|
مُحمَّد عبد الفتَّاح حليقاوي إذا أرْجَعْنَا التبصُّر في الاستشراق وَجَدْنَا أنَّه ذلك التيَّار الذي ظَهَرَ في الدِّرَاسَات المُخْتَلِفَة عن المَشْرق العَرَبيّ والإسلاميّ، واشْتَمَلَ على حَضَارَتهِ وآدَابهِ ولُغَاتِهِ وثَقَافَته، وقد أسْهَمَ هذا التيَّار في صِيَاغَةِ التصوُّرَات الغَرْبيَّة عن الوَطَن العَرَبيّ، وعبَّر عن الخلفيَّة الفِكْريَّة للصِّرَاع بينهما، ولا رَيْبَ أنَّ الاستشراق هو الوليد الطَّبيعيّ للثَّقَافَةِ التي تُنْتِجُه، فالمُفَكِّر إلى حَدٍّ كَبيرٍ هو رَهينُ الثَّقَافَة التي ينشأ فيها ولَيْسَ وَليداً للمَوْضُوع المَدْرُوس، ولذا لم يستطع أيّ مُسْتَشْرِق أنْ يَسْتَقْرئ مَوْضوعاته دونَ الخُضُوع للقَوَالِبِ والحُدودِ الفِكْريَّة والعِلْميَّة المَفْرُوضَة عَليه مُسْبَقَاً، بسببٍ مِنْ ثَقَافَتهِ التي يَصْعُب عليه الانْفِلَات منها، ولقد استفاد الاسْتِعْمَار الأوروبيّ الحَديث كثيراً مِنَ التُّرَاثِ الاسْتِشْرَاقيّ، حيث يُؤكِّد إدوارد سعيد في كتابه: «الاستشراق» بأنَّه قد تَوَاكَبَت مَرْحَلَة التقدُّم الضَّخْم في مُؤسَّسَات الاستشراق، في شَكْلِهِ ومَضْمُونه، مع التوسّع الأوروبيّ. ونَظيرُ هذا الرأي ما يُقرِّره مَالك بن نَبي في كتابه: «إنتاج المُسْتشرقين وأثره في الفِكْرِ الإسلاميّ الحَديث» بأنَّ أوروبا سَعَت إلى اكتشاف الفِكْر الإسلاميّ في المَرْحَلة الاستعماريَّة، لا مِنْ أجل تَعْديلٍ ثقافيّ، بل مِنْ أجل تَعديلٍ سياسيّ يُطَابِقُ خططها السياسيَّة، وصولاً إلى السَّيْطَرة على الشُّعُوب الخَّاضِعَة لِسُلْطَانها، ذلكم أنَّ الخِطَاب الاستشراقيّ لَمْ يكن أميناً في دراستهِ للتُّرَاثِ العَرَبيّ والإسلاميّ، ممَّا نَتَجَ عنه أنْ يُشَوَّه الاستشراق مِنْ نَفْسِهِ ومِنْ تَاريخه، كما شَوَّه إنجازاته، وشَوَّه الشَّخصيَّة العَرَبيَّة أمَامَ نَفْسِها وأمَامَ الغَرْب، فما استطاع الغَرْبُ أنْ يفهمها حينَ تَعَامَل معها، وما استطاعت أنْ تُعرِّف نفسها للغَرب، إذْ سبقها الاستشراق، وأغْرَى بها الاستعمار، وقدَّما بلادنا لُقْمَةً سَائِغَةً للهَيْمَنَةِ والاحتلالِ والإلغَاءِ والتهميش. ومِنَ العَسِيرِ، عند هَذهِ النُّقْطَة مِنَ السِّيَاق، وقد كَانَ الاسْتِشْرَاق مُرْتَبِطَاً بالاستعمار، أنْ يُقيمَ الاستشراق عَلَاقات اعْتِرَافٍ مُتَبَادَلَة بَيْنَ المُجْتَمَع العَرَبيّ والغَرْب، ولعلَّ هذا يقودنا إلى التَّسَاؤُل المَنْهَجيّ: كَيْفَ يُمْكِن لأطْرَافٍ يَجْهَل بَعْضُهَا بَعْضَاً، أو يَتَجَاهَل بَعْضُهَا بَعْضَاً، أنْ تَعْتَرِف اعترافاً مُتَكَافِئَاً وحَقيقيَّاً؟