب وشعر
اسرة التحرير
0
الأربعاء 22-11-2017
سمرقند.. زهرة الشرق ورباعيات الخيام على ...
ثقافة وأدب وشعر
اسرة النشر
0
الجمعة 30-08-2024