ووفر لهما مساحات واسعة من التأمل النفسي والوجودي، باحثا عن شرفات تقيهما مسارب الانزلاق إلى الأراضي المسطحة، ويذكر صاحب ديوان « وحم الشجر» أنه في عمر الشباب كان يفهم أن ّ حفظ شعر الشعراء سيحبط المقدرة إذا وهب الله الإنسان الشّعر، لذا كان يتحاشى قراءة الكثير منه، ولا يركّز إلا على المقطوعات العجيبة التي فيها وحي إنساني ّ، ويذكر أنّه كان يكتب المقطوعة ليتغنّى بها أسبوعا أمام أصدقائه ثم ّ يتلفها أو يهملها أو يحرقها ولم يكن يعرف لم؟  ويرى إلى أن ما كان في صالحه في كل هذه التجارب التي قدمها هو اعتماده على فطرة شعرية وتفكير فلسفي، وعدم حفظ نصوص الآخرين أو مطالعة الشّعر سواء الجديد منه أو القديم، إلا بما يشبع الذائقة من مقطوعات جميلة وممتازة ونسيانها تماما ليبقى وهجها ويذهب غبار حروفها ...

« الرأي» حاورت صاحب الأعمال الشعرية « توشيح الذاكرة، شظايا، وحم الشجر»، وقبلها ديوانه الأول « ينابيع في الهضاب» الذي يرى أنه جاء من قبيل تحصيل لما قبل الرّشد الشّعري. لتقف على تجربته التي أصبحت من التجارب البارزة والمهمة في المشهد الشعري الجزائري والعربي.

 ماذا عن تمارين النص الأول، بعد أن أصبح الشعر فعلا احترافيا؟  
« ينابيع في الهضاب»، ديواني الأول يشكل بحثا متواليا عن الأسلوب، عن الذات، عن الهاجس، عن الخطّ، عن المنحى، عن بؤرة تلاقي المدارس، ربما هو ديوان التجربة أولا  وأخيرا من أجل هدوء إبداعيّ معين، لذا كان من أخطر الدواوين التي أقلقتني لأسباب كثيرة منها مثلا  السهولة في الكتابة، وعدم وجود هاجس لكتابة النّص بذاته، كما أن فيه هلوسات لا غاية منها ولا فائدة سوى تمارين لغوية..كما فيه شعرا أصيلا  .... لكنّه مهمّ من طريق آخر لأن النّاقد قد يجد فيه معاناة الاكتشاف والتخندق وتحديد الطريق.

خلق بيئة بلاغية، إلى جانب تكسير النمطية والجمع بين الكلاسيكي والحداثة، هما مرمى ديوانك الثاني، كيف تعلل هذا؟
ثمة عقيدة في ديواني الثاني « تواشيح الذاكرة» يجب أن تكون عليها القصيدة، من الجلوس في نهاية منحى كتابة يجمع إليه ما يمكن قبوله، خاصة في العمود من جمع والتقاء الكلاسيكية والحداثة، مستعينا بالرؤية والرؤيا والبلاغة والتشفير البلاغي لفقهاء الشعر الطّيّبين، وأدلل على  ذلك بمقطع من « قصيدة ارتحال» التي أقول فيها: «صمتي الذي بعثرت شطآنه جملي، يستغفل الحبّ كي لا يدفع اللــّـوما، فوقي السّلام بأسماء يوزّعني، على سلامي الذي علـّمته الحلــما، ربّ الخدوش التي تحتل ّ أوردتي، ستنقل الشّعر في تجسيده الأسمى، هذي حكايات حرفي صيّرت ألما، -جرّبته – نغما لم ينطفئ يوما، كوني فضاءات عشقي حول أشرعتي، أخّاذة  لا تثيري وسطنا السّأما»
كما أن الديوان يجمع الضرّتين في هدوء تام ويوازن بينهما ... تقريبا هذا هو خط ّ توشيح الذاكرة مع الجموح أحيانا إلى استنطاق القديم ببلاغة واجبة متحدّية ...إلى جانب  تكسير النّمطية والجلوس في الوسط بين ( مشاعر/ عقل) لاكتشاف منطقة مدهشة فعلا تجمع بين الأفئدة والدماغ، فيشتغلان معا في سبيل تذوّق عجيب ( شعوري عقلي ) في الشّعر العمودي أو الخليلي في منطقنا الحاضر إذ لم أبت ليلة واحدة في خيمة لهو مغامرة بحدّ ذاتها تجلب لنا كثيرا من الأغبياء وأنصاف المثقفين و حبيسي المعلقات المقززة عذرا المدبلجة. 

