ليس لهذا عجبت؛ بل لأنّ ثابت سالم الدهام يجدد في الشعر النبطي وهو ابن منطقة موغلة بالتقليد على مستوى الوزن والقافية والموضوع، وقد رجّحتُ أنّ هذا الشّاب ربما أثّر فيه والده أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك سالم الدهام، الموظف السابق في وزارة الثقافة، الذي حصل على الدكتوراة في شعر فدوى طوقان، ومارس هذا الشعر محكّماً في جولات شاعر الأردن في نسخته الأولى عام ألفين وتسعة، أيّام الشاعر الراحل حبيب الزيودي، الذي عمل على أن تتوهّج كل المحافظات شعراً فيه نوع من الخروج على النمط، على أقلّ تقدير.
قال ثابت الدّهام، في البرنامج الذي يُتاح فيه للجنة التحكيم 60 بالمئة ولتصويت الجمهور أربعون بالمئة، يردّ على عضو لجنة التحكيم مصطفى الخشمان، إنّه إنما كان يستدعي الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السيّاب، في توليفة تحدّث بها عن الوطن والذّات في حلقات بدأت تكبر حتّى أتمّ القصيدة، غير منتبهٍ إلاّ إلى صوته هو، في خضمّ كلّ هذا القول.
وليت شعراء الفصيح ونقّاده في البرنامج الذي يبثّ على التلفزيون الأردني كلّ أحد وثلاثاء في الحادية عشرة ليلاً، أن يتقاربوا، ليأخذوا عن إخوانهم، ويأخذ أخوانهم في الشعر النبطيّ عنهم تقنياتهم في الكتابة قيد التجديد.
في الواقع، كان ثابت الدهام مثالاً للشاب الذي بدأ يخرج من قالب ألفناه، ومفرداتٍ كلّها خليجيّة، أطاحت بكلّ خصوصيتنا الأردنية؛ حتى حسبت والزملاء أننا إنما نحن في(شاعر المليون)؛ ذلك البرنامج الخليجي الذي يقام كلّ سنتين في الأمارات، ومضى عليه خمس سنوات، واهتمت به الدولة كلّها، وهي فروقات كبيرة جداً في برنامج (شاعر الأردن) الذي اشتغلت إدارته على ديكوره في ساعة وبثت مجتزءات محزنة لا يكاد الصوت فيها يبين، وعتّمت على الجمهور، بل وجعلت هذا الجمهور خلف لجنة التحكيم مع جسر خشبي ملوّن بصفائح مضيئة لا تنفي السرعة في (سلق) البرنامج، بالرغم من كلّ ما لدينا من إبداع.
قال ثابت الدّهام في قصيدة (عيون ما تبكي) : لقيــت الـدمع فـي عـيـنـي وعـيـّت عــــزتي تبـكـيــــه// جميل الدمع في عيني عجبـني يـــوم خليتــه// الـم يلـمـع مـع عــيـونـي الـم لـكــن صـمــودي فــــيـه// عجبني وليد ما يبكـي اذا للـــــموت تـلّيـتــــه// لقـى مـوتـه مـع الفرقا وهو يـضـحك ولا يـعـنـيه// ولا صاح الولد قلبي تركني وراح من بيته// شجاع وما رضى الذلـة و اذا قـلبـه نوى يضنيـه// قطع قلبه من شروشه وقام يقول ملّيته// قرطه بدرب ما يرحم ولا غير الهوى يمـشـيـه// و شافه ميّت وخلاه حرّم ما يجي ميته// وشاف الشوق عجّب بـه ولـكـن ما رضى يعزيـه// طفى شمعي وهو يحرق ضلوعي يوم حبيته// سلام اليوم يا قـلـبي سـلام اللي نسى ماضـيـه// تشاقلت الهوى وياك زاد الحمل حطيته// نصحتك يومها تذكر تعال ورافــقــــــن خـلـيــه// وقلت انك قوي وتقدر و زميته وضمــيـتـه// رحلت ورحت مع شوقك ضناك الشوق ياراعيه// ولا ترجع على دارك مكانك قبر سويته// قبرت الفرح في عمري حرمت العرق لايسقـيه// ولا بدموع ودّعته ولا بتراب واريته// جمعت ضلوع من صدري وكومته عشان اخـفيـه// واذا رموشي بها بلّه تراني عمد بلّيته// دمع وقّـف عـلـى رمـشـي و لا نـدّى على تالـيه// مشان الناس لا شافو تقول شلون سويته// غـريـب شـلون ما تـبكي عــيـونـك ودهــا تــبـكـيـه// يجي ردي ترى دمعي عجبني يوم خليته// الم يلمع مع عيوني الم لكــــــــن صـمـودي فـيــه// عجبـني اولـيـد مـا يـبكي اذا لـلمـوت تـلّيــتـه).
