|
عرار:
تحكي مذكرات "أوراق من الجنوب" للكاتب المغربي عبد المجيد صرودي شهادات ومعيش أستاذ من الجنوب الشرقي، بعد تنقله للتدريس بـ"أوسرد" في أقاصي الصحراء المغربية، بعيدا عن الأهل والديار والأحباب. ومن بين ما يرد في المذكرات توثيق لاكتشافات الراوي معمارَ أقصى الجنوب وقيم سكانه وعاداتهم، وما أحس به بعد العيش بينهم وقراءة أدبهم ومحاولة فهم لهجتهم. وبالرغم من الإعجاب الواضح بثقافة أقصى الجنوب المغربي، تحكي صفحات مذكرات صرودي تطلعا مستمرا للرجوع إلى حيث الأصحابُ والعائلة والأحباب. تباطُؤُ الزمن : ساعة واحد بمدينة العيون كانت كافية لتقويض أحكام عبد المجيد صرودي المسبقة حول المدينة، بعدما وجد فيها عيون الساقية الحمراء والثقافة والعمران والزهو والشاي وأهل البيظان، أي متكلمي اللهجة الحسانية. ويتتبع الراوي إحساسه بتباطؤ الزمن وهو متجه إلى الداخلة في طريق ممتدة، "فيها وادي الذهب والأنعام، وشبه الجزيرة والأعلام، والأنفاس والإقدام" وصديق له ينتظره. وكانت رحلة الراوي إلى أوسرد ذات الرمال الذهبية والمناخ الحار، التي يرجع اسمها الأمازيغي القديم إلى ركام متراص من الحجر والصخر على شكل هضبات متوسطة العلو تتخذ شكل قلوب. ويحكي صرودي قصص "أوْسرد" المركز التاريخي، الذي شهد معركة "لكلات" الملحمية، والذي يوجد بجنوبه موقع منطقة بولرياح الأثري. في أوسْرَد : يقع إقليم أوسرد بجهة الداخلة وادي الذهب، وهي منطقة قليلة السكان، وتعرف مدارس أوسرد أقل عدد تلاميذ مقارنة بنظيراتها؛ لكن بالرغم من ذلك "لا يعلو صوت فوق صوت القنوط والملل بها"، خاصة بسبب غياب الفضاءات الخضراء والمتنفسات العائلية؛ وهو ما يؤدي إلى إحساس أطفالها بالحرمان، وتعاني المنطقة أيضا من ارتفاع أسعار الخضر وبعض المواد القادمة من الشمال بحكم البعد وغلاء التسعيرة، وارتفاع أثمنة التنقل جوا وأرضا. ولم ير السارد من الناس الذين نصبوا الخيام وبنوا الديار بهذا المكان إلا الخير والاحترام والوقار، كما رأى فيه التنوع الثقافي الغني والثري الذي "يحفظ الإرث المغربي والوحدة الكبرى في انصهارها ضمن الحضارة الإنسانية". ومن بين العناصر المكونة لهذا المجموع القبائلُ الحسانية التي تنتمي إلى القبائل العربية المعقلية التي يرجع نسبها إلى جعفر بن أبي طالب، واستطاعوا نشر لهجتهم العربية الحسانية التي هي لهجة بني حسان الوافدين على الصحراء بعدما امتزجت بكلمات صنهاجية خاصة المعبرة منها عن حياة الرعي والفلاحة. ويسترسل الكاتب شارحا أن هذه اللهجة بدوية عربية ممتدة من درعة السفلى شمالا إلى نهر السنغال جنوبا، ومن المحيط الأطلسي في الغرب إلى أزواد شرقا، وهي أقرب إلى اللغة العربية الفصيحة لإثباتها التثنية في شكلها النحوي، وإثباتها المضاف إليه دون استعمال كلمة زائدة، وانضباط مستعمليها بفصاحة كلامهم، وسلامة نطقهم مخارجَ حروفهم. ومن مكونات المنطقة الأخرى القادمون من شمال المملكة وجنوبها الشرقي ووسطها، أي من أكادير وقلعة السراغنة وورزازات وبني ملال وغيرها. واستقرت هذه الساكنة بالمنطقة لاعتبارات اجتماعية واقتصادية، يذكر صرودي من بينها ما توفره قريةُ الصيد بالقوارب التقليدية "أفتاس" من شغل على ضفاف شاطئ المحيط الأطلسي. أدب حساني : يتحدث الكتاب عن الشعر الحساني الذي يسمى في الثقافة الحسانية بـ"لغن الحساني" الذي من بين موضوعاته الغزل والمدح والهجاء والبكاء على الأطلال؛ وهو نمط شعبي عربي يغنَّى ويرتجل غالبا ويحفظ دون تدوينه، عكس الشعر الفصيح الذي يكتب ويحفظ. وأورد صرودي في مؤلفه نماذج من الشعر الحساني رأى فيها "القيم النبيلة التي يتمتع بها الكائن الحساني بِحَثّهِ الشباب على الأخذ بالقيم ومكارم الأخلاق وحمايتها من الاندثار لأنها سر النجاح، كي لا يذهب في مهب الرياح تأخُذُهُ حيث تشاء".. ومن بين مكارم الأخلاق التي تحُث عليها بعض قصائد الشعر الحساني الاحترامُ والكرمُ والإحسانُ، كما تتغنى قصائد أخرى بالبحر وأهميته عند قبائل ساحل الصحراء، وثقافة "الكيطنة" أو التخييم، وتتأرجح بعضها بين النظرة للماضي بعين الحنين لزمن "البكري" الذي كانت فيه البركة والقناعة والبساطة، ورفضه لأنه زمن التعاسة والجوع و"السيبة". نَفَسٌ جديد : بعد تحول مجتمع الرحل بشكل شامل، واتجاهه نحو الاستقرار النهائي، انتشرت فيه ببطء عادة شرب الشاي، حتى عمت كل فئاته ومختلف مناطقه في أربعينيات القرن العشرين. وأصبح هذا المشروبُ الغريب الذي ينصح به بعض الأطباء ويختلف حوله الفقهاء، جزءا من ثقافة المجتمع الجديد، وطريقةً في الحياة وتقليدا في الاستقبال والتجمع يحاط بجو من الجدية والوقار، مسقطا بذلك عن الحليب رمزيته المتجذرة، ليصير بالتالي الشايُ رمزا للأصالة. ومن بين ما يحكيه صرودي في أوراقه صعوبات ذاتية عاشها وأسهمت في قربه أكثر من الثقافة الحسانية بعد تأخر أجرته تسعة أشهر كاملة، وهو ما أغرقه في اليأس بضع مرات إلى أن تيقن من صحة المثل الحساني: "المُرُّ هو نفسه الحلو". ويختم صرودي مذكرات "أوراق من الجنوب" بسرد أحداث طريق عودته إلى بلدته بعد مسار تجاوز 36 ساعة، و2800 كيلومتر، "وعبق الماضي لا يزال يفوح من ذاكرته"، هو "وألق الحاضر، وإشراق المستقبل"، حتى "يولدَ الحُلم بنَفَس جديد". الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 31-08-2018 09:36 مساء
الزوار: 1220 التعليقات: 0
|