كانت «بين بوابات القدس» هي المجموعة القصصية العاشرة للروائي صبحي فحماوي، بعد صدور خمسة وخمسين كتابا له وعنه، منها خمس عشرة رواية ابتدأت برواية «عذبة»، ولم تنته برواية «كليوبترا الكنعانية» وأقامت جامعة شعيب الدكالي المغربية مؤتمرً خاصاً لرواياته، شارك فيه واحد وأربعون أستاذاً ناقداً. وبناءً على هذه المجموعة القصصية الجديدة، المدهشة، بادرته بالحوار الآتي:

 تستهلّ مجموعة قصص «بينَ بواباتِ القدس» بـ»التوأمان»، وفيها نتعرّف على «منير جبران»، الفلسطيني الغزّي، الذي يُرزق بطفلين توأمين بعد سبع سنوات عجاف، ويواجه، كما يواجه أهل غزّة كلّهم، وحشية الاحتلال بصدر عارٍ، إذ يقتلون طفليه ويهدمون بيته، وبعد أن يخسر كلّ شيء، يتجه نحو «أنفاق المقاومة»، كخيار وحيد لا ثاني له، ترى، ألا يوجد أمام الغزّيين، والفلسطينيين بعامة، خيار لاستئصال جذور الاحتلال السرطانية الخبيثة، غير خيار المقاومة المسلحة؟
- هات لنا اقترحاً، أو خياراً آخر غير المقاومة المسلحة ما دامت الدول العربية تقف صاغرة أمام هذه الهجمات الديناصورية الصهيونية.. خاصة وأن «ما أُخذ بالقوة، لا يسترد بغير القوة.» فلو تَقَدّم أحدهم ليصفعني بيده على وجهي، أجدني بديهياً أرفع ذراعي لتكون واجهة للدفاع عن وجهي.. المقاومة حركة طبيعية يقوم بها الكائن الحي وليس الإنسان وحده.. فالحيوانات تتجمع وتقاوم فناءها، ولو وقع ثور بين أسود أو ذئاب حاشدة، فإنه سيقاوم فناءه، وستهجم باقي ثيران القطيع لتدافع عن رفيقها الثور.. وحتى النباتات تقاوم.. فهناك نباتات صحراوية تنبت بزخّة مطر واحدة، وتورق وتزهر وتثمر ويجف ثمرها خلال أيام ليحفظ جنسها للعام القادم.. وهذه السرعة في دورة الحياة نوع من مقاومة الفناء.. فالمقاومة تحفظ بقاء الجنس.. ولهذا فإن مقاومة أهل غزة هي نوع من المحافظة على الجنس الغزاوي الفلسطيني العربي.. وهذا حق مشروع أكدته الغريزة الحيوية، ومنها الغريزة البشرية، وسنّته الشرائع السماوية وقوانين الأمم المتحدة، التي لم يعد الصهاينة يخضعون لها، رغم أن تهجيرهم إلى بلادنا تم بموجب قرارات الأمم المتحدة..
 تكشف قصة «مقام الشيخ مصطفى الولهان» جانبًا مهمًا مرتبطًا بتعلق الناس بالخرافات والغيبيات وحكايات كرامات الأولياء والصالحين، ومزاراتهم وأضرحتهم، وهذا أمرٌ موجودٌ في الكثير من المجتمعات العربية، حتى اللحظة، برأيكم، لماذا لم تزل هذه (الخرافات) تجد من يؤمن بها، بل ويتمسك بها في مجتمعاتنا؟
- عندما يفكر الإنسان البسيط ويتأمل الحياة، ولا يجد أجوبة للكون..، فإنه يتجه للتفكير بالغيبيات والقوى الغيبية التي لا تُرى بالعين، وبالتالي الأرواح، التي لا تخضع للأنظمة، ولا للقوانين، ولا للمنطق.. وعندما يقود رجل اللاهوت قطيعاً من المريدين المؤمنين به، فإنهم يُنفِّذون تعاليمه بدون التفكير بمنطقيتها.. وكأنه يعمل لهم تنويماً مغناطيسياً، ويريحهم من مشاكل حيواتهم، ويبعد عنهم الخوف من تحديات الحياة، وذلك بإيجاد الحلول اليوتوبية لهم والراحة الأبدية في التعامل مع الأشياء اللامرئية.. تجدهم يتصرفون بوحيه.. وهذا ما حصل مع مريدي الشيخ الولهان.. بما تصوره القصة.  