هذا يقودنا إلى تفعيل خاصية الجمال في النص الشعري، وتكسير مفهوم العمود أيضا، لإيجاد ما يوازيه من حيث استناد النص على أبواب التأويل المشرعة؟
في ديوان «شظايا» ذهبت إلى تكسير معايير كثيرة بقصد، حيث اعتمدت فيه على النصوص القصيرة والمتشظّية والتي في معظمها هي تشظيات نفسية في لحظة واحدة تكتب في نصّ واحد ثم تغلق الكمبيوتر بسرعة ولا تقرأها إلا مرة أخرى كما يرى من قبيل الخواطر .... طبعا بنسبة 90في المائة خليلية تكسّر مفهوم العمود نهائيا إلاّ في قليل منها مع وجود نصوص تفعيلية ليست مركّزة بمثل النموذج الخليلي، ولتأكيد خطة الديوان أسوق هذا المقطع :» ينـمو ويغرس بعضه في بسمتي ، يجـتاز مندفعا حدود ظـنـوني، هل كان يعرف قصّتي و تـموّجـي؟، هل كان يعرف ثرثرات جنوني؟، في أي ّ  ريح يستعيد هدوءه، هذا الرّعاش ورا قطيع  شجوني ؟، أمشي بلا وطن و أ شرك بعضه، في شارع يمشي بغير  عيون ، يا شعر من أغواك حتّى جاهرت، عيناك في كـشف  الهوى المجنون ؟
وقد تجد فيه من التفعيلة ما تحمل ألف وجه للتأويل ... تشعر بالجمال ولا تستهدي إليه أبدا مثل هذا النص: « كلـّما نام في جفنه حرقه، واستوى، كان ينساب، يستعرض الصّاعـدا، ها هو الماء يبنيه، يستنهض الماردا، لم يكن ساخنا .. لم يكن باردا، جرّب القلب شوطين  ..، كانت على بعضه، كوّة تسكن الحب ّ ، يمضي إلى وهجها متعبا، كان سحرا ولا زال يرمي، بألوانه الشّاردا».

« وحم الشجر» ديوانك الأخير يحتفظ بنكهة خاصة من حيث الالتفات إلى المعنى المحاط بلغة مجذوبية خاصة يتلمسها القارىء من التراكيب التي لا تخضع إلا لمعايير الصدمة المباغتة، كيف تنظر لهذا؟
في ديواني الأخير» وحم الشجر»  ذهبت إلى الومضات التفعيلية لاكتشاف قدرة المعنى على سبر الأغوار، وكنت مختلفا عن جميع من قالوا في هذا النّمط بلغتي ورؤياي وتمكين المفردة المجذوبية من أخذ مكانها داخل عشيرة الألفاظ الذاتية.

 ماذا عن قصائدك التي كتبتها قبل الأربعين، قبل أن تدخل عوالم الشعر، ماذا حصل لها؟
 وعن قصائده التي كتبها قبل بلوغه الأربعين يقول: كلّ ما كتبت أحرقته أو قطّعته أو نسيته، لأني ما كنت أظن ّ أن أصبح شاعرا، ولم أحدّث نفسي بذلك يوما، فهمّتي كانت رياضية وفكرية في محاورات طويلة دوما وبحث دائم عن الصّياغات الممكنة لمعرفة أخرى ... لكنّني بقدرة قادر في لحظة ما قرّرت أن أصبح شاعرا، أنهي بها حياتي وأقول ما يعجبني ( تلك التي تفطّنت إليها مؤخرا ابتداء من توشيح الذاكرة بنسبة 95 بالمائة طبعا ) لأنك أحيانا تتّهم نفسك بأنّك قد كتبت ما لا تحبّ وقد يكون جميلا  عند القارئ وهذا حدث معي كثيرا من خلال القرّاء.
 
ما هي انشغالاتك الإبداعية الجديدة؟
أعمل على مجموعة جديدة بعنوان» الرّقّ ثانية « وسأكون بطيئا جدّا في نشرها، لأنني تعلّمت أن نشر الدّواوين لا يفيد إلا بعد مراجعة ومراجعة هنا وهناك، خاصة الجانب اللّغوي كما إمكانية إيجاد ما هو أجود مما عندك.

وماذا بعد هذا الهدوء الإبداعي، إلى أين تسير كائناتك الشعرية؟
ليس لي أن أتجرّأ على تقديم أكثر من هذا، فذلك من مسؤولية القارئ النّاقد فهو من يستطيع أن يضع كائنات الشعر المجذوبية في أمكنتها الطبيعية، لكنّي لا زلت أبحث عن جواهر أخرى في الكتابة تكبح النّثرية داخل الشّعر، وتكبح المشاعر الفيّاضة أيضا، وعن جواهر أخرى تعطيك نصّا فلسفيا عالميا في أوجز ما يكون هي عتباتي المستقبلية»