|
عرار:
يرى الشاعر المغربي الدكتور عبد الله الصديق أن الشعر ومعه سائر التعبيرات الجمالية هي خطوط جبهتنا الأخيرة في مواجهة الارتداد والتكلس والتسطح الذي يتمدد في مجتمعاتنا، مؤكدا أن مجموعته الشعرية الجديدة «تفاصيل تفترس الحياة»، تفتح ثقويا في جدار اليومي العابر، وتخلع عته حجاب الألفة. «الدستور»، التقت الشاعر المغربي الصديق في رام الله وحاورته حول تجربته الشعرية وحول النقد وقضايا أخرى في الإبداع. ] من خلال سيرتك الذاتية، ثمة مع القصيدة والبحث صلة ما، ما أوجه الالتقاء ما بين القصيدة والبحث؟ - سأفهم مقصودك بالبحث ما ليس بالضرورة اشتغالا أكاديميا نختاره طوعا أو يفرضه علينا المسار التعلمي، بهذا الفهم أستطيع أن أقول: زمنيا، يحدث في الغالب أن تسبق القصيدة البحث، القصيدة «وأعني النص الأول»، تبدأ كشهادة ميلاد لتصير تجربة شهود، وقد تنتهي بالشاعر إلى مقام الاستشهاد، الفعلي أو المعنوي. وأظن أن مرحلة الشهود التي يخوضها الشاعر يحتاج فيها إلى بحث يتجاوز به حالة التعبير الانطباعي الحالم إلى حالة التعبير عن الموقف من العالم وأشيائه وقضاياه. ومضمار هذا البحث هو إدراكٌ وتمثُّلٌ وتفكيكٌ لمنجز الأخر «شبيها ونظيرا ومختلفا»، هذه المسألة هي ما دعت أحد أسلافنا إلى التساؤل «هل غادر الشعراء من متردّم؟»، ودعت آخر للجواب: «كم غادر الشعراء من متردّم»، وفي المسافة بين هذا السؤال وجوابه يجد الشاعر أن قصيدته قد تحولت إلى بحث، القصيدة بحث عن الأسئلة، والشعر كما الفلسفة، كلاهما معني بمطارحة الواقع وطرح الأسئلة. ] «مثقلا بالندى»، مجموعتك الشعرية الأولى، ثمة إشارات ولحظة اكتشاف لمعنى الوجود وقلق الحياة، لماذا أثقلك الندى بميلاده؟ - مثلما يثقل فتى عربيا تمنى أحد أسلافه لو كان حجرا، وقد يفعل الندى بالحجر ما لا تفعله النار، فكيف به إذا اجتمعا عليه، هو ندى الحلم، وهي نار الواقع بكل سلطاته الاجتماعية والسياسية والدينية تتحالف عليه لتحاصره، وتفرض عليه قوانينها التي لا تتواءم بالضرورة مع طموحاته، بل ولا تسمح له بالجهر بكل أسئلته، فلا يتبقى أمام الشاعر من خيار غير أخذ مسافة من ذاته، مسافة انفصال يحاول فيه استعادة الصوت الأول:»الصوت الأول/ ألف صدى يتبعه/ تتمدد الصحراء في عريها البدائي/ يزهر جسدي حبقا و دفلى/ وأيائلَ تخرج منه ترتعهُ». ] القارئ لقصائدك، يكتشف بأن رموزا وشيفرات في داخلك – داخل الشاعر الطفل - فماذا عن طفولة الشاعر فيك؟ - ولدت في حي كولوش بوجدة، لأسرة يعولها أب مثقف عاشق للمسرح والرواية، كان ينفق على مكتبته كأنها أحد أولاده، في مبتدأ عقدي الثاني صيرني الوالد «أمينا لمكتبته»، كنت كلما أغلقت الباب علي ظهرت في الغرفة أطياف موليير، وراسين، وجبران وتوفيق الحكيم، وإحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ، في هذه الأجواء ترعرع وجدان الطفل الذي كان يرفع عينيه للسماء، ويفتح ذراعه للحياة، وكأي فتى في مجتمع عربي، لا تعمر هذه المرحلة طويلا،حتى تنكسر النظرات فيبدأ الفتى رحلة بحث ما عن شيء ما، عن معنى ما، وتتحول العيون من التطلع نحو أفق هناك إلى الحفر في صخر المرايا، إلى تشمم رائحة احتراقها باحتراقه. اليوم الجديد .. رائحته قديمه، تحترق المرايا التي فقدت بصيرتها، يذوب عام آخر من الجدب، وأتوجس من النهايات التي تبدأ منها الصورة، وتأبى النار فيها أن تتراجع:»الآن يحترق ما قد تمزق». أستفيقُ/ أتلمَّسُ المرايا/ أرسم تجاعيد جديده/ أغسل وجها من تراب/ ليغتسل وجه الحرف/ فلا يغتسلْ /أسيــــرُ ../ :» هذا ليس زمنك» / أغادر وادياً صار جرحاً / أمزق ظلَّ الحرف/ أصيح في وجهي: «هذا ليس وطنك»/ أتنسم رَوْحــاً كان للطفوله/ ومدنا لأمس صار بعيداً/ كي أستفيق / فلا أستفيق. أمام هذا الايقاع السريع في رحلة الأيام نحو شيخوخة الروح والجسد، لايبقى من سبيل للمقاومة غير الحفاظ على طفولة الدهشة عبر التشبث بدهشة الطفولة. ] «تفاصيل تفترس الحياة»، المجموعة الثانية لك، ثمة إبحار نحو أدق التفاصيل في الشأن الحياتي والحلم المنشود، واستقراء لجوانية الإنسان بأسلوب شعري لا يخلو من القصّ؟ - مجموعة «تفاصيل تفترس الحياة»، محاولة متعبٍ للتخفف من أحمال اللاجدوى التي أثقلتنا بها الانكسارات الكبرى التي توالت على جيلنا منذ ثلاثين سنة، رقم أتفوه به للتو وأذهل منه، ولا أشك في ذهولك منه أيضا، إنه يذهلنا جميعا، ثلاثون سنة مرت كأنها ليلتان وضحاهما، ذهول من هول الدمار الشامل والسريع الذي نشهده لمجتمعاتنا العربية منذ سقوط بغداد إلى محنة سوريا الثائرة ..ماذا يتبقى غير الكفر بالشعارات الكبيرة والنبرة الصارخة، والاستعاضة عنهما بالالتفات الباحث عن التفاصيل الصغيرة حيث تكمن الحياة، وتنبثق اللذاذات المتبقية من المشهد الرمادي الكاسح. «تفاصيل تفترس الحياة»، تفتح ثقويا في جدار اليومي العابر، وتخلع عته حجاب الألفة، وتحاول إعادة صياغة العلاقات بين الذات «عارفة و غير عارفة»، وأشياء العالم واللغة. هذه التفاصيل تقذف بي إلى النهر، وتقف هناك على الضفة الأخرى، تضرب الحروفَ بالحروف، لتستوقد من المعاني، ناراً تأنَسُ بها الأشياءُ، والشخوصُ، وعناصرُ الكون المتواطئة، (...) هذه التفاصيل أوجاعٌ صغيرةٌ تخلفت عن صداعٍ كاملٍ، كامنٍ في السؤال، وظنونٌ بريئةٌ، تُطِلُّ على الله من نافذة التأويل. ] برأيك القصيدة العربية في الآونة الأخيرة هل استطاعت أن تواجه القبح في معترك الحياة، وتؤرخ لمعنى الجمال في زمن لغة الدم والتشرد؟ - أستطيع من زاوية الملاحظ أن ألمس الطفرة الكمية الكبيرة للتعبير لدى الفرد العربي بما هو شعر أو نثر شعري أو سرد، طفرة يساعد عليها الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي، دعنا نتوقف عند الظاهرة بعيدا عن أحكام الجودة والرداءة، أليس في الأمر شكل من أشكال الوقوف في وجه النكوص وأشكال الردة الحضارية التي يريدون لنا أن ننجرف في غمرتها، هذه الطفرة هي تعبير عن مقاومة ما، إن شابا يكتب سطورا على صفحته الفيسبوكية يسميها شعرا مهما كانت رديئة بمقاييس الإنجاز الفني هو أفضل من شاب يفكر بمنطق ماضوي نكوصي، ويشحذ سكينا لينحر مختلفا عنه في العقيدة، في ساحة أريد له أن يعتقدها ساحة جهاد ديني تقود إلى جنان الحوريات وأنهار الخمر، وهو أيضا أفضل من شاب ينفق وقتا أمام برامج التسلية والإلهاء الجماهيري. الشعر ومعه سائر التعبيرات الجمالية هي خطوط جبهتنا الأخيرة في مواجهة الارتداد والتكلس والتسطح الذي يتمدد في مجتمعاتنا، الشعر باق ما بقي الجمال في الحياة، والمعنى في الوجود، والجدوى في الفعل. ] «النقد والإبداع»، يقال بأن العملية النقدية لم تواكب الإبداع، إلى أي حد ترى ذلك صحيحا؟ - سؤال النقد ومدى مواكبته للعملية الإبداعية، مناطه في رأيي متصل بالدرس الفلسفي، ففي غياب تقاليد راسخة للدرس الفلسفي في برامجنا التعليمية و الإعلامية سيكون من غير المجدي الاستفهام عن غياب معالجة نقدية للمنجز الإبداعي. لابد أن يستعيد الدرس الفلسفي العربي هويته أولا، ليجترح بها أسئلته الحقيقية، لا تلك المتماهية مع أسئلة الآخر، مثلما عليه أن يستعيد أيضا مركزيته في قلب الثقافة العربية، وقتئذ سنرى المواكبة المأمولة باعتبارها نتيجة، لا وسيلة أوهدفا في حد ذاته. المصدر : الدستور الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 20-03-2017 09:40 مساء
الزوار: 1564 التعليقات: 0
|