أ. د. خضير درويش (النساءُ: «قناديلـُنا الخزفيـّـةُ/ في الليلِ/ يـَقطـُرْنَ فوقَ الظلامِ ندىً/ ويـُبـَلـِّلـْنَ شباكَ أحلامـِنا/ بالسؤالْ/ النساءُ خشوعُ المصلينَ/ في معبدِ الشوقِ/ يأسـُرُهـُنَّ التبتـُّلُ/ يعشـَقـْنَ طولَ التهجـُّـدِ/ في دِلـِّهـِنَّ/ ويسكـُنَّ/ في قلب شيطان/ يغوي الخيالْ/ الخيالُ الشفيفُ الذي/ تارةً يتسللُ/ لكنـّهُ في العواطفِ/ يعوي/ وأنثاهُ برّيـّةٌ/ والبراري ملاذُ الذئابْ/ النساءُ قصيدتـُـنا/ وهيَ أنثى/ وفارسـُـها لا يهزُّ لها رأسَ/ رغبـَتـِهِ/ وهي فاقدةٌ للدلالْ/ النساءُ قلوبُ الرجالِ/ لذلك لن يعمرَ القلبُ أرضا/ بدون نساءْ»). إن اختيار الشاعر لهذا العنوان وابتدائه النص به أيضا، إنما يشي بأهمية ما يعني، ودلالة الأثر الكبير الذي تركه في نفسه ووجدانه ولعناوين النصوص أهمية كبيرة ودور فاعل في قراءتها واستجلاء أفكارها ومضامينها وإظهار قيمها الجمالية، وهذا ما سيتبدى لنا في قراءتنا لهذا النص، فالعنوان كما يقول الدكتور محمد مفتاح « يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ونقول هنا: إنه يقدم لنا معرفة كبرى لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه وهو الذي يحدد هوية القصيدة، فهو- إن صحت المشابهة- بمثابة الرأس للجسد والأساس الذي تبنى عليه «. والشاعر يبتدئ نصه على المستوى النحوي بجملة اسمية يجعل فيها لفظ النساء مبتدأً له، أما الخبر فجعله متعلقاً به مُمَثلاً لكل الرجال حين قرنه بالضمير (نا) فقال : النساءُ قناديلنا الخزفيةُ، وهنا يتأكد ما ذهبنا إليه على مستويين: الأول المستوى النحوي في تشكيل الجملة الشعرية بطرفيه: المبتدأ وله فضل الابتداء والخبر بفضل الإتمام والثاني اقتران الدلالة الخبرية بالمبتدأ بوساطة الضمير (نا) وهي علاقة إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها ذلك أن القناديل مصدر الضياء والبهجة والسرور في الحياة، وفيها يُجلى ظلام الليل، وهنا يتجلى لنا ماقاله شكسبير في حق المرأة إذ يقول: « المرأة كوكب يستنير به الرجل، ومن غيرها يبيت الرجل في الظلام «. وما يُحسب للشاعر هنا انه لم يشبه النساء بالقناديل فلم يقل: (النساء كقناديلنا الخزفية) وإنما قال (النساء قناديلنا الخزفية) وهو بذلك حقق مراده على المستوى الدلالي من اقتران المبتدأ بالخبر (قناديلنا) الذي ذهب ليصفها بالخزفية، وهنا يتجه الشاعر ليضفي على تشكيله الشعري بعضاً من الصفات الأنثوية التي تتضمنها دلالة هذا اللفظ التي تدرك بأكثر من حاسة، فعلى المستوى البصري يتضمن الشفافية التي تزيد من وهج السطوع وعلى المستوى اللمسي يتضمن النعومة والرقة، ويمكننا القول هنا أن الشاعر استطاع بهذا التشكيل الشعري أن يحقق التوافق على المستويين: المستوى النحوي والمستوى الدلالي، ثم يأتي بلفظ الليل ليكتمل التشكيل الشعري وهو يتضمن فضلاً عن دلالته المحسوسة التي تشكلت على المستويين البصري واللمسي دلالة أخرى تشكلت على المستوى الرمزي، ذلك أن الليل بظلامه يتضمن رمزياً معاني الصبر والضيق والانتظار، أما القناديل فمن دلالتها الرمزية: السطوع والكشف والبهجة، وهنا يكون التشكيل الشعري قد تأسس على تقابل ضدي (الليل بظلامه) و(القناديل بضيائها) وهذه تبدد ظلمة ذاك، لذا فهو يقول استرسالاً واستكمالاً لتشكيله الرمزي : (يقطرْنَ فوق الظلام ندى) وهو في الوهلة الأولى تشكيل حسي رسم من خلاله الشاعر صورة حسية بصرية حركية مشتركة، وفي الثانية تشكيل صوري رمزي إذ يستحيل الندى من دلالته اللفظية السائلة إلى دلالة لفظية عقلية هي الجود الذي يبقى متوافقاً ومنسجماً مع الفعل المضارع (يقطرْنَ) في مستواه الإجرائي، وقراءة