 بينما يكشف «حريق آرون بوشنل» جانبا من وحشية الغرب، فإنه يضعنا أمام واحد من تجليات القضية الفلسطينية في الفضاء العالمي، من خلال ذلك التنديد بالعدوان الصهيوني على غزة، وهو تفاعل رأيناه، ونراه في مختلف العواصم العالمية، في ظلال صمت مطبق في العالم العربي، صمت يعيدنا إلى الشاعر عمرو بن معدي الزبيدي، وبيته الشهير:
«لَقَد أَسمَعتَ لَو نادَيتَ حَيّاً
وَلَكِن لا حَياةَ لِمَن تُنادي»
هل ترى بارقة أمل في الأفق؟ هل يمكن لهذه الأمة أن تنهض من جديد؟
- أمتنا العربية ولّادة، ولكنها لا تزال ترزح تحت مؤثرات الحرب العالمية، فلقد خرجت باقي الدول وانتظمت مع أو ضد الناتو الغربي، ولكن العرب بقوا مفتتين مشرذمين، تنهشهم الذئاب الشرسة من كل فج وصوب، فلا تستطيع شعوبهم التصرف وهي مكبّلة بالماضي بكل أبعاده.. والذي نسجه التاريخ حولها كخيوط الحرير، ولا أقول خيوط العنكبوت، ذلك لأن أمتنا تحمل مدّخرات نهوضها وتألقها بين الأمم، وكما أرادها عمر بن الخطاب، أن تُوحِّد نفسها من البحرين إلى موريتانيا، وألا تعتدي على غيرها، ولا تسمح لغيرها من الأمم المجاورة بالاعتداء عليها.
وهنا نقول إن المناضل (الشهيد) الأمريكي الإنسان آرون بوشنل عبّر عن شعوره الإنساني، شعوره الشعبي الأمريكي، وليس شعور حكامه من حزبَيّ السلطة الذين يلهثون خلف الدولار، وبالتالي يخضعون للإملاءات الصهيونية اليهودية التي تريد السيطرة على العالم كله، وليس الفرات والنيل فقط.. وفي هذا الباب يحزنني أن أرى شعوب العالم تنتفض وتناضل لفعل المستحيل لتخليص نفسها من عبوديتها للصهيونية، وفي الوقت نفسه، تخليص أطفال غزة ونسائها من أنياب السلطة الصهيونية المسعورة، المتشبثة بالحكم في فلسطين، ومن ثم بحكم العرب والعالم، بينما تُكبت الشعوب العربية وتمنع بالقوة من التعبير عن إرادتها بتوصيل الطعام والماء إلى غزة وسائر مناطق فلسطين، ولا نقول توريد السلاح كما يورِّده الناتو ومختلف شركات العالم المرتبطة برأس المال الصهيوني للكيان الإسرائيلي.  
 من خلال مجموعتك القصصية الجديدة، تواصل انشغالك بفلسطين، وهو انشغال مارسته في مجمل أعمالك السابقة، على اختلاف أجناسها، ما يؤكد إيمانك بالكلمة ودورها في المقاومة، فما طبيعة هذا الدور، وما طبيعة الأثر الذي يمكن أن تحدثه على أرض الواقع؟
- كنا ونحن أطفالاً نهتم بِهُموم الشعوب الفيتنامية وهي تقاوم الاستعمار الفرنسي ثم الأمريكي، إلى أن تحررت فيتنام في أبريل عام 1975، فكيف لا نهتم بهموم شعب فلسطين وهم على مرمى حجر من مواقعنا؟ ثم إن (الكلمة) كما قال السيد المسيح: «الكلمة كانت أولاً».. وكما قال نزار قباني بالنسبة لنا نحن الكُتّاب الملتزمين بجمالية الكلمة، وبقضايا الوطن:
كل الدروب أمامنا مسدودة،
وخلاصنا بالرسم بالكلمات.  
