|
عرار:
إن مراجعة أقوال العَروضيِّين وغير العَروضيِّين، من القدماء والمحدثين، كثيرًا ما يكشف عوارهم، وانتماءهم إلى فئتَين: من المتشدِّدين في مدرسيَّتهم، والجهلة بعلم العَروض والموسيقى الشِّعريَّة. ولنستهلَّ، كما استهلُّوا، بأَوَّل مآخذهم على شعراء العصر الجاهلي، وذلك بوقوفهم المشهور مع معلَّقة (عبيد بن الأبرص، -554م)، التي قال عنها (شوقي ضَيف)(1): «وتلقانا هذه الصُّورة التَّامَّة النَّاضجة للقصيدةِ الجاهليَّة منذ أقدم نصوصِها. وحقًّا توجَد قصائد يضطربُ فيها العَروض، ولكنَّها قليلة، من ذلك: قصيدة عَبيد بن الأبرص الأسديّ: أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ فهي من مخلَّع البسيط، وقلَّما يخلو بيتٌ منها مِنْ حَذْفٍ في بعض تفاعيلِهِ، أو زيادةٍ، وقد يُخطِئُ الرَّأْيَ امرؤٌ وهْو حازِمٌ كما قال (ابن رشيق، -463هـ= 1071م)(4): «ومنه [الزحاف] قبيحٌ مردودٌ، لا تُقْبِلُ النَّفسُ عليه، كقُبح الخَلْق، واختلافِ الأعضاء في النَّاس، وسوء التَّركيب، مثاله: قصيدةُ عَبِيدٍ المشهورة: «أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ»؛ فإنَّها كادَت تكونُ كلامًا غيرَ موزونٍ بعلَّةٍ ولا غيرِها، حتَّى قالَ بعضُ النَّاس: «إنَّها خُطبةٌ ارتجلها، فاتَّزنَ له أكثرُها!» وردَّدَ بعدهم (السكَّاكي، -626هـ= 1229م)(5)، صائحًا: «وهذه القصيدة عندي من عجائب الدنيا في اختلافها في الوزن، والأَولى فيها أن تلحق بالخُطَب، كما هو رأي كثير من الفضلاء.» فهل اختلَّ في وزن القريض عَبيدٌ حقًّا؟ وكيف كادت معلَّقته تكون كلامًا، كما زعم ابن رشيق؟ وأين ما زعمه ضَيفٌ من أنه قلَّما يخلو بيتٌ منها من حذف، أو زيادة؟ أ «الحذف» بالمصطلح العَروضي، أي حذف السبب الخفيف من آخر التفعيلة؟ ليس هنا سببٌ خفيفٌ في أواخر التفعيلات؛ لأنه لا سبب خفيفًا، ولا حذفًا، في البحر البسيط؟ أم أين الزيادات المزعومة؟! أقفرَ منْ/ أهلهِ/ مَلحوبُ فيُلحَظ هاهنا أن التفعيلة الأولى والثالثة (=العَروض)، والرابعة، دخلها الطَّيُّ، وهو صالح في هذا البحر، أي مقبول، والتفعيلة السادسة دخلها الخَبْن، وهو حَسَن. غير أن الإشكال في أن العَروضيِّين قد وضعوا قواعد تعسُّفيَّة، كما فعل النحويُّون، أحيانًا، ثمَّ أرادوا فرضها فرضًا على الشعراء، فلم تستقم لهم بعضها، حتى لدَى شعراء الجاهليَّة، فما كان منهم إلَّا أن وصفوهم بالاختلال! وكأن العَروضيِّين هم أرباب الشِّعر العربي وموسيقى الشِّعر! ولو أنصفوا، لما أجازوا لأنفسهم أن يصفوا ما خالف قواعدهم بالشذوذ، بل بمخالفة القياس الذي وضعوه بأيديهم، حسب الغالب في الاستعمال الذي وقفوا عليه. وجلية