يتداول العاملون في حقل الاتصال تساؤلاً مشهورًا يمثل أحد أبرز التساؤلات التي ينبغي للمتلقي أن يهجس بها ليتأكّد من مدى مصداقية المرسل، وهذا التساؤل هو: هل يميّز المرسل بين الحقيقة والرأي أو وجهة النظر؟! وأحسب أننا لو استعرنا هذا التساؤل من حقل الاتصال وفعّلنا استخدامه في حقل المعرفة العربية بالاستشراق والمستشرقين، لما صمد في وجه هذا التساؤل إلا ثلاثة أطر مرجعية عربية فقط وهي على التوالي: «تاريخ آداب اللغة العربية» لجرجي زيدان و»معجم الأعلام» للزركلي و»المستشرقون» لنجيب عقيقي. وبغض النظر عمّا اشتمل عليه كل إطار مرجعي، من آراء أو وجهات نظر، فإننا نستطيع أن نتلمس حقيقة أن كلا من جرجي زيدان وخير الدين الزركلي ونجيب عقيقي، قد كانوا معنيين في المقام الأول، بتعرّف حقيقة الاستشراق بوجه عام، وسرد السيرة العلمية الفعلية لكل مستشرق على حدة، بوجه خاص، قبل أن يطلقوا ما ترسّخ في وجدانهم من أحكام أو آراء أو وجهات نظر. ومن الملاحظ أن هذه الوجهة الموضوعية في سبر الاستشراق والمستشرقين، قد امتدت من عام 1914 – وهو العام الذي صدر فيه تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان – حتى عام 1965 – وهو العام الذي صدرت فيه الطبعة الثالثة من «المستشرقون» لنجيب عقيقي – لتنتقل بعد ذلك المعرفة العربية بالاستشراق من دائرة (ماذا) إلى دائرة (لماذا؟) أو من حيز العلم إلى حيز التأويل، حيث راحت هذه المعرفة على وقع تصاعد المواجهة العسكرية والسياسية والاقتصادية والحضارية عمومًا، بين العرب وإسرائيل من جهة، والعرب والغرب من جهة ثانية، تنطبع بطابع التوتر الشديد الذي أسهم في إذكائه بروز التيارات القومية واليسارية والإسلامية العربية المناوئة ضمنًا لكيفيات فهم الغرب للعرب. وقد جاء كتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد، كما أسلفنا، ليوصل هذا التوتّر مرحلة الصدام المعرفي بين الشرق والغرب من جهة، ولينفخ مجددًا الرّوح في حقل الاستشراق الذي كان قد التحق منذ عقد تقريبًا بحقل العلوم الإنسانية والاجتماعية في الغرب. فانطلقت ريح الاستثمار الثقافي العربي في الاستشراق بوصفه معرفة مضادة كليًّا، لعقدين من الزمن، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول (2001) لتدفع بهذا الاستثمار إلى دائرة جديدة عنوانها (صدام الحضارات)! صحيح أن وهج الاستشراق ما بين عام 1965 وحتى عام 1978 – وهو العام الذي صدر فيه كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد – كان قد فقد كثيرًا من بريقه جرّاء تصاعد التيارات الراديكالية العربية، إلا أنَّ ما ترتب على صدور كتاب الاستشراق باللغة العربية في عام 1981، قد اشتمل أيضًا على تآكل ملحوظ في منهجيات وأدوات البحث الناظمة لأطر المعرفة العربية بالاستشراق، وهو ما يمكن رصده بسهولة بالغة لدى قيامنا بتقييم ونقد هذه الأطر المتمثلة في (موسوعة المستشرقين) لعبد الرحمن بدوي و(الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا) لميشال جحا و(طبقات المستشرقين) لعبد الحميد صالح و(معجم أسماء المستشرقين) ليحيى مراد. حيث سنلحظ تهاوي منهجية وأدوات المعرفة الموسوعية لدى عبد الرحمن بدوي أولاً، ثم اتجاه ميشال جحا إلى إنجاز ما يمكن تسميته دليلاً سياحيًا محدّثًا عن الاستشراق والمستشرقين، ثم استمراء عبد الحميد صالح – في ضوء الخطيئة التي ارتكبها عبد الرحمن بدوي وسنعمل على بسط معالمها لاحقًا – القيام باستباحة جهود عبد الرحمن بدوي وخير الدين الزركلي بوجه خاص، ثم الاتجاه إلى إعادة إنتاج جهود نجيب عقيقي تحت مسمى (معجم أسماء المستشرقين) الذي اضطلع بإعداده يحيى مراد، وبدوافع تجارية بحتة لا تخفى على أحد. الدكتور ميشال خليل جحا، المولود في بيروت عام (1930)، باحث وناقد وأكاديمي لبناني معروف. وقد وجّه جلّ جهوده لنشر أنطولوجيا الأدب العربي الحديث والمعاصر، فأصدر على هذا الصعيد: 1. أنطولوجيا سليم البستاني، في عام 1989. 