يُمْكِن القَوْل إنَّ مفهوم «النُّخْبَة» كَمُصْطَلَح لم يَشْتَهِر بصورةٍ واسعةٍ سِوَى في أواخر القَرْن التَّاسِع عشر وُصُولاً إلى ثَلاثينيَّات القَرْن العشرين، حيث بدأ يظهر بقوَّةٍ في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكيَّة، فقد استُخْدِمَ في النَّظَريَّات السوسيولوجيَّة عموماً، وكانَ مِنْ أبرز المُنَظِّرين له الفرنسيّ فلفريدو باريتو، ولقد قدَّمَ باريتو في كتابهِ الشَّهير « العَقْلُ والمُجْتَمَع « رؤيته حَوْل مفهوم النُّخْبَة باعتبارهم أولئك الذين يتفوَّقون في مجالات عَمَلهم في مجالات الحياة، ثُمَّ يُوَاصِلُ حديثه مِنْ خِلَال رَبْط مفهوم النُّخْبَة الاجتماعيَّة بقدرة أولئك المُتَفوِّقين على مُمَارَسَة وظائف سياسيَّة أو اجتماعيَّة تَصْنَعُ منهم لاحقاً طَبَقَة حَاكِمَة لَيْسَت بحاجة إلى دَعْمٍ وتأييدٍ جماهيريّ لأنَّها تقتصر في حُكْمِهَا على مُوَاصَفَاتٍ ذاتيَّة تتميَّز بها، ممَّا يُؤهِّلها لاحتكارِ المَنَاصِب فيما بعد. وفي ضوء هذا فإنَّ باريتو يُقدِّم تَوْصِيفَاً يَقْتَرِبُ مِنَ الشموليَّة والعُمْق لمفهوم النُّخْبَة، بل إنَّه يُوسِّع مِنْ نِطَاقِهَا حتَّى تتماهى مع مفهوم الطَّبَقَة الحَاكِمَة عند كارل ماركس، والسَّبَب في ذلك أنَّ نَظَريَّة النُّخْبَة عند باريتو إحدى أشكال عِلْم الاجتِمَاع الجَديد الذي سَعَى إلى تأسيسهِ اعتماداً على مُدْخَلَات سيكولوجيَّة وحسب، بمعنى إنَّ النُّخْبَة لديه لَيْسَت نتاجاً لعوامل وقوى اقتصاديَّة كما يدَّعي ماركس، وإنَّما هي النتاج الطبيعيّ لِمَا أسْمَاه الخصائص الإنسانيَّة الثَّابِتَة عبر التَّاريخ، ولهذا كلّه لَمْ يَكُن مُسْتَغْرَبَاً أنْ يقوم باريتو بتفسير وتقويم بِنَاء النُّخْبَة وحركتها تفسيراً سيكولوجيَّاً بامتياز. مِنْ زَاويةٍ أخرَى، أضاف الإيطاليّ جيتانو مُوسْكَا إلى جهود باريتو الكثير عندما أوضح أنَّ أهم أسباب تميُّز الطَّبَقَة الحَاكِمَة عن الطَّبَقَة المَحْكُومَة هو قوَّة تنظيم الأولى، أيْ الطَّبَقَة الحَاكِمَة، مُبْتَعِدَاً عن المَدْلُول المَاركسيّ لمعنى الطَّبَقَة، وأكَّدَ أنَّ وجود غايةٍ وهَدَف مُعيَّن تَرْنُو إليه تلك الطَّبَقَة في مُوَاجَهَة الأغلبيَّة غير المُنَظَّمَة سيكون دَافِعَاً فَارِقَاً في قوَّة الطَّبَقَة الحَاكِمَة، لكنَّه، في الوقت ذاته، يُشير إلى أهميَّة اعتماد الطَّبَقَة الحَاكِمَة على قبول الجَّمَاهير، وهذه الآليَّة تُسَاهِم في التقريب بَيْنَ النَُْخَبة السياسيَّة والديمقراطيَّة بما يَتَنَاقَض مع ما ذَهَبَ إليه باريتو في هذا الإطار. أمَّا الألمانيّ روبرتو ميشلز فقد كان قريباً ممَّا ذَهَبَ إليه مُوسْكَا، حين قدَّم في كتابهِ « الأحزاب السياسيَّة « تعريفاً للنُّخْبَةِ السياسيَّة مِنْ خِلَال الواقع العَمَليّ للأحزابِ كَاشِفَاً عن العَوَامِل المُتَبَاينَة