عرار:

شهد المساء الأخير من أمسيات البرنامج الثقافي لمعرض عمان الدولي للكتاب ندوةً عاين فرسانها احتمالات الكتابة عن المكان، حينما أعادتهم الأديبة الناقدة الروائيّة د.شهلا العجيلي إلى المورد العذب، مستذكرةً معهم وجوهه محمولاً نفسيّاً ومخزوناً لا ينضب من الإبداع.

فقد انتدى أمين عام وزارة الثقافة بصفته الروائيّة هزاع البراري، ومثله فعل القاص الروائي مفلح العدوان، والروائيّ الشاعر جلال برجس، لهذا الغرض، وكلّ هؤلاء لديهم مسوّغاتهم الموضوعيّة في الحديث عن إرهاصات العمل الأول وما تبعه من أعمال، حققوا بها جوائز محليّة وعربيّة، فكانوا أنموذجاً في ما اجترحوه أمس الأول من أفكار ورؤى طمأنت جمهوراً نخبويّاً يتصدّره الناقد الأديب الدكتور إبراهيم السعافين والقاصّة الباحثة د.هند أبو الشعر، ود.مصلح النجار، والأديب العراقي عواد علي، وجمعٌ من الإعلاميين وكتّاب الصحافة الذين كانوا على تماسٍّ مع ما كتب الفرسان الثلاثة، في وقتٍ امتزجت فيه الصحافة بالأدب، بل كانت وعاءً لكتابات احتفت بالمكان احتفاءً غير سياحيٍّ أو توثيقيٍّ بريءٍ أو جاف.

العجيلي: الحالة الظاهراتية

رأت د.العجيلي أنّ المكان يتجاوز كونه حالةً طبوغرافيّةً أو جغرافيّةً عامّة، إلى كونه حالةً ثقافيّةً، مؤكّدةً أنّ «المكان» هو «عمدة» لدى فرسان الندوة من واقع ما تداوله القراء واحتفوا به من أعمال البراري والعدوان وبرجس، ملقيةً الضوء على مناهج ورؤى فنيّة ونظريات عاينت المكان عنصراً مهمّاً وأصيلاً يتكئ عليه الأديب، لافتةً إلى الشاعر العربيّ عليّ بن الجهم الذي غيّر المكان مزاجه في بغداد فأبدع رائعته الشهيرة «عيون المها»، كما تداخلت العجيلي لتتحدث عن الخريطة الروائيّة للمدينة العربية، مستعينةً بأورهان باموق التركي في ذكرياته عن اسطنبول والسوداويّة المصاحبة في فترات تاريخيّة من تاريخ هذه المدينة.

وقالت العجيلي إنّ «المكان» هو حالة ظاهراتيّة لا نستطيع المرور بها من دون أن نطالع كتاب الفيلسوف الفرنسي باشلار الذي تعامل مع جماليات المكان، وما يمكن أن نضفي عليه من ذواتنا نحن، كما أطّرت العجيلي النقاش حول المكان منصّةً ناقدةً، وكذلك في العلاقة الواعية أو غير الواعية معه، لافتةً من طرفٍ آخر إلى كونه أصلاً أو هو جذرٌ مهم في نهاية المطاف.

السيرة الغنيّة

قدّمت العجيلي الأديب هزاع البراري صاحب روايات عديدة، منها رواية «الغربان» عام ألفين، و»تراب الغريب» عام ألفين وسبعة، و»أعالي الخوف» عام ألفين وأربعة عشر، وكذلك قاصّاً في «الممسوس»، فضلاً عن كونه حاملاً لبكالوريوس العلوم الاجتماعيّة في الجامعة الأردنيّة، وحائزاً جائزة محمود تيمور المصريّة لأفضل نصٍّ مسرحي في العام ألفين وأربعة عن «ميشع يبقى حيّاً» المسرحيّ، وجائزة الدولة عن حقل السيناريو عام ألفين وثمانية، وجائزة أبي القاسم الشابي عن «قلادة الدّم» المسرحيّة عام ألفين وتسعة.

