هذا التجريب يعطي فكرةً عن ثقافة العميمي وتنافذاته، في مجموعة تكثّف فيها المعنى بعدد صفحاتها القليل، ومع أنها لغة متداولة ساردة، إلا أنّ الهدف العام يتحقق في النهايات؛ إذ يلتقط القاص مما حوله ومن عجائب المصائر ما يروق للنفس المعذّبة أو التي ما تزال تبحث عن العذاب.
المجموعة ذات المائة وعشرين صفحة من القطع الصغير تملك على القارئ إحساسه، وقد أراحه العميمي عقب كلّ قصّة لا تتجاوز الصفحتين أو الثلاثة بمقطوعة أو (ومضة) نثريّة تؤكّد ما جُبل عليه القاصّ من ألم.
في قصة (ركض بعيداً)، مثالاً، اشتغل الكاتب على فلسفة الظلّ، وكأنّه يعالج (قدريّةً) أو يخرج على سيرورة، أو يقرأ ما تنطوي عليه النفس أو ينبّه الضمائر قبل حتميّة الانفصال، في حكايات فيها من التشويق، لكنّها تقف بمتلقيها أمام التعبير الأخير للانفتاح على مساحات لا تنتهي، كان القاص فيها إشاريّاً بذكاء.
يقترب العميمي من السخرية ونقد الواقع؛ كما في حقيقة براءة الأطفال وتلوّث الكبار بالزي والنفاق في أكثر من مجال: (انتشرت إشاعة قويّة بأنّ عرّافاً يفضح الكذّابين سيزور قريتنا يوم الإثنين.. وفي صباح الإثنين خلت الأسواق ودور العبادة والمرافق الحكومية من الناس تماماً.. وكان الأطفال يلهون وحدهم في القرية!).
يعالج القاص الأحلام المذبوحة والتضحيات والإنسانية المنتهكة والرومانسية الضائعة، ويأتي على لطائف واعترافات وتصالح مريح، كما في مراسلات (أبو فريد) إلى أم فريد وانتمائه إلى بلده اللاحق ومصارحته بأنه لم يكن يحبها يوماً وأنه عثر على عمل واستقرار وزوجة؛ في حين أنها تكاشفه بأنها لم تكن تحبه هي أيضاً وأنّها تنتظر العدّة لتتزوج حبيبها الأب الحقيقي لفريد؛ فالخيانتان متعادلتان.
في مجموعات مثل هذه الأسلم فيها أن يستمتع القارئ بمفارقاتها وحواراتها ويوميات صاحبها، لأنّ المضيّ في تفكيك العنوان عتبةً للنص وشحذ الهمّة للربط بين المقطوعات وتبرير تهويمات الكاتب وانفعالاته ربّما يصرفنا عن كثيرٍ من المقاصد التي استلها العميمي من بين ظهرانينا وناب عنا في معالجتنا، ونحن ما نزال نبحث عن معنى الصفحة 79 من مذكرات الكاتب.