التي تُحدِّد طبيعة عَمَل التنظيمات منذ تأسيس الحزب وُصُولَاً إلى مفهوم الدَّوْلَة، حيث يرى أنَّ النَّشْأة الديموقراطية للأحزاب تتحوَّل بمرور الوقت إلى تنظيماتٍ يُسَيْطِر عليها قِلَّة مِنَ الأفراد، لأنَّ التنظيم يحتاج إلى أقليَّة مُنَظَّمة، والتي تقوم بدورها بالاستحواذ على السُّلْطَة مِنْ خلال موقعها المِحْوَريّ في مَرْكَز صُنْع واتِّخَاذ القَرَار، وهيَ الأقليَّة التي لم يتطرَّق إليها مَاركس في دراساته السياسيَّة، بينما نجد الأمريكيّ رايت ميلز وهو يَدْرُس المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكيَّة يربط بَيْنَ النُّخْبَة وقُدْرَتِهَا على السًّيْطَرَة والتحكُّم في وقت اتخاذ القرار، على أساس أنَّ ذلك نتيجة مَنْطقيَّة للبناء المؤسَّسي في الدَّوْلَة، بما يدلُّ على أنَّ النُّخْبَة تتكوَّن مِنْ أولئك الذين يشتغلون في مواقع مُؤثِّرَة وقياديَّة في تلك المؤسَّسات. وذَهَبَ البريطانيّ جون سكوت إلى أنَّ أيَّ ترتيبٍ هَرَميّ قِيَاديّ يجب أنْ تقوده نُخْبَة ما، إذ تتكوَّن المَوَاقِع القِيَاديَّة المُؤثِّرَة ضمن أيّ مُؤسَّسةٍ أو وَزَارة أو حُكُومَة مِنْ نخبة مُحدَّدة، ويتأسَّس نِطَاق كلّ نُخْبَة مِنْ وَاقِع العلاقات التنظيميَّة البَيْنِيَّة داخلها، وترتبط النُّخَب السياسيَّة ضِمْنَ الوَزَارات، أو الهيئات الحكوميَّة، وغيرها، ارتباطات رسميَّة مُتنوِّعَة، والتي بدورها تربطهم باعتبارهم فُرُوعَاً في الدَّوْلَة، وهو يُشْبِه إلى حدٍّ بَعيدٍ النُّخَب الاقتصاديَّة ضمن شَرِكَات معُيَّنة مُمَثَّلَة بمديريها وكِبَار مُوظَّفيها، حيث يرتبط هؤلاء بشكلٍ تنظيميّ مِنْ خِلَال المُلْكِيَّة المُشْتَرَكَة، والعُضْويَّة في اتحادات أربَاب الأعمال، واتِّحَادات البَيْع، ويمتلك أفراد هذه النُّخْبَة قوى القِيَادَة التي تَرْبط وتُنَسِّق للأنشطة والخِطَط الكُبْرَى الأساسيَّة. بدوره يقول البريطاني رالف ميليباند إنَّ النخبة لا تُمثِّل الشَّريحة الاجتماعيَّة المُسَيْطِرَة اقتصادياً، بل تضمُّ كُلَّ هؤلاء الأفراد الذين بِفَضْلِ مَرْكَزهم الذي يُسيطرون عليه في قمَّة مُؤسَّسات الدَّوْلَة فإنَّهم يُطوِّعون ما تتمتَّع به هذه المُؤسَّسات مِنْ قوَّةٍ ونُفوذٍ لخدمة مصالحهم الشخصيَّة، ومِنْ خلال تأثيرهم في عمليَّة صُنْع القَرَار، وهذهِ الفئة المُسَيْطِرَة اقتصاديَّاً لا تعمل مُبَاشَرة في هذه المناصب، ولكنَّها تكون بصفةٍ عامَّة مُمَثَّلة بشكلٍ جيِّد في الجِّهَاز السياسيَ التنفيذيّ وغيره مِنْ أجهزة الدَّوْلَة. وإذا انتقلنا إلى مفهوم نُخْبَة المُثقَّفين نجد أنَّها مِنْ أبرز أنماط النُّخَب في أيِّ مُجْتَمعٍ إلى جَانِب النُّخَب العسكريَّة والاقتصاديَّة، وقد حَظِيَت هذهِ النُّخْبَة بالدِّرَاسَة والاهتمام مِنْ عُلَمَاء ومُفكِّري عِلْم الاجتماع السياسيّ، وأهل