|
عرار:
اعداد الدكتورة الزازية برقوقي: يحتل الأدب الشّعبي جزءا مهمّا من الموروث الشّعبي، بما يتضمّنه من أنماط وأشكال تعبيريّة مختلفة، يعد الشّعر الشّعبي أحد أركانها الأساسيّة التي تقوم عليه باقي الألوان الفنيّة، وان ظلت تتجاذبه المفاهيم وحالت دون الاتّفاق حول تسمية محدّدة، لنجده لدى البعض: الشّعر الشّعبي ولدى الآخر الشّعر الملحون أو الشّعر العاميوغيرها من المسميّات، ولكن الإشكال حول الشّعر الشّعبي لم يقف عند حدود التّسمية والمصطلحات، ففي تتبعنا أيضا لأصوله وتاريخيته، فوجئنا بالاختلاف الكبير بين الدّارسين في تحديد بدايته، فلئن ربطه البعض بالزّجل الأندلسي)ابن خلدون، المقدمة، فصل الزجل(، فان من الدّارسين من أعاد ظهوره وانتشاره إلى الزّحف الهلالي لبلاد المغرب، واقر بأن قبل ذلك لم يكن سكان المغرب العربي يتذوقون الشّعر الشّعبي،و لوّح آخرون بعودته إلى القرن الثالث والرابع هجري أين ارتبط بالقصائد الصوفيّة والأناشيد الدينيّة... ومن الباحثين من حاول وضع فوارق تصنيفية للمصطلحات التي تعبّر في مضمونها عن الشّعر الشّعبي، ففصل فيها بين الزّجل والشّعر الشّعبي والملحونوالشّعر العامّي، وفي ذلك يقول محمد المرزوقي، "أما الشعر الملحون فهوأعم من الشعر الشعبي إذ اشتمل كل منظوم بالعامية سواء كان مجهول المؤلف أو معروف وسواء روي في الكتب أو مشافهة سواء داخل في حياة الشعب فأصبح ملكا للشعب أو كان من شعر الخواص" )المرزوقي، 1967 ،ص ( 49 والملاحظ أن كل هذه التّجاذبات حول مفهوم الشّعر الشّعبي وهويته، لم تفلح في ضبط تسميته وتثبيت أصوله وتاريخه .ولكن ذلك لا ينفي الاحتفاليّة الثقافيّة بالشّعر الشّعبي في الواقع الاجتماعي العربي على اختلاف لهجاته. ويلتقي الجميع حول تعريف الشعر الشعبي على أنهتعبيرة فنيّةومنظومة لسانيّة تتداخل في تشكيله عدة أبعاد تاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة. والشّعر الشّعبي خطاب يعبّر عن واقع ومشاغل المجتمعات الشّعبيّة، بمعان وبأسلوب ومفردات لغويّة عاميّة وبلهجة محليّة متجذّرة في واقعها الاجتماعي، على المتلقّي استحضار دلالاتها لفهم واستيعاب حمولة نصوصه الشّعرية، التي يرتكز فعل التّواصل فيها على عناصر محدّدة تستوجب حضور الباث والمتقبل والسّياق العام، وهو ما يحيلنا أيضا إلى اللّغة إلى البنية التركيبيّة فيها والى أيقوناتها الدلاليّة والى لهجاتها المتنوعة والمختلفة. والسؤال المطروح هنا: كيف يمكن ضبط مقومات الهوية الثقافية للشعر الشعبي ضمن هذه الشبكة العلائقية، وفي ظل التعدديّة في الألوان الشّعرية العربيّة المحليّة؟ إن الحديث عن الهويّة الثّقافية لا يمكن أن يكون بمعزل عن الموروث الثّقافي الشّعبي لهذا المجتمع أو ذاك، اذ أن الهويّة تحدّدها السّمات والصّفات والخصوصيّات الأساسيّة التي تميز الأفراد والمجتمعات بعضهم عن بعض، لذلك يعد الشّعر الشّعبي من الإبداعات والانتاجات الشّعبيّة المحدّدة للهويّة وللخصوصيّة الثقافيّة، باعتباره ينطلق من الشّعور الوجداني والواقع البيئي والاجتماعي و يتلاحم مع الذاكرة الجماعيّة وامتداداتها التاريخيّة والثقافيّة والنفسيّة والفنيّة واللّسانيّة وغيرها. وتعد مقاربة الشّعر الشّعبي على اختلاف أنماطه ومسميّاته وفق مختلف الأقطار العربيّة كالزّجل والملحون والنّبطي والهجينه والشروقي... من المباحث التّراثيّة الثّريّة والمهمة لبقيّة الدّراسات الانتروبولوجيّة والسّميولوجيّة والسّوسيولوجيّة وغيرها، وذلك لما تكتنز به من المحمولات الثقافيّة والخصائص الاجتماعيّة، غير أن حالة الإرباك الحاصلة حول تصنيف وتسمية الشّعر التي اقترنت بالشّعبي وما تثيره الكلمة من دلالات تراتبيّة و تصنيفيّة لدى البعض، جعل العديد من الباحثين ينصرفون عن الشّعر الشّعبي ويتحاشون الخوض في غماره، نتيجة تشكيك البعض في أهميته وجدوى فاعليّته، ووضعه في مقارنة غير متكافئة مع كل ما هو أدب فصيح رسمي ونظامي، واعتباره في مرتبة دونيّة لا ترقى إلى مستوى تلك الآداب. حول اللغة والأسلوب يعتمد الشّعر الشّعبي على اللّهجة العاميّة المحليّة للمجتمعات، ويبنى على قوالب شعريّة معروفة في تونس باسم الموقف والقسيم والمسدس والملزومة... ولكن هناك أيضا صيغ شعريّة أخرى تفلت عن القاعدة المعروفة للقوالب المذكورة، حيث نشهد موازين شعريّة متعدّدّة لأنماط مختلفة متداولة شفويّا ولكنها مجهولة الهويّة، لم تخضع للتوثيق والتثبيت في مدونات الباحثين. ولعلّنا هنا نجد أنفسنا أمام جدليّة الشّفوي والمكتوب وحدود اللّغة في تثبيت الخطاب الشّعري الشّعبي. خاصة أمام تعدد اللّهجات العربيّة واختلافها بل وانغلاق بعضها إلى الحد الذي يصعب فهمها من طرف الشعوب الأخرى. ويحيلنا ذلك إلى اللّغة ووظيفتها التواصليّة، واللّهجة المحليّة وتثبيت الهويّة والخصوصيّة، اذ أن إيصال المعنى الكامن في الألفاظ والتّعابير للمتلقّي، واستيعاب معانيها من قبل الشّعوب المنتجة والممارسة لهذه الأنماط الشّعرية، هو المعيار الوحيد لتقييم وتحديد مدى أهميّة وقيمة اللّهجة المحليّة، والتي يبدو جليا سيطرتها وانتشارها الكبير لدى المجتمعات العربية، اذ لا يقتصر تداولها بين عامة الناس وإنما يعتمدها أيضا المثقّفون والمنتصرون للفصيح، في أوساطهم الخاصة وتعاملاتهم اليومية. ولعلنا هنا نلتقي مع حسين الواد في قوله: "ان اللغة الأساسية المصفّاة الخالصة التي جبل بها الانسان الكون وصاغ الوجود والتي هي ملازمة للخلق والإبداع هي لغة الشعر ولغة الكلام الفني، إنها ألفاظ أبكار تذكر بها المعاني الأبكار والجواهر الخالدة وكلما كان الكلام أكثر نقاوة وصفاء ازداد رقيّا في معارج الشعرية" )حسين الواد، 2005، ص 41( الصورة الشعريّة في الشعر الشعبي المحتوى والدلالة: الشعر الشعبي تصنعه المجتمعات بأساليبها وأدواتها وتتركز فيه جملة الخصوصيات التي تتمايز من مجتمع إلى آخر، في عالم تزدحم فيه المتغيّرات وتتكاثف فيه التّطورات وتسيطر فيه الثّقافات، نجد في نصوص الشّعر الشّعبي عبق التّاريخ ورائحة البادية وجمال الطّبيعة وقيم العروبة التي تتراءى فيها المروءة والكرم والشجاعة والفروسية...