2. أنطولوجيا إبراهيم اليازحي، في عام 1992. 3. أنطولوجيا فرح أنطون، في عام 1998. 4. أنطولوجيا ماري عجمي، في عام 2001. 5. أنطولوجيا أمين الريحاني، في عام 2002. 6. أنطولوجيا جوليا طعمة دمشقية، في عام 2003. 7. أنطولوجيا الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش 1999. أصدر ميشال جحا الطبعة الأولى من كتابه (الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا) عام 1982، وهو يقع في (307) صفحات من القطع الكبير. وقد صدّره بمقدمة موجزة وتمهيد طيب اشتمل على: تعريف مكثف بمعنى الاستشراق، ونبذة عن تاريخ الاستشراق، ومقاربة لأبرز الأسباب التي أدت إلى الاعتناء بالدراسات العربية والإسلامية. عقد الفصل الأول من الكتاب للدراسات في بريطانيا، وترجم لعدد من أعلام الرعيل الأول مثل وليم بادويل وسيمون أوكلي ومرجليوث. وأدار الفصل الثاني منه حول الدراسات الشرقية والعربية في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فترجم لعدد من أعلام هذه الحقبة مثل السير هاملتون جيب وبرنارد لويس. وأفرد الفصل الثالث لكراسي الدراسات العربية في أهم الجامعات البريطانية مثل جامعة أكسفورد وجامعة كامبريدج وجامعة لندن، فضلاً عن أبرز المراكز الثقافية والجمعيات التي تعنى بالدراسات العربية والمكتبات والمجلات والمنشورات ودور النشر العربية في بريطانيا. ويمّم وجهه صوب الدراسات العربية في إيطاليا، في الفصل الرابع؛ فصدّره بلمحة تاريخية ثم ترجم لأبرز المستشرقين الإيطاليين مثل ميكال أماري وجويدي وأتوري روسي. وأما الفصل الخامس فقد خصّصه للجامعات والمعاهد الإيطالية التي تعنى بتدريس اللغة العربية والحضارة الإسلامية مثل جامعة روما وجامعة نابولي وجامعة ميلانو، علاوة على كراسي الدراسات العربية ومراكز المعاهد الثقافية الإيطالية في البلدان العربية. وعرّج بالدراسات العربية في إسبانيا في الفصل الخامس، وترجم لأبرز المستشرقين الإسبان مثل إنخيل غونزاليس بلانسيا وباريخا كسانياس وكارمن رويث برادو. ولم ينس التنويه بالمختصين في الخط العربي، أو تعداد الجامعات الإسبانية التي تعنى بتدريس اللغة العربية والآداب والفكر والتاريخ العربي والإسلامي مثل جامعة مدريد وجامعة برشلونة وجامعة غرناطة، فضلاً عن سرد المجلات والمعاهد والمكتبات ومراكز المخطوطات التي تعنى بالدراسات والحضارة العربية. وقد أطال الوقوف مع الدراسات العربية في (ألمانيا الاتحادية) وترجم لأبرز مستشرقيها – وهم كثر – مثل يوليوس فلهاوزن وكارل بروكلمان ويوهان فوك، ونوّه بما أصاب ألمانيا من انتكاسات على صعيد الاستشراق بسبب الحكم النازي ثم بسبب تقسيم ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. كما استفاض بتعداد الجامعات الألمانية التي تعنى بتدريس اللغة العربية مثل جامعة أرلنجن وجامعة كولن وجامعة هايدلبرج فضلاً عن تعداد المعاهد التي تعنى باللغة العربية ودور النشر الألمانية التي تعنى بنشر كتب الاستشراق والمجلات التي تعنى بالدراسات الشرقية، ناهيك بترجمات القرآن الكريم والدراسات القرآنية في ألمانيا. وختم الدكتور ميشال جحا هذا التجوال الواسع في عالم الاستشراق والمستشرقين بتقييم عام لنظرة المشارقة إلى المستشرقين، وثـَبَت دقيق يوثق مؤتمرات المستشرقين الدولية، وإطلالة على دائرة المعارف الإسلامية. والحق أن الدكتور ميشال جحا قد أوجز وحدّث في كتابه (الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا) ما سبق لنجيب عقيقي أن اختطه في كتابه الموسوعي غير المسبوق «المستشرقون»! والكتاب (كتاب ميشال جحا) مزيج من التأريخ والتوثيق والتحليل والاستشراف في آن واحد. 1- فهو (بانوراما) متعدّدة الأطياف، حيث يمكن لمن ينشغل بتاريخ الاستشراق أن يجد ضالّته، كما يمكن لمن ينشغل بتراجم المستشرقين أن يجد ضالّته. وقد تابع الدكتور ميشال جحا في كتابه هذا مأثرة نجيب عقيقي المتمثّلة في إفراد الجامعات والمعاهد ومراكز البحث والمجلات ودور النشر بالعناية التي تستحقها بعد أن كانت ترد عرضًا في سير المستشرقين. 