الثَّقَافَة عموماً، مع الإقرار بوجود تباينات بِنْيويَّة ووظيفيَّة بَيْنَ هَذهِ النُّخَب، ولكنْ مِنَ الأهميَّة بمكان الإشَارَة إلى كَوْنِ النُّخَب المُثقَّفَة لها تاريخٌ ورَصيدٌ كَبيرٌ منذ القرن التَّاسع عشر الميلاديّ وحتَّى الآن في الدَّوْلَة المُتقدِّمَة أو النَّامية، وسَاهَمَت بصورةٍ فعَّالةٍ في التنمية الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة على الرغم مِنَ الاختلافات الكبيرة في تقييم هذه الأدوار ودوافعها، بل إنَّها في بعض البلدان لَعِبَت دوراً بارزاً في حركات التحرُّر، وبعضها وَصَلَ إلى الحُكْمِ هُنَا أو هُنَاك، ممَّا زَادَ في تسليط الأضواء على هذهِ النُّخَب وحقيقتها وأدوارها. وغَنيٌّ عن البيان أنَّ تحديد مفهومٍ جَامِعٍ ومَانِعٍ للنُّخْبَة المُثقَّفة يبدو عسيراً نتيجة الإشكالية في تحديد مفهوم المُثقَّف، والثَّقَافة، مِنْ حَيْث المَبْدَأ، ذلكم أنَّ تَدَاخُل السِّيَاقَات الفِكْريَّة، والمَعْرفيَّة، والأيديولوجيَّة، فضلاً عن الاختلاف في نَوعيَّة هذهِ النُّخَب ووظائفها مِنْ مُجْتَمَعٍ إلى آخَر، غير أنَّه مِنَ المُمْكِن توضيح مسألة النُّخَب المُثقَّفة وتعريفاتها على النحو التالي: أولاً: الاتجاه الوَصْفيّ الوظيفيّ وهو اتجاه يرى أصحابه أنَّ النُّخْبَة المُثقَّفة هِيَ تلك الفئة التي تُبْدِع وتبتكر وتُقدِّم الأفكار، وهذا الرَّصيد مِنَ الإبداع يأتي في ضوء القيم والمعايير والمُحدِّدات الثقافيَّة الخاصَّة بالمجتمع الذي تَنْشَط في مجاله، وهذه المُحدِّدَات هيَ التي تُؤطِّر سلوك هذه النُّخْبَة ونشاطها الفرديّ والاجتماعي. ثانياً: الاتجاه الوَظيفيّ الاجتماعيّ وهو اتجاه يرى أصحابه أنَّ المُثقَّف عموماً هو ذلك الشخص الواعي والناقد في آنٍ واحدٍ معاً لِحَركيَّة المجتمع، وبشكلٍ يضع المُجْتَمَعَ في إطار النَّقْد، وكَشْفِ كُلّ الَّنقَائِص والسَّلْبيَّات التي تعتريه، بهدفِ مُوَاجهتها والتقليل منها، فضلاً عن تعظيم الإيجابيات. ويبدو أنَّ العبارات السَّابقة تتلازَم بصورةٍ مُبَاشِرة مع مفهوم الإنتلجنسيا Intelligensia ذائع الصِّيت والذي ظَهَرَ في روسيا في النِّصف الثاني مِنَ القرن 19 الميلاديّ، فقد كانت الطَّبقة العُلْيَا هناك منقسمة إلى فئتيْنِ هُمَا: البيروقراطيَّة الحَاكِمَة، ونُخْبَة المُثقَّفين، وهذهِ الأخيرة كانت تضمُّ طائفة كبيرة مِنْ أصحاب الاختصاص في العُلوم والفنون والمِهَن العُلْيَا، ويَغْلِب على أفكارهم الأيديولوجيَّا الغربيَّة التقدُّميَّة التي كانت منتشرة آنذاك، غير أنَّ هذا المفهوم تبلور لاحقاً حتَّى أصبح يُشير إلى طائفة المُثقَّفين المُنَاضلين الذين يحملون افكاراً راديكاليَّة تُؤْمِن بالتغيير حتَّى لو كان بالعُنْف ضِدَّ السياسات التي تتبنَّاها النُّظُم السياسيَّة الأُوتوقراطيَّة، مع ملاحظةٍ جَديرةٍ بالاهتمام وهيَ إنَّ مُصْطَلَح الإنتلجنسيا في البلدان الغربيَّة عموماً يشير إلى فئة الكُتَّاب، وأصحاب الثقافات الرَّاقية، التي تُؤسِّس كياناً مُستقلاً، وهذا الكيان يُسَاهم في بعض الأوقات في التأثير المُبَاشر في المَجَاليْن الاجتماعيّ والسياسيّ، أمَّا في البلدان النَّامية، ومنها البلاد العربيَّة، فهو يشير إلى تلك الفئة التي نَشَأت تحت تأثير القوى الخارجيَّة سواء رغبة منهم في تقليد النموذج الغربيّ، أو نتيجة السيطرة الاستعمارية الغربيَّة على هذه البلاد سابقاً. وتأسيساً على ما تقدَّم، تُعبِّر النُّخْبَة المُثقَّفة عن أولئك الذين يملكون القدرة على ابتكار وإبداع الأفكار والرُّؤَى ونَقْدِها بصورةٍ منهجيَّة، وهيَ تُمَارِسُ في بعض الأوقات دَوْرَ المُرَاقب والنَّاقِد للحياة الاجتماعيَّة، والسياسيَّة، والثقافيَّة، والاقتصاديَّة، وهذه المسألة مُتَبَاينَة باختلاف مواقف المُثقَّفين داخل المُجْتَمعات الحديثة، التي تظلُّ مرتبطة بالأوضاع الداخليَّة لكلِّ مجتمع، وهذا الوضع أدى إلى تقسيمات عديدة للمُثقَّفين وفق علاقاتهم مع المجتمع والسُّلْطَة، فقد أصبحت النُّخْبَة المُثقَّفة مثلاً في المجتمعات الصناعيَّة أقل راديكاليَّة ممَّا كانت عليه فيما سبق بعد أنْ ازداد دَوْر العُلَمَاء والمُثقَّفين في تشكيل السياسة العامَّة، وذلك مِنْ خلال عضويتهم في الهيئات الاستشاريَّة وتمثيلهم في الحكومة والإدارة، ويبدو أنَّ النُّخْبَة المُثقَّفة مِنْ خصائصها أنَّها لا تُمثِّل فئة مُوَحَّدَة الخلفيَّات الفِكْريَّة والطبقيَّة، بل هيَ مزيج مِنْ كُلِّ الطبقات المُكوِّنة للمجتمع، ولذلك فهي تتميَّز بالتناقض وعدم التكامل فيما بينها، ممَّا جَعَلَها نُخْبَة غير قادرة على تكوين جماعةٍ مُستقلِّة ومُنظَّمة، وإنَّما أصبحت تُمثِّل قاسماً مشتركاً بيْنَ مُختلف الجماعات والفئات الاجتماعيَّة في المجتمعات خاصة المتقدمة منها. ولمَّا كان أهل الثَّقافة لديهم مِنْ ميزات الإتقان، والإبداع، والإنتاج المَعْرفيّ، في المجالات التحليليَّة، أو النَّقْديَّة، ولديهم أيضاً القُدْرَة على توظيف هذه المواهب للتأثير في أسلوب تفكير النَّاس، وسلوكياتهم بعيداً عن وجودهم في مَنْصِبٍ رسميّ، أو تمتُّعهم بمسؤوليَّات إداريَّة، أو سطوة ماليَّة، وبما أنَّ هؤلاء ليْسَ لهم طبقة، خاصَّة، ولا يمثِّلون طبقة بعينها، فهم حسب البريطاني توماس بوتومور، يمثِّلون النُّخْبَة، لأنَّهم أقليَّة مِنَ الأفراد أثَّروا في مؤسسات المجتمع في العصر الحديث، وبالتالي فهؤلاء نُخْبَة ولَيْسَت طَبَقَة، علماً بأنَّ