الأمر أنهم قد افترضوا في مخلَّع البسيط أن على الشاعر أن يجعل تفعيلة العَروض والضَّرب (مكبولة)، ويعني مصطلح الكَبْل أن تكون التفعيلة مخبونةً مقطوعةً معًا (=مُتَفْعِلْ)، بحذف الثاني الساكن، وحذف ساكن الوتد المجموع في آخر التفعيلة وإسكان ما قبله. وإذْ لم يجدوا ابن الأبرص قد كَبَّل قصيدته بما قالوا، فلم يحذف الثاني الساكن في كلِّ الأحوال، جُنَّ جنونهم، فقذفوه بالاختلال! على الرغم من أن الأصل في الزحاف بعامَّةٍ أنه غير واجبٍ الالتزام بإيراده، وإنما هو خيارٌ متروكٌ للشاعر، يستعمله أو يدعه. وكذلك الحُكم في الطَّيِّ، وهو حذف الرابع الساكن، بحيث تُصبح التفعيلة (مُسْتَعِلُنْ). تلك قواعدهم في الزِّحافات والعِلَل، اخترقوها. فهم، إذن، يضعون قواعد ثمَّ يُبطلونها، بمثل هذا التشدُّد الذي يُناقضون فيه ما كانوا قَعَّدوه، من أن: الزحاف غير لازم، وإنَّما العِلَّة هي اللازمة. ولو أن عَبيدًا تركَ (القَطْع) في بعض أعاريضه أو أضربه، لصحَّت تخطئته؛ لأن القَطْع عِلَّة، والعِلَّة لازمٌ التقيُّد بها في القصيدة كلِّها. رُبَّ قائل قال: وكيف تخرِّج لنا، يا فالح، بيتًا كقوله: إمَّا قَـتـيـلًا وإِمَّـا هالكـًا قلتُ: لعلَّه: «إمَّا قَـتـيـلًا وإِمَّـا هَلَكـًا...». والهَلَك: الفاني، وفيه بقيَّة. أو «هُلْكًا»، وهو: الهلاك. وقد يكون «هَلْكَى»: جمع هالك. وماذا عن بيته، كما يُروى: لا يَعِـظُ النَّـاسُ مَـنْ لا يَعِـظُ هنا احتمالان: لعلَّه: «لاَ يَعِـظُ النَّـاسُ مَـنْ لم يَعْـظِ الـدَّهْـرُ...». وكأنَّ «يَعْظ»، بسكون العين، لغةٌ من لغات العرب، وبكسرها لغةٌ أخرى. أو أنه سكَّن العين ضرورةً. أمَّا البيت: واهيةٌ أو مَعِيْنٌ مُمْعِنٌ فتصحيفٌ ظاهر، صوابه: «مَعِيْنٌ مَعْنٌ»، مصدر (مَعَنَ)، أي رَوِيَ، بمعنى: مَعينٌ سائلٌ فيَّاض. وهكذا إذا تتبعتَ مواضع الاضطراب في هذه القصيدة، وجدتها أقرب إلى أن تكون أغلاطًا في الرواية. وعليه، فإن ما قيل في قصيدة ابن الأبرص من مآخِذ هو على أربعة أضرب: 1- زحافات جائزة، حسب أحكام العَروضيِّين أنفسهم. وإنْ ألزموا بها أحيانًا، كما في مخلَّع البسيط. 2- استعمالاتٌ قد تكون على لغاتٍ عربيَّةٍ مهملةٍ في كتب اللغويِّين، أو مجهولة. 3- تصحيفاتٌ، أو أغلاطٌ لفظيَّة، تبدو من قِبَل الرُّواة أو المدوِّنين. 4- ربما اصطُنِع بعض ذلك اصطناعًا. ونحن نعلم عمل بعض النحاة في صناعة الشواهد الشِّعريَّة كي يحتجُّوا بها على قواعدهم، أو على ما شذَّ عن قواعدهم، وما العروضيُّون منهم ببعيد. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 18-03-2018 10:22 مساء
الزوار: 708 التعليقات: 0
|