ثابت الدهام، الذي لا أعرف رقم التصويت له ولا أشتغل على الدعاية له؛ إلا أنني معنيٌّ بإبراز التجديد وصوت الشباب الواضح بالرغم من كلّ هذا الضجيج، فجّرت قصيدته (وطن ينبض بين الضلوع) فيّ عشرات التساؤلات عن هؤلاء الذين يخرجون ويسعون إلى أن يكون لهم مكان في زحامٍ يمتلئ بالتقليد، وهي قصيدة جعلتني أؤكّد دور الثقافة في رفد النصّ الجيّد، وقد قال: (تـوّي فـهــمـت اليـوم يـا بــدر الـحـزين// ليـه الـظـلام بـشطـك أجمل يـا غـريب// ليه اتّـعـجـب كيـف خــان الخاينــــــيـن// فعلا غرامك يا وطن شيّ(ن)عــجــيـب//اسـمـع عـــــلـيا بـقـســـم ابـربـي يــمين//اقسـم بـربـي بالـصـدر يـمّـك لــهــيــب// ودّي تـشــوفــن للـعـدو لـو عـشت بيـن// و ان مـتّ تـكـبرتـشـرب دمـايـا حـلـيب//تكبـر تعـيش وارجـع الـــبطــنـك جنين//يوم اتجندل فـوق ارضــك يـا حــبــيـب//ودّي اغــــنّـي يـومـــهـا وانــــا طـعين//دمي يسيل وخاطـري ابـعـزك يـطـيــب//افــخــر تــبـاهــى وقـول عيـّا لا يـهين// هـذا اولدي ومثل اولدي ما حـد يـجـيب//نــم فــي ضــلوعِ صـلبـةِ لا تـستـلـــين// فبصدر طفلك موطـني لا لـن تـغيــــب//سيـفر مـن عـينيـه ان سـكـت الـحــنين// يبقى بريئا ًفي هـــــــواك إلـى المشيـب//يركض وتركض خلفه اعجاف السنين//تنهش لحمه وتطعمه راعـي النـصيــب//قــال لـعيونـك بـكـرم الملــيــون عـيـن//ياما انجرحت وقلــت ما ودّي طـبيــب// ادري عمــاك الــلـي عـطـيـته بسّ زين// بكرى تعرف اللي من عياــلك قريــب//والـلي عطيـتـه لا نـخيـتـــه مـا يــعيـن//الله معه عندك ولد لو ضــقت ذيـــــب//هذا الـعهد جـمـر وغضب يا غــانـمـيـن// واللي يشوفن منقرط بارضي صويـب//يـاصـل عـلـى أمي ايـقلّهـا لا تــنـدبـيـن// مات اولدك مثل اولدك مـاحـد يـجـيـب).
نحن بحاجة إلى التوظيف الجيّد للمفردة الأردنية في القصيدة التي تقنع؛ وإذا كان ثابت الدهام جاء بقصيد فصيح إلى جانب قصيدته النبطيّة، فذلك لأنّ الثقافة والقراءة في واقع سياسي يتشطى لا يحتاج كثير عناء في التدبّر والتوظيف، إنما ينفعان الشاعر ويمنحانه أفقاً عالياً، ولا أريد في الواقع أن أقدّم دروساً في الشعر وتركيبه واللعب به وعليه، وإنما أنا معنيٌّ بكشف الشاعر والتنبيه لموهبته واستثماره، سواء ألقى في (شاعر المليون) أم ألقى في حبسٍ ذي نوافذ، (لا تطلّ على أحد)، كما قال الشاعر الراحل حبيب الزيودي الذي نستذكره هذه الأيام.