كما قدّمت العدوان حائزاً على جوائز عدّة، منها جائزة الشارقة للإبداع المسرحيّ عام ألفين وواحد، وجائزة محمود تيمور للقصة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام أربعة وتسعين، فضلاً عن مجاميع قصصية كثيرة، منها «الرحى»، و»موت عزرائيل»، و»الدّواج»، و»موت لا أعرف شعائره»، و»شجرة فوق الرأس»، ورواية «العتبات»، كما عرّفت العجيلي بالعدوان، الحاصل على بكالوريوس الهندسة الكيمائيّة في الجامعة الأردنية، مسرحيّاً في «عشيات الحلم»، و»ظلال القرى»، والكتاب المبهم في تصنيفه الأدبي والمقترب من أدب الرحلات «سماء الفينيق: رحلتي إلى فلسطين».

ولفتت العجيلي إلى جلال برجس المولود في حنينا عام سبعين، والدارس لهندسة الطيران، حاصلاً على جائزة كتارا للرواية العربيّة عام ألفين وخمسة عشر عن «أفاعي النار: حكاية العاشق علي بن محمود القصّاد»، وهو الأديب الذي صدر له في القصّة «الزلزال» عام ألفين واثني عشرـ، وتصدر له قريباً «سيّدات الحواس الخمس»، مثلما له في أدب المكان «رذاذ على زجاج الذاكرة» عام ألفين وأحد عشر، و«شبابيك تحرس القدس» عام ألفين واثني عشر، كما كتب في الشعر «قمر بلا منازل».

البراري: مصطبة الحياة

بعد مباركته للجهد السرديّ الحاضر في الجائزة العربيّة، ممثلاً بالروائيّة سميحة خريس والكاتبة كوثر الجندي والناقد يوسف يوسف الذين فازوا بجائزة «كتارا» قبل أيّام، انطلق البراري من المكان، لا وعاءً، بل هو كائنٌ ينمو ويؤثّر، وتتغيّر رائحته بالفصول، ويمنح تفاصيلنا سماته، كما قايس البراري بين بني البشر من المنظور الإبداعيّ الذي حمّلهم المكان ذاته فساروا يقبسون منه في كلّ العالم، مقارباً بين أنواع من الفنون والآداب وسمت الناس بوسم هذا العنصر الإبداعي المهمّ في الكتابة أو في المزاج الإبداعيّ، مؤكّداً سطوة «المكان» غير العاديّة، وحضوره القويّ في نفس من يكتبه ووجدانه وعقله، أو يعيد إنتاجه، بوصفه سجلاً أوّل حمل أفكار ساكنيه ونقوشهم أو رائحة المارّين به أو العابرين.

ورأى البراري أنّنا، ونحن نحاول أن نطرح الحيوات السابقة إنّما نعود إلى هذا «المكان»، من خلال آثار من عانقوه يوماً أو من لهم معه حكاية، مؤكّداً أنّه «مصطبة» حقيقيّة نظلّ منها على الحياة.

وتحدّث البراري عن علائق التاريخ و»داتا» اللغات والنقوش والآثار والألسنة المبثوثة على الجدران والكهوف، أرضيّةً مهمّةً للأديب، يستقي منها إبداعه ويتكئ عليها، ليتمخّض ذلك عن نصٍّ يسقط فيه ذاته ويمتلئ بمزاج الكاتب أو نفسه المتقلّبة بين الحزن والفرح، والضجيج والهدوء، والمكوث أو الترحال.

كما لفت إلى «الحياة المتخيّلة» أو المفترضة أو المستنسخة أو المتذكَّرة عن واقع ماضٍ، وهو ما يجعلنا نتعاطى معه عنصراً فاعلاً، يترك أثره علينا ونخضع لسطوته فلا نقدر على مقاومته أو أن نتجاوزه، فهو الـ»نحنُ»، دخل من كان قبلنا في جوفه وسندخل نحن في هذا الجوف، فنتحلل في مساماته ونتخلل كلّ ترابه، وهو «دمنا ولحمنا»، في نهاية المطاف.

وبكى البراري حالة الفقد التي نعانيها في حياةٍ ينهب منها، وفيها، «المكان» أصدقاءنا ومجموعة الأحبّة والإخوة والأعزاء، وذوي القرابة والنسب الإنسانيّ، ليعود فيعوّضنا شيئاً عن هذا الفقد بحياة جديدة، متلوّناً بين الفصول الأساسيّة في الحياة وما يُستنسخ عنها من فصول.