2- أولى الدكتور ميشال جحا المعلومات عنايته القصوى في هذا الكتاب، ولم يسمح لشهوة الإنشاء أو الاستطراد أو التحليلات المفتعلة الطويلة بأن تبعده عن غايته الرئيسة وهي: تزويد الباحث والقارئ العربي بأكبر قدر من المعلومات الموثوقة عن الاستشراق والمستشرقين. 3- نجح الدكتور ميشال جحا في إحداث قطيعة مع المنهجية الاستشراقية الكلاسيكية (الركون إلى النصوص والغرق في التفاصيل والجزئيات الصغيرة) وعمد بدلاً من ذلك إلى الاعتماد على نفسه في تحديث المعلومات بأن راسل المستشرقين والمتخصصين أنفسهم. ولم يكتف بذلك، بل تجشّم عناء السفر إلى إسبانيا وألمانيا وأجرى مقابلات شخصية مع المستشرقين ومديري معاهد الاستشراق، وحضر بنفسه اجتماعًا دوليًا للمستشرقين، ما أضفى على كتابه طابعًا عمليًا ميدانيًا. 4- استخدم الدكتور ميشال جحا لغة سهلة واضحة لا تحتمل اللبس، وتجنَّب المصطلحات الغامضة، ولم ينزلق للخوض في المسائل المتخصصة جدًا، فجاء كتابه دليلاً مناسبًا للباحثين المتخصصين والقرّاء الجادّين. وهذه سمة لو تم البناء عليها فيما نُشر بعد ذلك من كتب، لحظي الاستشراق والمستشرقون بأعداد غفيرة من القرّاء، لكن مبحث الاستشراق والمستشرقين أصيب برضة تعبيرية عنيفة بعد أن صدرت ترجمة كتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد باللغة العربية! 5- على الرغم من المساحة التاريخية والجغرافية الهائلة التي (غطّاها) الدكتور ميشال جحا، فإن كتابه ظل رشيق الحجم قابلاً للتداول، ولم يتورّم جرّاء الهوس بالحجم الموسوعي الذي يتسبب غالبًا بركن المجلّدات على رفوف المكتبات العامة وإهمالها. 6- خلا الكتاب من رصد مركزين رئيسين للاستشراق وهما: فرنسا وروسيا، لأسباب خارجة عن إرادة الدكتور ميشال جحا، إذ إنَّ السّلطات الحكومية في هذين البلدين لم تقدّما له التسهيلات المطلوبة، كما فعلت السلطات الحكومية البريطانية والإسبانية والإيطالية والألمانية. وهذا مستغرب بل ومستهجن من حكومتي بلدين يعدّان من عواصم الاستشراق في أوروبا. وأيًا كانت أسباب هذا التقصير الفادح، فإن قارئًا ما قد يتساءَل: ألم يكن في مقدوره أن يستدرك هذا النقص الخطير في كتابه بأن يستكمله (نصّيًا).. أي اعتمادًا على ما هو متاح من معاجم وتواريخ ووثائق؟ نعم كان في مقدوره أن يفعل ذلك، لولا أنه قدر أن الاستدراك بهذه الطريقة سوف يخلّ بالمنهجية التفاعلية الميدانية العملية التي اختطها لنفسه، وانعكست في رصده
لأربع ساحات رئيسة من ساحات الاستشراق! 7- يذكر للدكتور ميشال جحا ريادته في استخدام مصطلح (الدراسات العربية والإسلامية) الذي اعتمد في معظم الجامعات الأوروبية والأميركية منذ السبعينيات بدلاً من مصطلح (الاستشراق)، نظرًا لما راح المصطلح الثاني يثيره من حساسيات وسوء فهم لدى كثير من الباحثين العرب والمسلمين. وبوجه عام، فإن كتاب (الدراسات العربية والإسلامية في اوروبا) يخلو من ذلك الاستقطاب المرير الذي نشهده في معظم الكتب التي تصدّت للاستشراق والمستشرقين: تأريخًا وتحليلاً وتقييمًا؛ فهو بالغ الاعتدال، ويسعى عبر كل فصوله، لبناء علاقة إيجابية بين الغرب والشرق من جهة وبين المستشرقين والباحثين العرب من جهة ثانية، قوامها التفهم والاحترام واحتمال النقد الموضوعي، وتجاوز التجارب والذكريات المؤلمة، باتجاه أفق معرفي تشاركي، يضطلع بتشييده كل من المستشرق الغربي الجديد والباحث العربي الرصين. لأن كلّ ما تسبب به بعض المستشرقين من جروح حضارية مؤلمة لا يبرّر بحال من الأحوال، تضييع الثروات المعرفية العربية والإسلامية الواسعة التي تكفّل نفر من المستشرقين بتوليدها واستنباطها.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 23-08-2024 08:46 مساء
الزوار: 147 التعليقات: 0