، وكَيْفَ يُمْكِن لها بدونِ اعتِرَافٍ تامٍّ بوجودها الإنسانيّ المتناسق أنْ تتعرَّف إلى بعضها تَعرُّفاً مُخْتَبريَّاً كالذي أوْصَلَنا إليه المُخْتَبَر الاستشراقيّ، ثُمَّ المُخْتَبَر السياسيّ – الاستعماريّ بِكُلِّ تَبِعَاته الاقتصاديَّة والعسكريَّة والثقافيَّة؟، كما يُؤكِّد خليل أحمد خليل في دراسته: «الاستشراق مُشْكِلَة مَعْرِفَة أمْ مُشْكِلَة اعتِرَاف بالآخَر». ولعلَّه مِنْ قبيل الموضوعيَّة الإشارة إلى وجود مجموعة مِنَ المُسْتَشْرقين الذين دَرَسُوا تُرَاثَنَا وحَضَارَتَنَا بمنهجيَّة عِلْميَّة مُحَايِدَة نِسْبِيَّاً، مثل دِرَاسَات توماس أرنولد، وغوستاف لوبون، وجاك بيرك، وتوماس كارليل، وإتيان دينيه، ولكنَّ هذه الدِرَاسَات ظلَّت ضَئيلة التأثير بالقياس إلى سَيْل الدِرَاسَات الاستشراقيَّة التي بَلَغَت في الفترة مِنْ 1950 - 1811م قُرَابَة سِتين ألف كِتَاب تُعْنَى بالشَّرْقِ العَرَبيّ وَحْدَه، كما أوضح ذلك غسَّان سَلَامة في دراسته: «عَصَبُ الاسْتِشْرَاق»، بل إنَّ الكَنيسة في أوروبا مَنَعَت تَدَاول الكُتُب التي أظْهَرَت عَطْفَاً أو حِيَادَاً بخصوص الحضارة العَرَبيَّة والإسلاميَّة، ووضَعَتْهَا في قَائِمَةِ المُحرَّمات، وبَطَشَت بمؤلِّفيها. ويَنْتَسِبُ إلى هَذهِ الأنْظَار تَسَاؤُلٌ حول الكيفيَّة التي تَراكَم بها هذا الانْحِرَاف الاستشراقيّ، في الوقت الذي كان فيه للإسلام وُجودٌ فَاعِلٌ في أوروبا، ابتداءً مِنَ القَرْن الثَّامن الميلاديّ وحتى انهيار الدولة العثمانيَّة، أيْ أنَّ عُلَمَاء وفُقَهَاء المُسْلمين، قديماً وحديثاً، يتحمَّلون قَدْرَاً كبيراً مِنَ المَسْؤوليَّة في بُروزِ ذلك الانْحِرَاف واستمراريَّته، ذلك أنَّهم تركوا السَّاحة الفِكْريَّة للمُسْتَشْرقين يُدرِّسُون في جامعاتنا، ويجمعونَ المَخْطُوطَات العَرَبيَّة، بل ويكتبون تاريخ الأدب العَرَبيّ، ودَائِرَة المَعَارِف الإسلاميَّة والمَعَاجِم، وبصورةٍ أدقّ، فإنَّ الفِكْرَ الاستشراقيّ بعد أنْ شكَّل العَقْليَّة الغَرْبيَّة، وحدَّد موقفها العَدَائيّ تجاه الإسلام انتقلَ بآلياته المَعْرفيَّة إلى تشكيل العَقْل العَرَبيّ ذاته، ليحدِّد موقفه هو الآخَر نحو العُرُوبَة والإسلام