عرار :انتهت الحلقة الثالثة من برنامج "المغاني" ولم ينتهِ الكلام، فقد ارتحل ضيوف الحلقة من شرق الوطن العربي إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه شعراً ووزناً وبحراً، ولأن المسير طويل لم يصلوا بالمشاهدين إلى القرار، إنما فتحوا بحديثهم الغني والجاد بوابات الأسئلة، وتركوها مشرعة على مصاريعها.
جغرافيا الشعر.. كان عنوان الحلقة التي بثتها ليل أمس الأربعاء على الهواء مباشرة قناة شاعر المليون، وقد طال الأخذ والرد بين مقدم الحلقة عارف عمر، ورعد بندر المشرف الثقافي في أكاديمة الشعر والشاعر عبدالرحمن الشمري، وخلف السلطاني مؤسس موقع شظايا أدبية ومدير وكالة أنباء الشعر، ود. ميثا الهاملي.
قريباً من الشعراء
خلال الحلقة تحدثت د. ناديا بوهنّاد عن الصفات النفسية والسلوكية للشعراء الثمانية الذين شاركوا في الحلقة الثالثة من "شاعر المليون" والتي تم بثها ليل الثلاثاء الفائت، وقارنت بين نتائج الاختبارات التي خضع لها الشعراء قبل اعتلائهم منصة المسرح، وبين حضورهم أثناء إلقائهم قصائدهم، وأكدت د. ناديا أنها أثناء تحليلها شخصيات الشعراء لا تركز عادة على السلبيات، إنما تحاول إظهار الإيجابيات، وإن أرادت التحدث عن السلبيات فإنها لا تفعل ذلك بقسوة خشية التأثير سلباً على نفسيات الشعراء كي لا تتأثر، وأشارت إلى أن بعض الشعراء لم يكونوا دقيقين في إجاباتهم، الأمر الذي أثر على نتائجهم النهائية، فبدوا في الواقع غير ما كانوا عليه على الورق، لكنها لاحظت أن أداء الشعراء يتحسن من حلقة إلى أخرى، وأن بعضهم يختارون القصيدة التي تناسبهم، ويشعرون أنها الأقرب إليهم، بغض النظر عن الجمهور.
ثم استعرض عارف عمر ما نشره الإعلام المكتوب والمرئي والإلكتروني حول الحلقة الثالثة من مسابقة "شاعر المليون".
وحول ذات الموضوع رأى رعد بندر أن الهدف الأساسي والإستراتيجي للمسابقة منذ انطلاقها هو صناعة المبدع، وفي ظل هذا الهدف كان القلق يترسخ عند الشاعر في كتابة القصيدة، وفي تفاعل الجمهور مع ما كتب، وفي تفاعل اللجنة أيضاً مع النص الذي أنجزه، لكن في الدورة الحالية أصبح لدى الشاعر قلقاً رابعاً يتعلق بنفسيته وبحركة جسده على المسرح أثناء إلقاء قصيدته، ولهذا وضع الشاعر في داخله رقيباً داخلياً على حركاته وعلى انفعالاته وعلى تعابير وجهه، والتي حرص أن تتكامل كلها مع النص، الأمر الذي أثر على بعض الشعراء، بحيث لم يختاروا القصيدة المناسبة التي عليهم إلقاءها، إنما اختاروا أضعف ما كتبوا، وبرأي بندر أن تداخل الآراء فرض أثره على الشعراء، ومع ذلك فإن أمهر ناقد للشاعر هو ذات الشاعر.
من جهتها أشارت د. ميثا الهاملي إلى أن الشعراء في كل حلقة كانوا أكثر تركيزاً على ذواتهم، وبالغوا في مراقبة حركاتهم، الأمر الذي دفع بعضهم للظهور على غير حقيقتهم.