ورأى البراري أنّ المكان ليس غير مرآة عميقة وكاشفة، عادّاً فهم هذه الخصوصيّة مطلباً مهماً وضرورياً لحالة الكتابة الإبداعيّة، معايناً حالاتٍ من «هدم» المكان ونقصان تفاصيله وغيابها، في وقتٍ ما نزال فيه نبحث عن الجمال. كما نوّه إلى أنّ هذا الفهم لا يعني أن نفرض وعينا بكلّ ثقله على هذا الْمُتّكأ الإبداعي الملهم، ناصحاً بأن يكون في» لا وعينا» عند استحضاره أو معالجته أو إعادة إنتاجه، معترفاً بأنّه لا يتعامل معه بحياديّة كما لا يخضع لشرطه في الكتابة؛ إذ لا يكتب صورةً طبوغرافيّةً عن الحياة والمكان، وإنّما في حالة من إعادة البناء.

وتمثّل البراري بعمّان، في أدراجها وأحيائها وشوارعها وجبالها وفوضى الناس وملامحهم الإنسانيّة، خلطةً إبداعيّةً تدخل فيها علاقة الكاتب بكلّ هذه العناصر، كما لم يحدد كاتباً بتوليفة معيّنة، إذ يكفي أن تكون الكتابة، مغايرةً، مثلاً، أو تحمل مزاج صاحبها وانخراطه في النصّ قيد الاشتغال الجمالي.

ولم ينكر البراري- ردّاً على تداخل العجيلي التي أشارت من واقع تنظيرات نقديّة إلى موضوع «تضليل المتلقي» و»الخلل الثقافي» الذي قد يعتور كتابات معيّنة عن المكان - قيمة المادة التاريخية والأرضيّة المعرفيّة، مؤكّداً الاشتغال الروائيّ المتكامل وغير النمطيّ على المكان.

العدوان: النظرة المغايرة

عدّ الأديب العدوان نفسه كاتباً مكانيّاً، ومتورطاً في السرد حالةً إبداعيّةً، في القصّ والرواية والمسرح ونصوص المكان وأدب الرحلات، مقرراً مسبقاً أهميّة ما أسماه «المعايشة» في خضمّ هذه الكتابة، من واقع الذاكرة الشخصيّة وتاريخ المكان أو «السيرة الغيريّة».

كما رأى أنّ وظيفة الكاتب في هذا المجال هي في مواءمته بين السرد والمكان، حيث تظهر» صدقيّته» في تغليفه سرده بالمكان الذي يشتغل له أو يبني عليه، منادياً بـ»كيمياء» جديدة في حديثه عن المنتج الإبداعي.

ولفت العدوان إلى كتابه «سماء الفينيق»، الذي أشهره في معرض عمان للكتاب، وحمّله السرد بنكهة المكان، معترفاً بالكتابة المختلفة او امتداد التجربة في جنس أدبي مختلف فيه جزءٌ من القصّة وآخر من السيرة و بعضٌ من اليوميّات.

كما نبّه على خطأ أن ننظر إلى المكان كما هو، مبيّناً أنّه إنّما ظلّ يعاينه أو يشتغل عليه بعينٍ ليست العين الأولى، كما أنّها ليست الثانية، وإنّما بنظرة مغايرة، منطلقاً يتحدّث عن ثنائيّتي التنظير الأكاديميّ للمكان والتورّط الإبداعيّ في الكتابه فيه أو عنه أو حوله، جازماً أنّ مهمّته الإبداعيّة تلزمه بأن يغامر في إعادة تشكيل هذا العنصر المهم، والإفادة من تفاصيله التي يقلّبها على الوجه الذي يريد.