، وظل الشّاعر الشّعبي ينهل من هذا الرصيد الثّقافي ويتّخذ من القيم والعادات والتقاليد وكل المكتسبات مواضيعه فينسج نصوصه في مختلف الأغراض والمواضيع. لقد مثلت الصورة الشعرية محور اهتمام وموضوع سجال بين النقاد القدامى والمحدثين، وان كانت جل المقاربات تحوم حول الصورة وأسرارها ومدلولاتها المتعلقة بالمطلق والخيال والمجاز والتّمثل والتّشبيه والاستعارة...، فهناك أيضا من رأى فيها الحقيقة والواقع والذاتي والعاطفي والنفسي، و لعلنا هنا نلتقي مع رأي الجاحظ في قوله " الشعر جنس من التصوير". قد يتراءى للبعض أن شعبيّة الشّعر وشيوعه، تستمد من بساطة المعاني المألوفة وسلاسة الألفاظ فحسب، ولكن المتمعن في هذا النّمط الأدبي يكتشف الحنكة الشّعريّة والصيغ التركيبيّة والصّور الإبداعية باستعاراتها الدلاليّة التي تنزل من عليائها لتعبّر عن مشاغل العامّة في واقعها بطريقة فنيّة لا تخلو من الرّوعة والإبداع..."لأن الشعر لا يكون تقريرا لواقع وتصريحا به وإنما يأتي في جوهره تلميحا وإشارة فلا تمنح المعاني أنفسها للمتلقي وإنما تدعوه إلى كشفها ورفع الحجب عنها بما يتيحه له النص من قرائن وما تتيحه له اللغة من منافذ منها ينفذ إلى العمق الغائر فيه" (سامية الدريدي, 2018، ع 40, ص 98). يتماهى الشّاعر الشّعبي مع مجتمعه، فيختار أجمل التوصيفات المحكية بلهجته، للتعبير عن طبيعة الحياة وما يحيط بها من انفعالات ودلالات. " ذلك أن غاية الشّعر الأساسية انما هي تحقيق الانفعال وإحداث التأثير وخلق التعجب واستثارة الاندهاش. وهذا إنما تنهض به الصياغة بفضل ما تتوفر عليه من أسرار البيان"(حسين الواد، 2005ص 161_162). المرأة العربية والشّعر الشّعبي تسجّل المرأة العربيّة حضورها في حقول الحركة الثقافيّة والأدبيّة عموما، وتحتل مكانة مهمة داخل مجتمعاتها، وقد كانت المرأة ملهمة الشعراء ومحور اهتمامهم على مر التاريخ، حيث مثلوها بأحلى وأجمل الصور التّعبيريّة في نصوص الشّعر الشّعبي،فظهرت المرأة أحيانا في صورة مثالية محبوبة ومرغوبة وأخرى في صورة مذمومة ومرفوضة. ولكن ظلت المرأة لفترة طويلة رهينة نظرة الانتقاص والصورة النمطيّة التي حصرتها في زاوية الموضوع الشّعري لفحول الشّعر الشّعبي العربي، ولكن ذلك لا يخفي انتفاضها على الكلمة في لحظات صفائها مع ذاتها، وبوحها في أوساطها الاجتماعيّة الضيّقة بلهجة لا تخلو من الكبر والتحدّي. وقد أثبتت المرأة الشّاعرة بطبيعتها الفزيولوجيّة والسيكولوجيّة وبالطاقة الشّعورية والجماليّة الكامنة فيها، قدرتها على النّفاذ إلى الأعماق من خلال وضوح فكرتها، وسلاسة لغتها في التّعبير عما يجول بخاطرها من أفكار وشجون. وقد كشفت المرأة في أشعارها الشعبيّة عن جوهر المرأة وعن السياقات الفكريّة والاجتماعيّة المحيطة بها، وحققت إسهامات فعّالة من خلال نظمها. فالشّعر الشّعبي ينطلق من نوازع المجتمع