حين يتغزل الشاعر بالمرأة يبدو في الظاهر أنه تحت سطوة عينيها النجلاوين، وشعرها الفاحم كالليل، ووجهها المستدير كالقمر، وقوامها الفارع كالرمح. وفي بعض قصائد الغزل قد ينتقل الشاعر إلى ما يسمى الغزل العفيف إلى وصف أخلاق المرأة، ورقة قلبها، وعطفها على الناس، وحسن سيرتها بين النساء، وغير ذلك من الصفات التي يصل بها إلى مرتبة عالية من الكمال والجمال. وقد يظهر لكثيرين أن بعض الشعراء يفصحون عن علاقتهم بتلك المرأة التي ذكروها في قصائدهم، ويشتكون من تقلب تلك العلاقة من القبول إلى الرفض، ومن الحب إلى الكره، ومن القرب إلى البعد، ومن الإخلاص والوفاء إلى النفور والخيانة. يتابع الناس عامة قصائد الغزل بلذة وشوق؛ فالإنسان مجبول على حب نوعه الآخر، وعلى حب الجمال في الفن والحياة. أما المرأة التي يخاطبها الشاعر في قصيدته فقد تظن بأن الشاعر يتغزل بها ويتغنى بجمالها؛ فتسعد بما تسمع أو تقرأ وتصدقه، وتعيش عليه وتحلم به. وقد تقع في حبائل الحب والهيام، فالغواني يغرهن الثناء كما يقول أمير الشعراء. إن المتمعن في شعر الغزل يتساءل: هل حقًا توجد امرأة في الواقع يتغنى الشاعر بجمالها، ويتمنى وصالها والاقتراب منها؟ هل حقيقة أن الشاعر يتوجه بهذا النوع من الشعر إلى المرأة؟ هل يهدف الشاعر بغزله إلى الوصول إلى قلب المرأة وروحها دون أي هدف آخر؟ في تاريخ الشعر وحياة الشعراء أن بعض الغزليين يستحضر امرأة من عالم الخيال والأسطورة؛ لتكون له حبيبة كما لغيره من الشعراء، فيتغزل بها ويحن إليها، ويرجو وصالها، ويطارحها الغرام. ولعل من هنا كثرت الحبيبات في شعرنا العربي: خولة وفاطمة وعبلة وهند ولميس وعفراء وبثينة وعزة وغيرهن. كل يغني على ليلاه متخذا ليلى من الناس أو ليلى من الخشب. ويستحضرني هنا تلك الحكاية عن شاعر من شعراء المدينة، راح يردد على مسامع الخليفة عبد الملك بن مروان بيتين من الشعر الجميل العفيف عن حبه ليلى، عطف عليه عبد الملك وسأله عن ليلى من تكون، ووعد بأن يزوجها له إن كانت حرة، أو يشتريها له إن كانت أمة. أجابه الشاعر: كلا يا أمير المؤمنين، ليلى قوسي هذه، سميتها ليلى؛ لأن الشاعر لا بد له من النسيب! أي ذكر جمال النساء والتقرب منهن. إذن لا بد للشاعر أن تكون له حبيبة من الواقع أو متخيلة، وقد يذهب بعضهم إلى أن يتخيل امرأة من نساء الجنة، فيتغزل بها، كما فعل ابن القيم في وصف عرائس أهل الجنة، وما عليهن من حسن الجمال والوصال: وَإِذَا بَدَتْ فِي حُلَّةٍ مِنْ لُبْسِهَا/ وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ/ تَهْتَزُّ كَالْغُصْنِ الرَّطِيبِ وَحَمْلُهُ / وَرْدٌ وَتُفَّاحٌ عَلَى رُمَّانِ/ وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيِهَا وَيَحِقُ ذَاكَ لِمِثْلِهَا فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ/ وَوَصَائِفٌ مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا/ وَعَلى شَمَائِلِهَا وَعَنْ أَيْمَانِ. وإذا كنا لا نستبعد أن يكون للشاعر حبيبة على وجه الحقيقة فإنا نشك في أن تكون هي الهدف من تغزله بها أو بامرأة غيرها. إن التغزل في المرأة أداة أو وسيلة يعبر بها الشاعر عما يتصف به من الرجولة والبطولة، أو ما يحس به من ألم، أو ما يعانيه من قلق الوجود، أو ما يتهدده من خطر، أو ربما لبعث الحماسة في الحرب، أو للتجاوب مع رغبات الناس، أو لضرورة فنية في تماسك القصيدة واتساقها. فهذا عنترة بن شداد في معلقته يتغزل بحبيبته عبلة، ليظهر شجاعته وإقدامه، إنه يتذكرها والرماح والسيوف تُسيل دماءه، ويرى لمعان السيوف مثل لمعان ابتسامتها، التي تجعله ينقض على الأعداء: «وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ/ مِنِّي َوبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي/ فَوَدِدْتُ َتقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا/ لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ». ويبرز امرؤ القيس في معلقته رُجولته وفُحولته أمام عشيقته، فاطمة، ويقدِّم نفسه بغزواته النسائية زير نساء، ومحترفًا العشق، ولا تنجو امرأة من سطوته، ويدلل على ذلك بقوله: «فمِثلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ/ فَأَلهيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْــوِلِ». فقد ترك هاتين المرأتين الحُبلى والمرضِع، مع أنهما في شغل عن الرجال متيمتين به. وفي قصيدة عمرو بن معد يكرب، التي مطلعها « ليس الجمال بمئزر» تظهر الحبيبة لميس بوجهها القمري بين نساء القبيلة، وهو يتهيأ لخوض المعركة، فتدب فيه الحماسة، ويهاجم زعيم أعدائه من قبيلتي كعب ونهد. «وَبَدَت لَمِيسُ كَأَنَّها/ بَدرُ السماءِ إذا تَبَدَّى/ وَبَدَت محاسِنُها التي/ تَخفَى وكان الأمرُ جِدَّا/ نازلتُ كَبشَهُمُ ولم/ أرَ من نِزالِ الكبش بُدَّا».
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 01-11-2024 09:23 مساء
الزوار: 108 التعليقات: 0