جعفر حسن

ترى ما هي تلك الدوافع والمكونات التي تسهم في خلق الناقد ايضا، يجيب ادوارد سعيد بـ «إن الوعي النقدي المعاصر يقف بين إغرائين متمثلين بقوتين عاتيتين مترابطتين تستقطبان الاهتمام النقدي.
فالأولى هي الثقافة التي يرتبط بها النقاد بالقرابة (بالولادة والانتماء القومي والمهنة)، والثانية هي الطريقة أو المنظومة التي يكتسبها النقاد من خلال التقرب (بالقناعة الاجتماعية والسياسية، وبالظروف الاقتصادية والتاريخية، وبالجهد الشخصي والإرادة الحديدية). وكلتا هاتين القوتين ما فتئتا تدأبان على ممارسة الضغوط منذ ردح طويل من الزمن إلى أن وصلتا بالنقد إلى وضعه الراهن» كما يبدو أن هناك ميلا للمثقف الناقد العالمي ليخلي محله للناقد المتخصص.
 وإذا ما نظرنا للنقد على أساس الوظيفة التي يقوم بها، فإننا بذلك يمكن أن نقسم النقد إلى مجالات متخصصة، فهناك ممارسة نقدية ترتبط بنوع المنتج كالنقد الثقافي، والنقد الاجتماعي، والنقد الفلسفي، والنقد الفني .. الخ، وتحت ذلك النقد نجد أن هناك نقدا للمسرح والسينما، وتحت النقد الأدبي نجد تخصصات، مثل: (نقد للرواية، ونقد القصة القصيرة، ونقد الشعر) ، .. الخ، من المجالات التي ينتج فيها الادب، ولربما ظهر أخيرا تيار يعرف بالنقد المقارن منذ (1828) تقريبا عندما قدم فليمان مجموعة من الدروس حول الادب الفرنسي، وقد عالج فيه الأثر الفرنسي في ايطاليا، وهو موضوع صار محل تقليد عند بعض النقاد العرب بتتبع أثر بعض كتب التراث عند المبدعين الغربيين وغيرها من الدراسات المقارنة في هذا الجانب.

طائر التدرج
لعلنا يمكن أن ندرك أن هناك علاقة بين الناقد وما ينشر له ووسيلة النشر، فعادة ما يكتب الناقد المتخصص الكتب، وفي بعض الاحيان ينشر دراسات في المجلات المتخصصة عادة والتي عادة ما تكون فصلية أو حتى شهرية، وتذهب كثير من جامعاتنا العربية لنشر دورياتها التي تتضمن الدراسات النقدية الادبية المحكمة والتي قد تعني أن الكاتب يجب أن يحوز على درجة علمية أو ان مقاله يمر على لجنة لإجازته حتى يتمكن من النشر في مثل هذه المجلات. ولعلنا نشير في هذا السياق إلى كون اللجان الاستشارية تحمل في طياتها أسماء لامعة في المجال النقدي، عادة ما تتكرر كثيرا على نطاق واسع في العالم العربي. وعادة ما تخاطب الكتب أو المجلات المتخصصة جمهورا مهتما بالنقد الادبي والدراسات الناتجة عنه، بمعنى أنها أيضا تظل في نطاق ضيق نسبيا، ولعلنا نتصور أنه يضيق أكثر حين تصبح الدوريات محكمة.
  ولعل القارئ الان بدأ يستنتج ان هناك مجالات أخرى للكتابة غير الكتب والمجلات الدورية ونذهب هنا إلى المجال الصحفي، تلك الصحيفة وبالخصوص اليومية والأسبوعية، ولعلنا نذهب إلى كون الصحافة اليومية والأسبوعية ذات حضور مؤقت في الذاكرة، إذ عادة ما تلهث تلك الصحف اليومية وراء الخبر المتجدد دوما، رغم كل ما يقال عن اضمحلال الدور الذي تقوم به الصحافة اليومية، وعن تغطية الوسائل الاخرى للأخبار بسرعة أكبر مثل النشرات الاخبارية للقنوات الفضائية، ووسائل الاتصال الحديثة مثل التويتر والانستجرام والوتس آب ... الخ.