وحضارتهما، مِنْ خلال توطين الاستشراق فِكْرِنا وحاضرنا ومستقبلنا. ولَمْ يَكُن بُدٌّ، هُنَا، مِنَ اجتِرِاحِ عِلْم الاسْتِغْرَاب في مواجهة الاسْتِسْرَاق، ذلكم إنَّ حُضورَ «الآخَر» الغَرْبيّ الطَّاغي والمُهَيْمِن، الذي يُبشِّرُ بثقافتهِ وقِيَمهِ وفَلْسَفَتهِ وعقائدهِ على أنَّها الصَّواب المُطْلَق، وسَبيل الخَلَاص، مِنْ خِلَال قُدُرَات إعلاميَّة هَائِلَة وسَاحِرَة، تتحكَّم بِعَقْل الإنْسَان وحياته، وإنتاج تَقَنيّ يَحْكُمُ حَرَكَته وحَاجَاته، يتطلَّب إعَادَة تنظيم وفَهْم «الذَّات»، ويقتضي الكثير مِنَ المُرَاجَعَة والنَّقْد في سَبيل الخُرُوج مِنَ الصَّحْرَاء المُظْلِمَة التي نعيش فيها منذ ألف عام، فما تزال قضيَّة التعرُّف على «الآخَر» والتَّوَاصُل مع أنْسَاقِهِ المَعْرفيَّة، وتجربته الحَضَاريَّة، وخَصَائِصه، مَسْألة شَائِكة في الفِكْرِ العَرَبيّ الحديث، حيث تُشكِّل عَمَليَّة ضَبْط العَلاقَة مع «الآخَر» الذي تكاد تُطْبِق إشْعَاعَاتُه على كُلِّ الآفَاق قِمَّة الغَاية التي يسعى إليها عَالَم الأفْكَار في مجتمعنا. ومِنْ أبرز الإسْهَامَات الفِكْريَّة في هذا الإطار كتاب: «مُقدِّمَة في عِلْم الاستغراب» للمُفكِّر حَسَن حَنفي، والذي دَرَسَ فيه منطلقات وآفاق الرُّؤْيَة في التَّعَامُل مع الغَرْب، وأكَّد أنَّ وظيفة «عِلْم الاستغراب» هِيَ فَكُّ عُقْدَة النَّقْص التَّاريخيَّة والثَّقَافيَّة في عَلاقة الأنَا بالآخَر، والقَضَاء على مُركَّب العَظَمَة لدى الآخَر بتحويلهِ مِنْ ذَاتٍ دَارِسٍ إلى مَوْضُوعٍ مَدْرُوس، والقَضَاء على مُركَّب النَّقْص لدى الأنَا، بتحويلهِ مِنْ مَوْضُوعٍ مَدْرُوسٍ إلى ذَاتٍ دَارِس، ووظيفته الأولى تَجَاوُز حَالَة الإحْسَاس بالنَّقْص أمَام الغَرْب، لُغَةً وثَقَافَةً وعِلْمَاً ومَذَاهب ونظريَّات وآراء، مع ملاحظة أنَّ «الاستغراب» تأسَّسَ مِنْ أجل استكمال حَرَكَة التحرُّر العَرَبيّ والإسلاميّ على مستوى التحرُّر الثَّقَافيّ والاستقلال الحَضَاريّ، وتحويل الغَرْب مِنْ كَوْنِه مَصْدَرَاً للعِلْم كَيْمَا يُصْبِحَ مُوْضُوعَاً للعِلْم، ومِنْ ثَمَّ يُمْكِن تَجَاوز ظَاهِرة «التَّغْريب» في مُجْتَمَعِنَا المُعَاصِر، والقَضَاء على حَالَة الانْبِهَار بالغَرْب كَنَمُوذَجٍ وَحيدٍ وأبديٍّ لتقدُّمِنَا، وحِمَايَة الثَّقَافَة العَرَبيَّة والإسلاميَّة مِنَ التشظّي إلى مُتَنَاقِضَات مثل: عَلْمَانيَّة