ذلك أن النساء يجُدن ويكرمن الرجال ويقفن إلى جانبهم في ماهو عسير من الأمور، فالمرأة كما يقول فيها عبدالله بن المقفع « المرأة الصالحة لايعدلها شيء لأنها عون على أمر الدنيا والآخرة «. ثم يكمل تصويره الشعري الذي جاء مركباً متعدداً بقوله: (ويبللن شباك أحلامنا بالسؤال) فالشاعر ما زال منتشياً ببلل الندى المتقاطر منهن قناديلاً، وهو يعمد هنا إلى التشكيل الاستعاري الكنائي فيرسم لنا صورة تجريدية تأتت من إضافة محسوس إلى مجرد (شبابيك - أحلامنا) وشبابيك الأحلام هي نوافذ الآمال إلى كل ماهو جميل في الكون، وبلل هذه الشبابيك فأل جمال يفتح آفاق الآمال لتطل على اخضرا ر الحياة، والشاعر هنا يريد أن يحيل فعل ماهو مجرد (السؤال) إلى إجراء محسوس فجعل أثر السؤال في المستوى الإجرائي مساوياً لفعل الندى في الليل، وهو تشكيل استعاري تضمن دلالة رمزية، ذلك أن كثيراً من الكلام الجميل ما يحمل تأثير الفعل فيؤدي أداءه، فيكون أثر الكلام مساوياً لأثر الفعل. ثم يتوجه توجهاً آخر حين يوظف المعجم الديني في تشكيله الشعري بقوله: النساء خشوع المصلين/ في معبد الشوق/ يأسرهنَّ التبتل/ يعشقْنَ طول التهجد/ في دِلهنَّ. إن استعمال الشاعر الألفاظ الدينية المتجانسة: (خشوع، مصلين، معبد، التبتل، التهجد) في هذه التشكيلات الشعرية إنما يشي بالقيمة الاعتبارية للمرأة، وهو يتجه بها وجهة أخرى تتمثل بالقداسة والتبجيل حين يحقق ذلك بجملة اسمية واحدة إذ يقول: (النساء خشوع المصلين) فهو إذ يبتدئ بالنساء بوصفها الأساس الذي اعتمده في تشكيله الشعري يجعل الرجال مُمَثلين بخشوع المصلين خبراً لذلك المبتدى وهو إتمام للعلاقة التي يرتئيها الشاعر على وفق رؤيته الإنسانية قبل الشعرية، لذا ولتأكيد ذلك فهو يجعل للشوق معبدا لتكتمل بذلك رؤيته الإنسانية مقترنةً برؤيته الشعرية. لقد كان للمستوى المكاني مُمثلاً بالمعبد الأثر الفاعل في رسم صورة هذا التشكيل الشعري، ذلك أن تحقق المستوى الإجرائي الذي أراده الشاعر مُمثلاً بالخشوع والتبتل والتهجد يستدعي وجوده، وهو معبد شوق لا معبد عبادة، لذا فإن التبتل الذي ذهب الشاعر إلى أنسنته ليخلع عليه فعل الأسر وكذلك التهجد ليخلع عليه فعل العشق هما ليسا فعلي عبادة إنما هما فعلا شوق، وهنا يكون تبتل المشوق مُمثلاً بالكلام الجميل وكذلك تهجده مساويين لخشوع المصلي في تبتله وتهجده. وحين يقول: ويسكنَّ في قلب شيطان/ يغوي الخيال. فإنما أراد بذلك تصوير أثر الافتتان الجمالي الذي تحظى به النساء على المستويين: مستوى المظهر ومستوى الجوهر، ومثلما هو معروف فإن للجمال سطوته السحرية الآسرة، لذا جاء الشاعر بلفظتي (الشيطان، الخيال) للتناسب وتحقيق المراد ليكون سحر الجمال مساوياً لإغواء الشيطان، ولتحقيق تلك المساواة جسَّدَ الشيطان، إذ جعل له قلباً ولتحقق الإحاطة والشمول صيرهُ مسكناً للنساء، وللسعة في التأثير منح الشاعر الشيطان قوة إغواء الخيال لينسحب ذلك بالنتيجة على النساء فيكون التأثير متساوياً : سحر الافتتان الجمالي = إغواء الشيطان. وبمرد من التأثير النفسي، يقسم الشاعر ذاك الخيال على نوعين: أحدهما بتسلل وقد أسماه الخيال الشفيف والآخر يغوي ولم يسمه وقد أسميتهُ الخيال الكثيف انسجاما مع السياق التشكيلي الشعري بما يتضمنه من دلالة رامزة فهو يقول: الخيال الشفيف/ الذي تارة يتسلل/ لكنه في العواطف/ يعوي/ وأنثاه برية/ والبراري ملاذ الذئاب. لقد تعامل الشاعر مع الخيال تعاملاً استعارياً فأنسنهُ أولا ليجعله متسللاً وجسَّده ثانيا ليجعله عاوياً، وهما تشكيلان شعريان استعاريان تضمنا دلالتين رمزيتين: الأولى تشير إلى العاطفة الشفيفة العابقة بالنقاء