واتخذ العدوان من تجربته مثالاً في دخوله الأسطورة والتراث في قصص كتبها عن المكان، الذي كان في بعض أقاصيصه «سماء»، يحملها قوله «سقط سماءً»، المغاير لقولنا «سقط أرضاً» حيث الشخوص ملائكة، والقصّة تتناول ثيمة الموت، فكان من الطبيعي أن تختلف الجغرافيا باختلاف تصوّر الكاتب لهذه الموضوعة أو تلك؛ موضّحاً أنّه حينما عاد من السماء إلى الأرض حمل على عاتقه عبء الكتابة عن ثلاثمئة قرية زارها، فحملها على صفحات «الرأي» بحكايات وأساطير تستند إليها هذه القرى التي أحالته إلى ماضيها وما كان يتخلله من حراك، كالحميمة مثلاً، التي استعاد بها ذاكرة العباسيين، وفي طرف متصل كان العدوان يعرّج على قبيلة «البدول» الذين كانوا يسكنون البترا فتفرقوا حولها، مستفيداً من حسّه الإنسانيّ في استيلاد الثيم وإعادة القراءة، منوّهاً إلى أنّه لا يكتب عن هذه القرى بعين المستشرق أو بعينٍ سياحيّةٍ وإنما بصدقيّةٍ هي أبعد ما تكون عن التغزّل بالمكان وجمالياته، مفارقاً باشلار في تنظيره الذي رآه منمّطاً حول جماليات المكان، ما دفع بالدكتورة العجيلي إلى أن تصحح بأنّ تنظيرات باشلار لا تعني افتعال الجمال، بل يدخل فيها الحديث عن الجميل والقبيح والتراجيدي والكوميدي والعليّات والأدراج و»جوارير» الخزائن والعلاقة النفسيّة للكاتب والمتلقي حيال المكان.

وتابع العدوان يتحدث عن «العتبات» التي جاءت مخاضاً لسنوات من حمل مضنٍ لقرى أردنيّة في الشمال والوسط والجنوب، مؤكّداً خصوصيتها بين «عتبات» شتّى في العالم، كما أفاد بالهدف المعرفي الذي يجيء من غير ثقلٍ في الكتابة عن العتبات.

وتحدث عن المكان وطناً ذا رائحة، مثلما توقّف عند «النهر»، محذّراً من مغامرة المكان المتخيّل و»الزيف» الذي قد يطلّ من بين شقوق كتابةٍ شوهاء يملأها التصنّع والإقحام. وفي ذلك تحدّثت العجيلي عن «المكان» حيلةً روائيّةً أو مفتاحاً ندخل به إلى النصّ، محاورةً العدوان حول سطوة المكان الفلسطيني في كتابِهِ الأحدث، الذي وصفه بأنّه تجربة مثيرة ودار قبيل كتابته صراع بينه وبين نفسه حول مادة النص التي تلزمه الذهاب إلى حيث النهر والأسئلة الكبيرة التي بانتظاره، لافتاً إلى «مقهى حنّا» السرياني ومشارف البوح في إطار المكان الذي جعله يختلق «الفينيق» للوصول إلى ما يريد، مع ربطٍ بين مدن أردنية وفلسطينية لم تخلّ بالنسق السردي الذي اشتغل عليه، اعتماداً على أنّ الثقافة رحمٌ بين أهلها كما قالت العجيلي.

برجس: اتساع المخيلة

في حديثه عن المكان، استعاد جلال برجس نقطة الولادة، رابطاً بين خلّو المنصة من الماء وكثرته في نصوصه الإبداعيّة التي استعاد بها «حنينا» القرية، مكاشفاً بأنّ ثلاثة أماكن أثّرت فيه، هي القرية والصحراء والمدينة.

قال برجس إنّه حين كان الشتاء يحلّ عليه، يسّمّع للجدات والأمهات وهن ينقلن الحكايات، وفقاً لطقوس القرى في القصّ الذي يتعدّى سرد الحكاية إلى الابتكار، لتتسع المخيّلة التي رآها ذات علاقة مهمّة ووطيدة بمكانه الأوّل الذي تشكّلت فيه ذكرياته الأولى بكلّ مراثيها، وهو ما خلق منه كاتباً، خصوصاً وقد كان تسابقه خطاه إلى دار غالب هلسة، الذي كان ترجم باشلار، وهي الدار القريبة جداً منه، ليتتبع روايات صاحبها واحدةً واحدةً، حتى أنّه خالها تتحرّك أمام عينه من ذلك المرتفع من قرية ماعين.

كما استعاد برجس كهوفاً وماضي قبيلة سكنت الكهوف وانتقل أجدادها فيها إلى بيوت الشعر باتجاه «الدور»، وهو ما رآه فضاءً اجتماعيّاً ما يزال يحتفظ بمزاجه الاجتماعي.