وكما قال الإمام الحسين: «الكلمةُ زلزلة الظالم.. الكلمةُ حصن الحرية.. إن الكلمةُ مسؤولية، إن الإنسان هو الكلمة، شرفُ الإنسان هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة». وهكذا أجدني أسير على دروب هؤلاء، ناثراً جمالية الكلمة الملتزمة بقضايا الوطن، هادفاً إمتاع القارئ، وتحويل الحياة الباهتة إلى أحاسيس أمل، ملونة ظليلة ندية سعيدة.
 تؤشّر قصة «بين بوابات القدس» إلى واحد من ممارسات الاحتلال في سبيل تهويد القدس وتهجير أهلها، عبر ممارساته العدوانية الشرسة، كما تؤشر إلى عبثية الاحتكام إلى شرطة الاحتلال ومحاكمه في استعادة ما يسلبه المستوطنون من أهل المدينة، ترى لو كنت مكان أحدهم، في القدس، وتتعرض لما يتعرض له من سلب وعنف واعتداء، ماذا كنت ستفعل؟ أو ما هو السلوك الذي تراه أكثر نجاعة للمقدسيين في مواجهة العدوان، وسعيه لتهجيرهم وتهويد مدينتهم؟
- المواطنون المقدسيون الذين لا يجدون من يقف معهم حتى من أهلهم وذويهم، وعربهم العاربة والمستعربة.. وهذا شيء مذهل أن لا يساعد الأخ أخاه، وإذا قلنا: «مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» فإن ما يجري من تَنَكُّرٍ لمبادئنا وديننا وأصالة عروبتنا لشيء مذهل.. يجعلنا نقف ونراجع كل دفاترنا القديمة التي يكررونها علينا منذ أربعة عشر قرناً ويزيد، ونبدأ من جديد نبحث عن (ولو) اتحاد يشابه اتحاد أوروبا  التي شعوبها تكره بعضها بعضاً، ومع ذلك تتوحد كلها ضد الآخر.
لو كنت في القدس فسوف أقاوم بما أستطيع.. سأقاوم شخصياً كما يقاوم مصطفى البرغوثي (بالكلمة)..كما ذكرت. إلى أن تحدث معجزة تُحقُّ الحق وتعيده إلى أصحابه.
 تستند في مجموعتك الجديدة إلى لغة بعيدة عن التكلّف، وقريبة من اليومي والمعيش، لغة تشبه الناس تمامًا، فما هو مفهومك، كقاص وروائي، للغة؟ ما طبيعة علاقتك بها؟ ما الذي تأخذه منها، وما الذي تعطيه لها؟
- في خضم هذا القتل والدمار وهدم مدن وقرى ومخيمات شعب بأكمله، أجدني أهتم بتوظيف لغتي العربية، مع ميل طفيف لتعريب اللهجة الفلسطينية، على مبدأ نجيب محفوظ: «الكلمة التي نستطيع استنباط الفعل والاسم والمصدر منها فهي عربية.. فمثلاً كلمة أسرأله أي سرقهُ، نستطيع أن نستنبط منها أرسأل، يسرئِلُ، إسرائيل.. لقد لوثوا الاسم الكنعاني إسرائيل بسرقاتهم، وهو (يسرُّ إيل) يسرُّ الإله الكنعاني إيل-إسرائيل- فصار كيانهم دولة مصطنعة.. ولكنها ملوثة بقصدية ممارسة قتل الأطفال والنساء، في الوقت الذي هم يُهزمون بجُبنٍ أمام رجال المقاومة الفلسطينية.