والصفاء والثانية تشي بالعاطفة الغريزية بمعناها الآخر، فالعواء عواء جوع غريزي يستحيل فيه الخيال ذئباً، ولكي يتواءم التشكيل الشعري مع دلالته المقصودة جعل الشاعر للخيال أنثى برية لتكون البراري كما يقول: ملاذ الذئاب، هكذا يصور الشاعر علاقة الرجال بالنساء على وفق رؤيته الشعرية. ثم يذهب في تشكيل شعري آخر ليرسم لنا صورة أخرى لعلاقة الرجال بالنساء، وهو يصور هذه العلاقة على أساس من المستوى الأدبي يحيل فيه النساء قصائد إذ يقول: النساء قصيدتنا/ وهي أنثى/ وفارسها لا يهزُّ لها/ رأس رغبته/ وهي فاقدة للدلال. لقد ابتدأ الشاعر تشكيله بجملة اسمية جعل فيه النساء مبتدأً، فهي الأساس في هذا التشكيل، ليأتي الخبر (قصيدتنا) متمماً ومكملاً لقصدية التشكيل التي أرادها، ثم يؤكد تأنيثه للقصيدة إذ يقول : (وهي أنثى) ليستكمل تشكيله حين يجعل لها فارساً يستفزهُ غنجها ويستثيرهُ دِلّها فهي يجب أن تكون موصوفةً بهذا الوصف لتحظى به فارساً. إن هزَّ الرأس هنا يتضمن إشارياً على المستوى السيميائي إبداء الاستجابة التي تتضمن حصول التوافق على المستوى النفسي، لذا لم يجعل الشاعر الفارس هازاً رأسه، وإنما عمد إلى التشكيل الاستعاري، فأتي بلفظة الرغبة وذهب إلى تجسيدها إذ جعل لها رأساً وقرنها به إضافياً ليكون هو الفاعل، وهكذا استحالت النساء قصائد مؤكدة التأنيث وكأنهن مُهرات زادهن دِلّهن رقة وحسنا ليستحيل الشعراء فرساناً تأسرهم تلك الرقة وذاك الدلال. لذا يختم الشاعر قصيدته بقوله: النساءُ قلوبُ الرجال/ لذلك لن يعمر القلبُ أرضاً/ بدون نساء. الملاحظ أن الشاعر لم يشأ إلا أن يبتدئ المقطع الختامي لقصيدته بلفظ النساء أيضا، أما الخبر فكان هذه المرة قلوب الرجال لتكون هذه الجملة الاسمية الأساس الذي يعتمده في تحقيق مبتغاه الشعري الذي أفصح عنه في التشكيل الشعري اللاحق، فالشاعر يريد أن يعمر الأرض لكنه اعمار مختلف لربما يراه الشاعر هو الأولى وهو المبتدى الذي تتحقق بتحققه كل أنواع الاعمار، ذلك هو اعمار القلوب الأرض، فهو اعمار حب ومودة وسماحة إذن، وبما أن النساء تساوي قلوب الرجال كما يرى الشاعر فسوف لن تُعمرَ الأرض بدون النساء، فهن منبع العاطفة ومصدر المحبة الأساس وهذا ما أراد تأكيده الشاعر بتشكيله الشعري الذي كان موفقاً فيه، وجميل هنا أن يحضر قول طاغور» إن الله حين أراد أن يخلق حواء من آدم، لم يخلقها من عظام رجليه حتى لايدوسها، ولا من عظام رأسه حتى لاتسيطر عليه، وإنما خلقها من أحد أضلاعه لتكون مساوية له قريبة منه «. وفي الختام نقول: إن هذه القصيدة تمثل احتفاء الشاعر بالمرأة وتصور رؤيته الإنسانية والشعرية لها، ولابد من الإشارة إلى ذلك وتأكيده على وفق المستوى الإحصائي أيضا ففضلا عن عنوان القصيدة الذي جاء بلفظ النساء كرر الشاعر لفظ النساء أربع مرات، وجعلها المبتدى لكل مقطع من مقاطعها على الرغم من قصرها، فضلاً عن احتواء ستة من ألفاظها على النون الأنثوية، ففي اللفظ دِلهنَّ اقترن الضمير هنَّ وهو ضمير لجمع النساء، وفي خمسة أفعال اقترنت نون النسوة بدلالتها الأنثوية وبوصفها على المستوى النحوي فواعل لهذه الأفعال التي أوردها بصيغة المضارع وهي على التوالي (يقطرْنَ، يبلِّلْنَ، يأسرْنَ، يعشقْنَ، يسكنَّ). إن مجيئ الشاعر بهذه الأفعال المضارعة مقترنة بنون النسوة إنما يشي بتأكيد دلالاتها التي تضمنتها التشكيلات الشعرية على مقتضى الدلالة الزمنية لهذه الأفعال حاضراً ومستقبلاً مطلقاً دونما تحديد، وهي صورة المرأة كما رسمها الشاعر في هذه القصيدة.
الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 02-08-2019 10:10 مساء
الزوار: 1279 التعليقات: 0