الشاعر عبدالرحمن الشمري اعتبر أن لكل حلقة من حلقات المسابقة عدة محاور من بينها محور الشعر الذي قدمه الشعراء وكان في جلّه جميلاً، والمحور الإنساني الذي يربط بين الشعراء وأعضاء لجنة التحكيم، وهنا انتقد الشمري لجوء بعض أعضاء لجنة التحكيم إلى تسفيه نص ضعيف لشاعر، وفي ذلك تجريح كبير لذات الشاع، وقسوة كبيرة عليه، واستهجن أن بعض الشعراء لا يردون على ذلك، متسائلاً هل ثمن ما يمنع الشاعر من الرد على من قسى عليه أو سفّه قصيدته.
وفي ذات الإطار طالب خلف السلطاني إدارة "شاعر المليون" بقوننة المسابقة أكثر، حيث لاحظ أن اللجنة مرةً تراعي قافية ومرة أخرى لا تفعل، ومرة تقبل مفردة ومرة أخرى ترفضها، ولهذا لابد من توجيه الشعراء من خلال ورشة عمل مثلاً قبل خوضهم المسابقة ليتعرفوا على ما هو مقبول وما هو مرفوض.
جغرافية الشعر.. جغرافية الوطن
كانت القضية التي طرحها "المغاني" على بساط البحث حيوية، وتحتمل الجدل، كما تحتاج إلى عدة حلقات لأنها متشعبة، ومحاورها كثيرة، وحول ذات القضية قال خلف السلطاني إن الجغرافيا الشعرية تختلف تماماً عن الجغرافيا السياسية، ففي الشعر العربي البحور واحدة، والأوزان واحدة، والموسيقا كذلك، وهذا ينطبق أيضاً على الشعر النبطي مع اختلاف المفردات أو طريقة نطقها.
صحيح أن ديوان العرب هو الشعر، لكن للشعر مقامات، وأنواع وأغراض، وحتى إن اختلف في كل ذلك إلا أنه يبقى شعراً، فالشعر النبطي هو واحد عند كل القبائل العربية، ولا يختلف في جوهره ولا في قوافيه ولا في أوزانه سواء كان من بادية الشام أو من بادية سيناء أو من بادية المغرب أو من الجزيرة العربية، أما الاختلاف الوحيد فيتمثل في اللهجات وما تحمله من مفردات خاصة بكل منطقة.
ومن البحر الهلالي المرتبط بتغريبة بني هلال بدأ رعد بندر الحديث، فأشار إلى رحلة بني هلال القسرية التي جاءت إثر العداء الذي نشب بينهم وبين الدولة الفاطمية منذ عام 1149، وكان بنو هلال كلما ذهبوا إلى منطقة جغرافية نقلوا معهم إرثهم الشعري، ولا بد أنهم خلال تلك الرحلة الطويلة أثروا وتأثروا بالمناطق التي مروا فيها، وذكر بندر أن السيرة الهلالية لم تدون إلا بعد 300 سنة من هجرتهم، والوحيد الذي كتب 200 بيت من سيرتهم هو ابن خلدون في مقدمته، حيث جاء التدوين من خلال السماع، وقد أثارت السيرة الهلالية الكثير من الأسئلة، فهل كتبت أثناء تغريبتهم؟ أم أن الذي كتبها الأحفاد نقلاً عن الأسلاف؟ وهل كانت تلك السيرة هي بداية الشعر النبطي؟ وهل ظل الشعر النبطي يراوح في مكانه وزناً منذ ذلك الزمن؟ وخلال حديثه قارن بين بحر الرجز أول البحور في الشعر العربي، وبين التغرودة والصخري.