  ويبدو أن تلك الصحافة بشكل عام عادة ما تفرد ملحقا ثقافيا اسبوعيا، وعادة ما لا يعطي اهمية بالنسبة للمجالات الاخرى، ويظهر النقد على صفحات تلك الملحقات الثقافية على صور متعددة، لعل منها ما يمكن أن نطلق عليها النقد الوصفي، وذلك النقد يمارس باعتباره وظيفة يقوم بها من هو قريب من الحركة الادبية ومجموع الاصدارات، وهي قريبة من مراجعات الكتب، كأن يذكر حجم صفحات الكتاب وعددها وأبوابه وتقسيماته وربما عدد القصائد والقصص .. الخ، ويبدو ان هذا النوع من النقد يكون ما قبل النقد الانطباعي، وفي الذهاب نحو النقد الانطباعي فإنه يعطي بعض الاراء التي عادة ما تكون عابرة تحمل في داخلها التسرع، وفي بعض الاحيان نرى أن لغتها تميل إلى الاثارة أكثر من الهدوء.
  وربما يحضر الناقد الادبي والفني والسنمائي والمسرحي .. الخ في تلك الصفحات، وذلك يتطلب من الناقد الاستغراق في شروط الصحافة الادبية التي تحاول كل اسبوع تغطية مجالات واسعة في مساحة محدودة، فعادة ما يحدد للناقد في مثل هذه الملحقات عدد من الكلمات التي يجب أن يوجز فيها رؤيته مهما كانت دراسته معمقة وفنية وبعيدة المرامي، ويبدو انه من المعروف ان هذا الاختصار يحتاج إلى دربة قد لا تتوافر لجميع النقاد على الساحة الادبية والفنية. ويمكننا التفكير في انماط كتابة النقاد وهي التي تحدد مساحة الكتابة وامتدادها في بعض الاحيان، فهناك من النقاد من يقومون بدراسة مجمل الأعمال للمبدع، ولعلها لا تتحقق إلا بعد موت المؤلف جسديا إذ انه يظل يضيف إلى منجزه عبر الزمن، وقد تتقلص مساحة الدرس إلى مجرد ديوان واحد، بينما يذهب البعض إلى دراسة قصيدة واحدة، ويبدو أن النوع الاخير من الدراسات هو الأقرب لتلمس الخاص الذي يشير إلى العام في التجربة، ولعله يذهب نحو توطيد علاقة الناقد بالمجال النقدي الذي يتعامل معه.
وسيكون من المجدي النظر إلى الصفحات الثقافية وحتى الاسبوعية أو الشهرية، وهي تحمل في طياتها النقد المسحي والانطباعي والمتخصص، بنظرة ايجابية، ولعل النقطة الايجابية التي تشمل كل هذه المساحة التي تتكلم فيها عن الاخر هي أنها تشهر المبدعين الذين يحتاجون للانتشار. ويبدو لي أن هناك ميزة حقيقية كانت تعبر فعلا عن تراكم لمجموعة الدراسات التي تنشر في الصحافة حين جمعها من الصفحات الثقافية وتصنيفها وإصدارها في كتاب، على اعتبار أن ذلك الكتاب سيكون مرجعا للدارسين والمتخصصين وحتى من اصيب بفضول الاضطلاع وغواية القراءة، وهي عملية تهريب للمقال لمقاومة محو اليومي والطارئ ولعله اسلوب متبع لدى قطاع لا بأس به من النقاد بجمع مجموعة مقالاتهم وإصدارها في كتاب. ولعل تلك الميزة هي التي تقاوم كون الصحافة اليومية او الاسبوعية سرعان ما تسقط من ذاكرة المتلقي.
* ناقد بحريني