النُّخْبَة لا تجمعهم فُرَص مَعيشيَّة واحدة ومُتَمَاثِلَة، ولَيْسَ لديهم أيّ شَكْل مِنْ أشكال النُّفوذ. وكانَ ممَّا استقرَّ عليه الأمر في المُقَارَبَة السوسيولوجيَّة لمفهوم المُثقَّفين، ضرورة التَمَايُز بينهم، إذ النُّخْبَة المُثقَّفة ليست فئة واحدة تتشابه في شَكْلِها ومضمونها، ويمكن القول أنَّ أنماط المثقّفين تختلف أيضاً مِنْ مُجْتَمَعٍ لآخَر، وخلال فترة تاريخيَّة مُعيَّنة أيضاً، وقد كانَ للثورة الصناعيَّة في أوروبا دورها الحاسم في ظهور تلك الأنماط الخاصة بالمثقفين لاحقاً والتي يُمكن إجمالها وفق الآلية التالية: أولاً: المُثقَّف العُضْوي والذي يراه الإيطاليّ أنطونيو غرامشي بأنَّه الابن الحقيقيّ للثورة الصناعيَّة في أوروبا، إلى جانب كونه نتاج تطوُّر النِّظَام الرأسماليّ، حيث يظهر المُثقَّف العُضْوي في الحياة الاجتماعيَّة بالتوازي مع ظهور طبقة جديدة مُتقدِّمَة، وهو المُنَظِّر والمُبَشِّر لهذه الطبقة، والحريص على وجودها وتفاعلها، ويقوم بنشر الأفكار للخِطَاب السَّائد للطَّبقة المُهَيْمِنَة على المجتمع، وفي أغلب الحالات يتقاطع ويتلاقى دور هذا المُثقَّف مع السُّلْطَة السياسيَّة، والمُثقَّف العضوي تتبلور عضويته مِنْ خلال التزامه بإطارٍ سياسيَ، وأيديولوجية مُعيَّنة. ثانياً: المُثقَّف التقليديَ « العام « وهو مُثقَّف تَجَاوَزَه التَّاريخ، لأنه يتمسَّك بأفكارِ طبقةٍ تتجه نحو الزَّوَال أمام بريق المُثقَّف العُضْوي، وهذا المُثقَّف التقليديَ مُشْبَع بِفِكْرٍ مَاضَويّ لم يعد له حُضُور أو قوَّة تأثير، حيث ينطلق في تعاطيه مع القضايا المجتمعيَّة مِنْ فَهْمٍ عام ليس له أبعاد أيديولوجيَّة، أو رُؤَى حزبيَّة واضحة، فهو يُفكِّر بالمَصْلَحة العامَّة التي تقوده مرَّة في طريق تأييد ذلك التوجُّه السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الثقافيّ، وتقوده مرَّة ثانية نحو نَقْد ذلك التوجُّه، ولقد ظلَّ غرامشي يدعو إلى تراجعهِ واستقالتهِ مِنْ دوره هذا والانطلاق نحو آفاق المُثقَّف العُضْوي. ثالثاً: المُثقَّف الثوريّ وهو مُثقَّف نَقْديٌّ بامتياز، ظَهَرَ في المجتمع العَرَبيّ بصورةٍ كبيرةٍ في مرحلة انتشار الأيديولوجيَّات، اليساريَّة منها بالذات، والقوميَّة بأنواعها، إلى جانب الانقلابات العسكريَّة العربيَّة التي أَطْلَقَ عليها البعض مصطلح الثَّوْرَة، ومِنَ الأهميَّة بمكان الإشارة إلى كون المُثقَّفين العرب في هذا الإطار قد ترجموا أكثر ممَّا أبدعوا فِكْرَاً ثوريَّاً باستثناء بعض الحالات، ويظلّ المُثقَّف الثوريّ مَقْبُولاً طالما توجَّه نحو التحليل والتفسير والنَّقْد والبناء، أمَّا إذا ارتَهَنَ لمفهوم الثورة وحدها واتخذها هَدَفَاً وبرنامجاً فإنَّه لا يُقدِّم لمجتمعه أكثر مِنْ حَالَة الثَّوْرَة التي لا تقود إلى الإصلاح الفِكْريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. رابعاً: المُثقَّف المُحَافِظ وهو مُثقَّف نَقْديّ، أيْضَاً، ولكنَّ نقده يستلهمه مِنَ مَشْروع الدَّوْلَة، ويُدَافِعُ عنها مِنْ خلاله، وهو يقترب مِنَ التبشير بفِكْرَة « أنا أو الطوفان «، حيث يسترسل في بَيَان