وسَلَفيَّة، والانتقال مِنْ ثَقَافَة رَدِّ الفِعْل إلى آفاق الدِّرَاسَة العِلْميَّة المَنْهجيَّة، فضلاً عَنْ إعادة الثَّقَافَة الغَرْبيَّة إلى حُدُودِهَا الطبيعيَّة والحقيقيَّة، وإثبات تاريخيَّتها. وتفسير هذا أنَّه لا يكفي أدَب الرِّحْلَات بَيْنَ الشَّرْق والغَرْب لِبِنَاء خِطَابٍ سِيَاسيّ وحَضَاريّ يُعبِّر عن مَوازين القِوَى، ويُمثِّل بُوصَلَة إنسانيَّة للتَّعَامُل مع الآخرين، وعند هذه النُّقْطَة يُمْكِن الانتقال مِنْ صِدَام الحَضَارات إلى حِوَارِها، ولذا صَاغَ حَسَن حنفي رُؤاه هَذهِ بالقول: «إذا كَانَ الاستشراق يُعبِّر عن ذُرْوَة الحَضَارة الغَرْبيَّة، وهِيَ الآن في نهايتها، فإنَّ الاستغراب قد يُعبِّر عَنْ ذُرْوَة جَديدةٍ للحَضَارَة الإسلاميَّة، وهِيَ في بدايتها»، وأضاف إنَّ مِنْ مَهمَّات هذا العِلْم الجديد مُوَاجَهَة المَرْكزيَّة الغَرْبيَّة، وبيان كيفَ أخَذَ الوَعْي الغَرْبيّ مَرْكَز الصَّدَارة عبر التَّاريخ الحديث داخل بيئته الحَضَاريَّة الخاصَّة، إلى جانب إعادة ثَقَافَة الغَرْب إلى إطِارهَِا الخَاص بها بعد أنْ انتَشَرت خارج حدودها إبَّان عُنْفُوَانِها الاستعماريّ، بعد السَّيْطَرَة الإعلاميَّة الكَامِلَة من خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ، ودور النَّشْر الكبرى، ومَرَاكِز الأبحاث العِلْميَّة، والاستخبارات. على الشاطئ ذاته، يُقدِّم غريغوار مرشو في كتابه: «مُقدِّمَات الاستتباع.. الشَّرْق موجود بغيره لا بذاته» مَنْهجيَّة دقيقة في تأسيس عِلْم الاستغراب، حيث يُؤسِّس رُؤْيته الفِكْريَّة على أصول عِلْميَّة تَتَجَاوز الضَّجيج الإعلاميّ نحو أُطُرٍ فِكْريَّة واضحة وقادرة على استيعاب الفِكْر الغَرْبيّ، مِنْ خِلَال تَوخّي قِيَم العَدَالَة، وابتغاء الحَقيقة، على أساس أنَّ الوُصُول إلى الحقيقة والموضوعيَّة أعْظَم وأجْدَى مِنَ الانْتِصَار على الآخَر، وإلَّا نَكون قد كَرَّرْنَا مَنْهَج الغَرْب في التَّعَامُل مع الفِكْر الإسلاميّ، والإنْسَان العَرَبيّ، ومِنَ الأهميَّة بمكان عدم الاكتفاء بتعريف الاستغراب ووضع حُدوده ورُسُومه، بل تحويله إلى حَقْلٍ مَعْرفيٍّ يَبْحَث في أسرار انتقال الغَرْب إلى مَرْكَز مُهَيْمِن على جميع الأطراف عَبْر عُلُومه، وقَوَاعِده الفَلْسفيَّة، ومَطَامِعِه، وطُمُوحَاته، تكريساً لمركزيَّته، واستتباع أطرافه، بعد قَهْر ثَقَافتهم وتهميشها وتقديم بدائل