ويلامس فيه كل الجوانب الحياتيّة. تمثل المرأة في الثقافات الشعبيّة، الموضوع والفاعل في الآن نفسه، وفي المجتمعات البدويّة والريفيّة تشترك المرأة مع الرجل في كل الأنشطة والأعمال، مما قد يمنحها طابع الايجابيّة في التمثّلات والتّقاليد البدويّة، ولكنها ربما تبقى الأقدر على الوصف والتّعبير، بروح الأنثوي فيها. تنسج المرأة مقولها الشّعري في أغراض ومواضيع متنوعة، عادة ما يتفاعل محتواها مع البيئة والطبيعة ومع ثقافة وقيم المجتمع، فيأتي نتاجها بأشكال تعبيريّة فنيّة مخصوصة، يبدو أنّها لم تكن اعتباطيّة لما يتضمّنه خطابها من محمولات ثقافيّة وشحنات دلاليّة صريحة ومبطّنة، تتضمّن تصوّرات وحاجيات المجتمع الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة،فكانت المرأة ببديهتها لسان تفكيره والية نشره وترويجه في مختلف اطر الحياة ومناسباتها. فاستحضار المادة الثقافيّة الشّعبيّة على لسان المرأة تفضي إلى منظومة الأفكار والوظائف التربويّة والاحتفاليّة والدينيّة والأخلاقيّة، فلا تخلو نصوص الشعر الشعبي من قيمة حضارية وتربويّة، حيث تدور نصوصه حول مواضيع تهدف إلى التنشئة الاجتماعيّة، وفق قيم اجتماعيّة ثقافيّة ودينيّة معيّنة، تمرّرها المرأة وتثبّتها بصفة متواصلة في شكل خطابات وممارسات وسلوكيات، تعلّم بطريقة أو بأخرى حتى تستوعب ويشبّ الفرد على نظم وقوانين وضوابط المجموعة، ويصبح عنصرا فاعلا في إطاره البيئي والاجتماعي. تسعى المرأة البدوية في خطابها الشّعري المنغم، إلى تمرير وغرس جملة من القيم لدى أبنائها، مثل التعاون والتّكافل والرّحمة والوفاء... وما اشتهر به العرب من الكرم والشّجاعة والفروسيّة، لذلك تقف المرأة بخطابها الشّعبي على تجذير الهويّة الثقافيّة للمجتمعات وتثقيف الأجيال، بما لديها من إمكانيات فنيّة ومكتسبات ثقافيّة. ففي هذه المجتمعات العربية تلقّن القيم الدينية والثّقافيّة المتأصلة فيه، وتتداول شفويّا عن طريق جملة من الوسائط والآليات من العادات والتقاليد ومن الفنون والممارسات التي يحملها المخيال الجمعي ويستمرّ في تبنّيها واستهلاكها. لذلك تحرص المرأة على انتقاء تعابيرها الشعريّة ومفرداتها الكلاميّة، حتى تكون في تناسق وتوافق مع الخصائص الثقافيّة وأسلوب الحياة لدى المجموعات، فتصل إلى المتلقي يستوعب حمولتها فيرحب بها ويتفاعل معها. ولا شك أن ثقافتنا الشعبيّة، لا ترتهن في تواجدها إلى جنس دون غيره، ولا تضبطها حدود مكانيّة أو زمانيّة، اذ ترتكز جذورها في الماضي، تعيش في الحاضر وتتوق إلى المستقبل، لذلك تتشكل الهوية الثقافيّة للمجتمعات بين ثنائيات المرأة والرجل، التراث والمعاصرة، الأصالة والحداثة...، ولكن كيف يمكننا المواءمة بينها في مقارباتنا للهويّة في ظل التّغيرات والتّطورات الراهنة، والتشتت المعرفي والتجاذب الاديولوجي الحاصل حولها ؟ الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الثلاثاء 12-06-2018 01:37 صباحا
الزوار: 2539 التعليقات: 0
|