الحِكْمَة، والمَشْروعيَّة، التي تقوم عليها الدَّوْلَة، ويُبَالِغُ في الثَّنَاءِ على مشاريعها التي قامت بها، ويعتبر أنَّ الخروج عليها ضَرْبَاً مِنْ نُكْرَان الجَّميل، ولا يتورَّع عن الدعوة إلى مُحَاسَبَة ومُعَاقَبَة الخارجين عن منهج السُّلْطَة السياسيَّة التي يعمل لديها. خامساً: المُثقَّف الإصلاحيّ وهو مُثقَّف توفيقيّ أكثر مِنْ كونه مُثقَّف نَقْديّ، حيث يرى ضرورة التغيير ولكنْ في إطار السُّلْطَة الحَاكِمَة، مع استبعاد الثورة من ضمن خياراته الأساسية، ما دام التدرُّج الإصلاحيّ ممكناً، ويتواجد مِنْ هذه الفئة كثير مِنَ المُثقَّفين في المجتمع العربيّ، وتبقى الإشكالية هيَ إلى أيّ مدى يُمكن للمُثقَّف الإصلاحيّ أنْ يُحافظ على دوره ونمطه هذا؟، ففي حَالِ فَشِلَ الإصلاح، وتعذَّر التغيير، يجد الإصلاحيّ نفسه إمَّا ينتقل إلى طائفة المُحَافظين الداعمين للسُّلْطَة السياسيَّة، أو يتجه نحو طائفة الثوريين الذين تقود أفكارهم الثورة وتوابعها. سادساً: المُثقَّف الكولونيالي وهو مُثقَّف شَغُوفٌ بمقولات البحث العِلْميّ، ومُرْتَهِنٌ للثَّقافة الغربيَّة المُتَعَالية على باقي الثقافات في العَالَم، وهو يرى ضرورة إلغاء جميع المظاهر الثقافيَّة في المجتمع العربيّ مثلاً، بما تتضمَّنه مِنْ مَعْرِفَة وثقافة وعادات وتقاليد، بل ويراها مِنْ أشكال الفلكلور وحسب، واستبدالها بالنَّموذج الغربيّ المُسْتَوْرَد، ويرى هذا المُثقَّف الكولونياليّ أنَّه لا ضَيْر في البحث والتوثيق لذلك الفلكلور، الذي هو في الأصل تاريخه ومكوّناته كلها، وهو يدعو إلى حفظ هذا الفلكلور على شكل ثقافة متخفيَّة فقط، لأنَّ ثقافته الغربيَّة لا نظير لها على الإطلاق. سابعاً: المُثقَّّف الوطنيّ الذي يسعى إلى الحفاظ على هوية الثَّقافة الوطنيَّة، ويرى أنَّ لها حقّ الوجود تاريخي، فضلاً عن كونه متمسِّك بلغته العربيَّة الفصحى، وبتعاليم شريعته الإسلاميَّة، وتاريخه المجيد، وهو لا يتنازل عنهما مقابل لغة ودين مِنَ الغَرب، ويتحوَّل مع مرور الوقت إلى وَصيّ على الثقافة الوطنيَّة، وحمايتها مِنَ التهميش الذي بالمقابل قد يطال بعض الثقافات الشعبية الموجودة في مجتمعنا العربيّ نتيجة التأكيد المستمرّ على أهمية الثقافة الوطنية، ولذلك مِنَ الأهمية بمكان قبول تلكم الثقافات الشعبية واحتواء مظاهرها تحقيقاً للحياة المُشْتَرَكَة. ثامناً: المُثقَّف التقدُّميّ وهذا النمط مِنَ المُثقَّفين يغلب عليه الجانب النَّظريّ، علماً بأنه يحمل مشروعاً ثقافياً بديلاً أساسه وصول الثقافة التقدُّميَّة والعِلْميَّة إلى الجماهير، ويذهب معظم جهد هذا المُثقَّف التقدميّ نحو نقد مثقّفي البرجوازيَّة الوطنيَّة الذين يحافظون على ثقافة الأجداد مِنْ باب المُنَاكَفَة، أو الرغبة الذاتيَّة في إبراز تفوُّق ثقافتهم البرجوازيَّة، ولهذا لا يتوقف المُثقّّف