نَمَطيَّة تارةً باسم «التَّثَاقُف»، وأُخْرَى باسم «العَقْلَنَة»، وثَالثَة باسم «الحُريَّة والديمقراطيَّة»، وهذا كُلّه أمَلاً في تمرير شَبَكَة واسعة مِنَ المَعَارِف، والمُعْطَيات التاريخيَّة، والجيوسياسيَّة، والأيديولوجيَّة، بحيث تُطْمَس هويَّة الآخرين، ومِنْ أبرز تجلِّيَات هذا الأمر ظُهُور تسميات يختارها الآخَر مثل: الشَّرْق الأوْسَط، والعَالَم الثَّالث. وقد تفطَّن عبد الوهاب المَسيري إلى هذا السياق فأكَّد أنَّه إذا كانَ الغَرْب قد تحوَّل إلى مُطْلَق فقد أصْبَحَ وَاجِبَاً أنْ يَسْتَعيد نِسْبيَّته وتاريخيَّته وزمنيَّته، وإذا ظلَّ يَشْغل المَرْكز دَهْرَاً، فإنَّه يجب أنْ يصبح مرَّة أُخْرَى عُنْصُرَاً واحِدَاً ضِمْنَ عَنَاصِر الاختلاف الأُخْرَى التي تُكوِّن عَالَم الإنسان، وإذا كانَ يَعْتَبِر نَفْسَه عَالَمِيَّاً وعَامَّاً فلا بُدَّ أنْ نُوضِّح خُصوصيَّته ومَحلِّيَته، أيْ أنَّ الغَرْب يجب أنْ يُصْبِح غَرْبيَّاً مَرَّة أُخْرَى لا عَالَمِيَّاً لنسبيَّته ونِسْبيَّة أُسُسهِ غَيْر المَعْصُومَة، وهذا الغَرْب يعتقد أنَّ في هذا العَالَم ما يكفي لتفسيره، أو بصورةٍ أدقّ، إنَّ هذا الغَرْب يَنْفِي وُجُود «إله»، أيْ أنَّ ثُنَائيَّة الخَالِق والمَخْلُوق تُلْغَى في حضارتهم تماماً، حيث بَدَأت المَنْظُومة المَاديَّة الغَرْبيَّة بإعلان عدم وجود «إله» باسم مَرْكزيَّة الإنسان، ثُمَّ انتهت بإعلان مَوْت الإنْسَان باسم الطَّبيعة والأشياء والحَقيقة المَاديَّة، وهَذهِ هِيَ الوَاحِديَّة المَاديَّة، وأنْ يَسُود مَنْطِق الأشياء على الأشياء، وعلى الإنْسَان ذَاته، هذا هُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَة في المَشْرُوع المَعْرفيّ الغَرْبيّ، وهو تحديداً ما يُقدِّم المَشْروع العَرَبيّ والإسلاميّ رُؤْيَة مُتَنَاقِضَة معه، ومُغَايِرَة له تَمَامَاً، وهو ما يُؤهِّلُنَا – حقيقة ً – لإعَادَة بِنَاء رُؤْيتنا الحَضَاريَّة الخاصة بحاضرنا ومستقبلنا. إنَّ مَدَار الحِوَار، في هذه الأطروحة، إذن، هو السُّؤَال: أينَ هِيَ مَشْرُوعَاتنا للنَّهْضَة العَرَبيَّة في الألفيَّة الثالثة؟