وعما إذا كانت هناك جغرافيات أخرى للشعر أكد خلف السلطاني ذلك، وهي حسب رأيه لا علاقة لها بالحدود السياسية بين البلاد، إنما هي جغرافيا الأذهان والثقافة والأرواح المرتبطة بالإنترنت، وكما أن الجغرافيا الواقعية أثرت على نوعية القصائد ومسمياتها وألفاظها، كذلك أثرت الجغرافيا الافتراضية على الشعر، فقد اختلف نتاج الشعراء في الإنترنت عن نتاجهم العادي والتقليدي، فالشاعر في الإنترنت اختلف عنه على الورق، كما أشار السلطاني إلى أن الإنترنت مقسم أيضاً إلى جغرافيات، ففي المنتديات يكتب الشعراء قصائد مطولة، وفي المواقع الاجتماعية مثل التويتر يكتبون قصائد قصيرة جداً قد لا تتجاوز البيتين، وربما تدخل فيهما مفردات حديثة وربما حداثية، وأضاف أنه لا بد من دراسة تلك الظاهرة لأنها مهمة.
وعن سؤال وُجه للدكتورة ميثا حول التغرودة قالت إن هذا الفن السهل الممتنع عماني وإماراتي فقط، والمؤسف أنه في طريقه إلى الزوال، والسبب هو عدم امتداد جغرافيته المكانية بعيداً عن هاتين الدولتين، واختلاف نمط الحياة، حيث ارتبطت التغرودة في الماضي بالركوب على المطية أو على الفرس، مشيرة إلى أن مثل هذا النوع من الشعر يحتاج إلى فن عالٍ وإلى سرعة بديهة، ولهذا فإن البدو مشهود لهم فيها، ولإنقاذ التغرودة فقد عملت هيئة أبوظبي للثقافة والتراث باسم دولة الإمارات وبالتعاون مع سلطنة عمان إلى تقديم ملف عن هذا الفن لليونيسكو لتسجيله في قائمة التراث المعنوي، وحفظه من الضياع.
وفي عودة لأصول الشعر النبطي قال الشاعر عبدالرحمن الشمري إن الأوزان الفراهيدية موجودة عند  العرب من الماء إلى الماء، كما أن القصيدة العربية ذات قوافٍ واحدة، لكن بعد احتكاك العرب بحضارة الأندلس فقد استوعبوا إيقاعات جديدة كانت قد ولدت في الأندلس، كما استوعبوا الموشحات التي تحمل فافيتين هما: المذهب والكوبليه، ومع التقادم والابتعاد عن العربية الفصحى ودخول اللهجات أصيبت الأوزان باضطراب.
أما الهلاليين فقد استخدموا وزني الهلالي القصير والهلالي الطويل، وكتبوا على بحري الوافر والمجزوء البسيط، مشيراً أن تغريبة بني هلال السياسية ضمت عدداً من القبائل من بينها تميم وبني رياش وعنزة وبني سعد وغيرهم، وقد تحرك هؤلاء على امتداد الوطن العربي، فوزعوا أدبياتهم على الجغرافيا التي ذهبوا إليها، ولاحقاً استقبل الشعر النبطي القافيتين، وهو المتواجد أصلاً في الأحواز واليمن وبلاد الشام والجزيرة العربية والعراق، وفي معرض حديثه انتقل الشمري إلى الشعر الشعبي العربي الحاضر في كل الوطن العربي، والتي أثرت فيه موجات الغجر التي كانت ترتحل، ومدارس التصوف.
ومن خلال اتصال هاتفي تحدث قاسم الرويس الكاتب في جريدة الرياض عن الشعر النبطي الذي يعتمد على الرواية الشفاهية، وعن الراوية الذي هو أساس انتشار الشعر، ومن هنا كان لكل شاعر راوية، فإذا كان الراوية من نفس البيئة فإنه ينقل قول الشاعر بدقة، وغير ذلك فإن قول الشاعر يتعرض للتشويه وللتحريف لأن الراوية ينقل بلهجته.
وختم عارف عمر الحلقة بسؤال وجهه لخلف السلطاني حول إن كنا سنعيش ثورة في الشعر، على غرار الثورات العربية، فأجاب السلطاني بأن مسابقتي "شاعر المليون" و"أمير الشعراء" أوقفتا أي حراك من شأنه أن يقود إلى ثورة في الشعر على المدى المنظور.