التقدميّ في سبيل الدفاع عم حقّ الإنسان في المجتمع بالحصول على المعرفة دون توجيه، أو إجبار، أو إغراء. تاسعاً: المُثقَّف التجزيئي حيث يكون هذا النمط من المثقّفين على نوعيْن هما: نوع يشمل فئة مِنَ المُثقَّفين ينحدرون مِنْ أقليَّة، أو إثنيَّة، أو طائفة دينيَّة، وهو مُثقَّف يُوظِّف ثقافته العالية والنخبويَّة للدفاع عن ثقافة مجموعته الأصليَّة المُهمَّشة في المشروع الوطنيّ الرسمي، أمَّا النوع الثاني فيرجع إلى أولئك الذين يملكون ثقافة هامشيَّة شعبية تقوم على السِّحْر والأسطورة حيث يقوم المُثقَّف بالدفاع عنها وعن استمراريتها. وليس يخفى، فإنَّ الواقع الثقافيّ، والسياسيّ، والاجتماعيّ، في البلاد العربية، منذ تسعينيَّات القرن العشرين قد أماط اللثام عن هشاشة النُّخَب المُثقَّفة، وأوهامها، وجعلها تدخل في تجربة عسيرة جداً حول جدواها، وأهميَّة نتاجها ومصداقيته، وقُرْبه مِنْ هُموم الإنسان العربي، مما أفقد غالبية المُثقَّفين العرب دورهم الطليعيّ، والرَّائد، وانتقلوا مِنْ صفوف حَمَلَة الرِّسَالة الثقافيَّة إلى مقاعد المُتفرِّجين، أمَّا مَنْ ظلَّ على عهده، مع مجتمعه، وثقافته، فقد رَافَقَه الشَّقَاء معظم الوقت، وبدلاً مِنْ فُقْدَان الثقة بالأفكار المُبْتَسَرَة، والرُّموز الوهميَّة، المسيطرة على حياتنا الثقافية، بدأ المُثقَّّف الحقيقيّ يفقد ثقته بأفكاره، ومرجعيَّاته اللُّغويَّة والدينيَّة والفِكْريَّة، حيث مَارَسَت السلطة عموماً وأذرعها المتعدِّدَة حرباً بلا هوادة في سبيل ترويض المُثقَّفين وتحويلهم إلى أدوات للدفاع عنها، والتبشير بها، والتبرير لمسلكياتها. ويبدو الحديث عن أدوار للمثقفين في الوطن العربي مسألة فيها نظر، وخصوصاً في أعقاب ما أُطلِقَ عليه الربيع العربيّ الدَّامي، فالسلطة السياسية في بعض البلاد العربية لم يعد لها ذلك الأثر فَمِنْ أين يأتي المُثقَّف بتأثير، وتغيير، وهو يفتقد أدواته الأساسية، وكيف يطالب باعتراف مجتمعيّ، وسياسيّ، بدوره ونتاجه، وهو في معظم الحالات لا يقدّم ذلك الرَّصيد الفِكْريّ، والثقافيّ، الذي يُؤكِّد محورية دوره، وأهميته، ممَّا حوّل طائفة مِنَ المُثقَّفين العرب إلى جمهوريات بحدّ ذاتهم نتيجة النرجسيَّة التي أغرقوا أنفسهم بها، حيث نجد بعض « المُثقَّفين « وبالذات المُقرَّبين من السلطة، يملك عشر مواهب دفعة واحدة للتنظير في كل المجالات، بينما المثقّف الحقيقيّ الذي يحمل هموم مجتمعه، ويقدّم الرؤى النقدية اجتماعياً، وسياسياً، والصحفيّ الذي يقدّم التحقيقات التي تكشف الفساد المسيطر في كل مجالات الحياة، والشاعر الذي يبشّر بالتغيير، نجد هؤلاء وغيرهم ضحية القمع، والتهميش، والإقصاء، أمام هجمة ثقافة الصورة وانتشار المُثقَّفين الدُمَى.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 09-05-2025 10:57 مساء
الزوار: 43 التعليقات: 0