الصورة القلمية في تجليات أدب الرحلات: عامر طهبوب مثالا
هدى أبو غنيمة إذا اعتبر أدب الرحلات «عين الجغرافيا المبصرة»، أكثر آفاق المعرفة تثقيفاً للإنسان، فإنه أيضاً عين الذات الإنسانية التوّاقة إلى اكتشاف الآخر وإكتشاف وحدة البشر على الأرض، وأراه تعبيراً عن توق الروح الإنسانية الحرة الى الإنطلاق من قيود المكان والزمان، ولعل اتساع العالم الإسلامي، واتساع الرؤية الى عوالم الآخرين، دفعت الإنسان المسلم إلى النظر أيضاً بعين الجغرافيا الى حضارات الشعوب الأخرى، محتفياً بنبض الحياة في سياق إنساني حضاري متسع الآفاق. وانطلق الرحالة العرب من أمثال الإدريسي، وابن بطوطة، وابن جبير، وابن ماجد وغيرهم، يضربون في آفاق الأرض، وفي وجدانهم منظورهم الحضاري الإنساني. وقد يكون أدب الرحلة هروباً من الذات، أو كما يراه عالم النفس «يونج» تعبيراً عن رغبة عميقة في التغيير الداخلي، تنشأ متوازية مع الحاجة الى تجارب جديدة أكثر من تعبيرها عن تغير مكاني، وقد تكون هروباً من الذات، وبحثاً عن سكينة وسلام، ولعل بعض كتب أدب الرحلات يشبه رحلة «غوته» الروحية الى الشرق، إذ أصيب الرجل بحالة نفسية عنيفة عقب هزيمة «نابليون» في معركة «واترلو»، وكان «غوته» معجباً بنابليون، وقال: «شعرت شعوراً عميقاً بوجوب الفرار من عالم الواقع المليء بالأخطاء التي تهدده من كل جانب، في السر وفي العلانية، لكي أعيش في عالم خيالي مثالي أنعم فيه بما شئت من الملاذ والأحلام بالقدر الذي تحتمله قواي» ، وقد يكون هذا الأدب تعبيراً عن توق الأديب الى عوالم يصوغها بأشواقه ورؤاه، ويعيد من خلالها تشكيل الواقع كما يتطلع إليه، وكما يعتبره إرتقاءً إلى أفق الذات الإنسانية وتجلياتها في اختبار الحياة. وحينما قرأت كتاب الروائي عامر طهبوب الأخير: «أرض الحرية: رحلة الصيف إلى الجزائر»، تداعي الى ذهني ما قيل عن أدب الرحلات في التراث العربي، ومنها أن أدب الرحلة قد يكون استكشافاً للذات في مرآة الآخر من جهة، وارتحالاً عن الواقع إلى عوالم أجمل من الواقع الشخصي، وتطلعاً الى مركز وجداني يواسي نفسه المكلومة، ويلبي حاجته الملحة إلى طقس مغاير يعبر فيه عما يعتمل في نفسه من مرارة فجيعة، ولعل تركيز طهبوب الإنثربولوجي على التضاريس الوعرة، وحديثه عن تاريخ ثورة الجزائر، وتضحيات الشهداء من أمازيغ وعرب، تعبير عما يعتمل في نفس الكاتب من مرارة الفقد على الصعيدين العام والخاص، ولذلك جاء العنوان «أرض الحرية»، وقد كشفت رؤى الكاتب عن تأثره بأدب الرحلات في تراثنا العربي، وآداب الرحلة، ولعله تمثّل ابن بطوطة أشهر الرحالة العرب في كتابه «تحفة الانظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، فتجد أن طهبوب قد زار في رحلة الصيف كما رحلة الشتاء البلدات التي زارها ابن بطوطة قبل 700 عاماً، ومنها مليانة، وبونة، وتمنطيط، وبودة، وغيرها، وأبدع في رسم الصور القلمية التي تجعل من النصوص صوراً يمكن للعين رؤيتها وتخيلها، وأضاء الكتاب على وعي الكاتب الحضاري والإنساني بأهمية التواصل مع الذات والتجربة الإنسانية، وتطلع الى مركز عربي وجداني يحاور مُعبّراً عن تطلعه إلى عودة أمته إلى مكانتها اللائقة بإنجازاتها في عصور الأرض، تلك الانجازات التي بنى عليها الغرب حضارته. ويجمع كتاب طهبوب ما بين العمل الروائي، والبحثي، والصحفي، بحيث يصعب تنميط جنس هذا الأدب كما اعتدنا أن ننمط الأجناس الأدبية، فنقول هذا شاعر مقاومة، أو كاتب أدب مقاومة، أو شاعر المرأة، أو شاعر الطبيعة، متجاهلين أن الكتابة فعل حريّة قبل أي تجنيس، على الرغم من أهمية التجنيس في الدراسات الأكاديمية الجادة صارمة المعايير. لقد تجلت القيمة الأدبية للرحلات بما تعرضه من أساليب ترتفع بها إلى عالم الأدب، وترقى بها إلى مستوى الخيال الفني، وبفضل السرد التحليلي للسمات الإثوغرافية والأنثربولوجية للمناطق التي يزورها كاتب هذا الأدب، تتجلى سعة أفقه، وقدرته على استشفاف روح المكان، وإمتاع القارىء وتثقيفه، ولعل من المفيد الإشارة الى أهمية نصوص أدب الرحلات في مناهج اللغة العربية التي تحتاج الى إدخال نصوص أدب الرحلات لتقريب اللغة السهلة في هذا الأدب الى طلاب اغتربت ذائقتهم عن لغتهم بعد أن اغتربوا عن هويتهم، وذاتهم الحضارية الجماعية . ورأى بعض الأدباء مثل الكاتب الفرنسي «سافاري» أن «أدب الرحلات أكثر النصوص تثقيفاً للإنسان بما يقدمه من متعة ذهنية»، لإعتماده على الرد المشوق، ورأى الدكتور شوقي ضيف أن أدب الرحلة في الماضي والحاضر خير رد على التهمة التي طالما اتهم بها الأدب العربي، وهي قصوره في القص، ولعل تلك الآراء التي ترجع بعض الفنون والعلوم الإنسانية إلى مركزية الغرب كما رآها إدوارد سعيد، أن للثقافة «سطوة فكرية تتغلغل في أذهان الأفراد إلى درجة أن مفكراَ ثورياً كماركس، لم يستطع أن يتخلص من ثقافته العنصرية عند تعرّضه في كتاباته للشرق والهند، ويرى سعيد أن العلوم الإنسانية تعمم التجربة الأوروبية وترفعها إلى درجة «النموذج الإنساني»، بحيث يصبح كل ما هو غير غربي هامشياً وثانوياً . ولعل أدب الرحلات بثراء موضوعاته، وسهولة تواصله مع القارىء في كل زمان ومكان، هو أدب حاضر في كل العصور، لتعبيره عن حاجة الذات المبدعة الى التواصل مع الذات شرقاً وغرباً، فهل ابن بطوطة قبل أن يجوب البلاد ويطوف بالأمصار شرقاً وغرباً، هو نفس الرجل الذي آب الى وطنه، وجلس في مقعد العلم والقضاء يملي خبرته وتجاربه، ومثل ذلك ابن خلدون، وابن فضلان، وابن جبير، والبيروني، وابن حوقل، والمقدسي، والإدريسي .