وفي سياق شهادته الإبداعيّة، تحدث برجس عن دراسته الطيران واشتباكه مع الصحراء سنواتٍ كافية لأن يعود منها شاعراً قبل أن يكتب الرواية باعتبار الصحراء- كما قال- لوناً واحداً- وفضاءً شاسعاً غير نهائيّ كان يبتكر فيه الخضرة والأشجار والنساء الجميلات من خلال القصيدة في ثمانية عشر عاماً، توجّه بعدها إلى عمّان مكاناً يفكك رموزه بوعي آخر مختلف، الدهشة فيه أن يدخل رجلٌ بدويٌّ إلى معترك جديد. كما وقف عند «رذاذ على زجاج الذاكرة» تجربةً أولى طوّف خلالها بقرى ومدن أردنيّة، وكان يقصي التاريخ والجغرافيا متعاملاً مع المكان حالةً جماليةً ينقلها للقارئ من منظوره النفسيّ الخاص، كما لفت برجس إلى اشتغاله مع الفنان خلدون الداود على كتاب ترجم إلى سبع لغات بعنوان «القدس ومادبا: شبابيك تحرس القدس»، وانطلق من فكرة بسيطة مفادها أنّ رجلاً يقف على جبل نيبو وينظر تارة للقدس وأخرى إلى مادبا، في تنوعٍ من التوأمة وقراءة الجمال المخضّب بالتاريخ، ليكتب بعد ذلك روايته «الحالم» ويجعل من جبل نيبو بطلاً لها بكل ما يوحي به من أبعاد.

وبعد اعترافه بسطوة المكان عليه في كلّ رواياته السابقة واللاحقة التي ستتصدرها «سيدات الحواس الخمس»، قال برجس إنّه سيقسو في هذه الرواية الجديدة على عمان لفرط حبّه لها، وهي المدينة العموديّة في توسّعها، بينما هو قادمٌ من مادبا بكلّ توسعها الأفقي، ولذلك ناقش فكرة وصفها بالكارثيّة في أن تضمحلّ المراكز التقليدية كاللويبدة وجبل عمان، وسواهما في خضمّ الشراهة الهندسيّة في البناء، خصوصاً وهي المدينة التي قال إنّها تتفرد عن غيرها من مدن «معلّبة» أو «معدنيّة»، ولذلك جاءت فكرة الخوف والقلق والقسوة التي تحملها روايته الجديدة عن عمان، وهي القسوة التي وافقته فيها العجيلي التي استأنست بنجيب محفوظ في علاقته الواحدة بالمكان التي قد تكون محلّ نقد في احتكار نجيب للقاهرة في أعماله، خصوصاً وقد كان ارتبط اسمه باسمها، مثلما ارتبط اسم الروائي إبراهيم عبدالمجيد بالإسكندريّة، مؤكّدة المكان حمولةً ثقافيّة، لافتةً إلى أسماء في مادبا تؤكّد ما تحتفظ به محافظة عريقة بحجم مادبا بكلّ بهائها الضارب في عمق التاريخ.

المفهوم الجديد

تحدث المنتدون عن سؤال هل بالضرورة أن يكون المكان افتراضيّاً في الكتابة الإبداعيّة، وفي هذا أكّد الروائي البراري أنّنا لا نذهب إلى القمر حتى نصفه، وهو الطاغي على تفكيرنا وأعمالنا في كثير من الكتابات، مناقشاً فكرة ألا نسجّل المكان كما هو، وأن ننطلق كما انطلق هو مع المكان من منطقته الموغلة بالطفولة، في حين اشترط برجس الصدق في الإحساس عند المغامرة، بينما رأى العدوان أننا يجب أن نفرّق بين الجغرافيا والمكان الذي يدخل في الكتابات، لافتاً إلى أن المكان الحديث ربما يكون لوحة مفاتيح لحاسوب، أو قبراً يشبه القبر الماديّ في الدلالة ويختلف عنه في الشكل، إذ قد يكون القبر قرصاً ممغنطاً أو ما يشبه ذلك، كما ذهبت الناقدة العجيلي إلى أنّنا يمكن أن نستعير المكان في إيطاليا بفنجان قهوة وموسيقي إيطاليّة، وهو ما يقلق في تحوّل المكان الذي ربّما ينحرف اليوم في المفهوم الإبداعيّ كما قال البراري، خصوصاً مفردة البحر الذي كان دائماً يرتبط بالرومانسيّة والهدوء على الأعمّ الأغلب، بينما هو اليوم يبدو غولاً شرهاً ما يزال يبتلع الناس والأطفال، لافتاً إلى أعماق «المتوسط» التي تسكن أعماقها ضحايا الحروب والباحثين عن المنافي البعيدة بعد كلّ هذا العذاب