، وهذا لا يعني إلْغَاء أو رَفْض مُحَاولاتنا الإصلاحيَّة السابقة، فهذا لَيْسَ مِنَ المَنْهَج العِلْميّ في شيء، ولَيْسَ مِنْ المَنْهَج أيْضَاً اجترار السَّابِق وكأنَّنَا قد توقَّفنا عن الإبداع والتجديد، وإنَّما نحن في مَرْحَلَةٍ جَديدة، وهَذهِ المَرْحَلَة لَهَا دَلالاتها وشُروطها واحتياجاتها ومُكوِّنَاتها وتحدِّيَاتها وآفَاقها الجَديدة، وإذا كانت النَّهْضَة تبدأ مِنْ مَرْحَلَة نَقْد الذَّات، فإنَّ هذا النَّقد يحتاج إلى تشخيص الذَّات، وهذا التشخيص يحتاج عَوْدَةً حقيقيَّة إلى الذَّات، ذلك أنَّ قِرَاءَة الغَرْب قِرَاءَةً وَاعِيَة عَبْر مَشْروعِ الاستغراب، بالتوازي مع تقديم المَشْرُوع الحَضَاريّ العَرَبيّ، باتَ ضرورة تُؤكِّدُها طَبيعة هذا العَصْر، ولا تتحقَّق هَذهِ القِرَاءَة الوَاعِيَة، والرُّؤْيَة المُتَكَامِلَة، إلَّا إذا امتلكنا نَاصِيَة العِلْم والمَنْهجيَّة، التي تُؤكِّد المُنْطَلَقَات الوَاضِحَة، والأهْدَاف الدَّقيقة، والوَسَائل النَّاجِعَة. إنَّ مَعْرِفَة «الأنَا» و»الآخَر» والإحَاطَة بِعِلْمِهِمَا وتَحْويلِهِمَا لِيُصْبِحَا مَحَلَّ دِرَاسَة، عَقَائدهما، وفَلْسَفَاتهما، وتَاريخهما، وأَدَبهما، لَمْ تَعُد خَيَارَاً، ولا تَرَفَاً ثَقَافيَّاً، ولا عَمَلاً نَخْبَويَّاً، وإنَّمَا كَانَ ولا يَزَال تكليفاً وطنيَّاً وإنسانيَّاً، حيث أنَّ مُحَاوَلَة بِنَاء أبجديَّة إنسانيَّة غَائِبَة حتَّى الآن عن الكثير منَّا لقراءة «الأنا» العَرَبيَّة، و»الآخَر» الغربيّة، ومُحَاوَلَة صِنَاعَة مُدْخَلات ثَقَافيَّة لكيفيَّة فَتْح المَغَاليق الحَضَاريَّة ما زَالَت في بداياتها أيضاً، على أمَلِ أنْ تغدو هَذْهِ الأفكار والمَشَاريع والوقائع مَحَلَّ دِرَاسَة ولَيْسَت مُسَلَّمَات فَوْقَ النَّقْد والمُرَاجَعَة، في مُحَاوَلَة جَادَّة للخُرُوجِ مِنَ الارْتِهَان الثَّقَافيّ إلى مستوى الشَّريك الحَضَاريّ، وظَاهِرٌ أنَّ تأسيس «فِقْه الاسْتِغْرَاب» سَيَكُون مُقَدِّمَةً نحو زِيَادَة الرَّصيد الإيجابيّ للعَرَبيّ المُعَاصر، فقد وَصَلَ حَديث النِّهَايَات في الغَرْب إلى أغْلَب الأشياء: العَقْل، والتَّاريخ، والجَغْرَافيا، والأيديولوجيَّا، والحَدَاثَة، ولكنَّنا نَزْعُم أنَّ الفُرْصَة ما تزال بِيَد هذا الإنسان العَرَبيّ، وأنَّه في ظِلِّ تكريس فِكْرَة النِّهَايَة في العَالَم الغَرْبيّ، فإنَّ التَّاريخ والمَنْطَق والحَقيقة تُؤكِّد كُلّها أنَّ العَرَبيّ وَحْدَه، بِعِلْمِه، وثَقَافَتِهِ، وسُلُوكِه، يَمْلِك فُرْصَة أنْ تَكُون له البِدَايَة مِنْ جَديد. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 14-07-2025 01:01 صباحا
الزوار: 26 التعليقات: 0
|