التجريب ليس شيئا طارئا على القصة القصيرة فقد لاحظنا هذه الظاهرة وقد غلبت على قصص سالم النحاس في مجموعته الأولى وأنتِ يا مأدبا 1978 ولا سيما قصص الثقب، وأشجار الصنوبر، وقبلها لاحظنا على قصص جمال ابو حمدان في أحزان كثيرة وثلاثة غزلان 1970 سعيه المتكرر لكتابة قصة تختلف عما هو سائد، ومألوف، لا من حيث البناء الذي جمع فيه بين مرجعيات تاريخية، وأسطورية، ونماذج إنسانية ذات طابع رمزي، كزليخة، ويوسف، وأبي ذر الغفاري، وزرقاء اليمامة، وقيس بن الملوح، وإنما في بناء القصة اللغوي الذي يتفتح على أفاق تلقي الضوء على الجانب الوجداني، والحسي، في الأدب الإبداعي المنسجم مع روح العصر في سبعينات القرن الماضي. وقد شاع التجريب، وألفيناه في العطاء المتكرر لكتاب من مثل محمد طملية، و بدر عبد الحق، وأحمد النعيمي، ومحمد خليل، وهند أبو الشعر، وآخرين. المدينة والكابوس: ففي قصة «المدينة» لمحمد طملية يتساءل القارئ أيّ مدينة هذه التي تقع فيها القصة، فلا يجد جواباً، أي أن الكاتب يهمش المكان تهميشه للشخصية التي تؤدي في القصة وظيفة السارد. وما الحدث في القصة؟ أنه لا حدث فيها إلا إذا كان اكتشاف ما ليس حدثا هو الحدث. فعندما يُسألُ شاب ٌ عن عمره فيجيب إنه ثلاثون عاما يكذبه الآخرون، ويحاولون إقناعه بأنه عجوز وشيخ ومتفان ٍ. وشيئا فشيئا نتيجة التكرار اللامعقول لرؤية الأشخاص المسنين في المدينة يقتنع الشاب بأنه عجوزٌ، والنظرة العَجْلى في المرآة تؤكد له صحة ما يراه الآخرون. فالمدينة يتكدس فيها الهرمون في كل مكان. وهذه نزعة عجائبية تتجاوز الإيهام بالواقع، بل تتجاوز الأعراف السائدة في كتابة القصص ، فهي تريد قول ما تقوله عبر الشكل العابث الذي يقوم على تحطيم التقاليد الأدبية الجامدة. وفي قصة «الكابوس» يكتشف السارد الذي يزعجه تساقط الماء من حنفية تحتاج إلى (جلْدة) أن الناس يقفون في طوابير طويلة منتظرين الحصول على جِلَد، والأكثر من ذلك أن السارد يكتشف خلو المحلات من تلك الجلد التي تقضي على الإزعاج « رحتُ أتجول في الشوارع، صادفني أناسٌ متعبون، وأناسٌ نائمون على الأرصفة، وأناس يتفجر الدم في عروق أعينهم من شدة السهر، وأناس ذابلون، يرفعون أيديهم إلى السماء طالبين المغفرة. ورأيت لوحات صغيرة مثبّتة على أبواب الدكاكين كتب عليها لا توجد جِلَد حنفيات.. نرجو عدم الإحراج.» وعلى صعيد المحتوى تتردد في قصص طملية هذه (موضوعات) الملل والغثيان والإحباط والأرق والخوف من مستقبل مظلم غامض. فالأشخاص الذين لا نعرف من هم ولا نعرف أسماءهم هاربون من مصير غير معروف، ففي قصة بعنوان «الخوف» يستغرب السارد خلو المدينة وشوارعها من المارة، فيظن أن قرارا قد اتخذ بحظر التجوال، ثم ينفي عن نفسه هذا الخاطر. عندما يتذكر أن أيا من الإذاعات لم تعلن ذلك، وفي الأثناء يلمح رجلا يركض بأقصى ما لديه من قوة صارخا به اهرب . اهرب. ويصطدم بُعيد ذلك بامرأة فتصرخ به اهرب أيها الرجل .. اهرب سريعا.. ويلمح طفلا يعبر الشارع بسرعة فيصرخ به الطفل اهرب سريعا .. اهرب أيها الرجل . و»ومن غير أن أنتظر لحظة أخرى أطلقت ساقيّ للريح وجعلت أصرخ من أعماقي اهربوا أيها الناس .. اهربوا جميعًا.» فالسارد الذي يؤدي دور البطولة، إذا ساغ التعبير، ينساق فيما ينساق إليه الآخرون، فيسيطر عليه الخوفُ والرعب دون أن يعرف الأسباب. وفي أكثر قصص المجموعة يقفُ القارئ على ما يكسر رتابة المحاكاة في السرد القصصي. ولعل هذا ما لاحظه، ونبّه عليه سالم النحاس في تقديمه الشائق للقصص، فهو تقديمٌ يؤكد فيه أن قصة « اكتشاف» قصة ترتفع فيها حدة القلق إلى الدرجة التي تنعدم فيها الفرصة بالوصول إلى سلام وراحة. وفي قصة «دوائر التعب» صورة مشوشة ومشوهة للحياة اليومية العادية، فمن يعش ْ حياة عادية يُتهمْ بالشذوذ وغرابة الأطوار. الملعون: في قصة « الملعون « لعبد الحق نعثر على نموذج تجريبي، إذ نستطيعُ تقسيم هذه القصّة إلى ثلاثِ وحدات، الأولى هي المشهدُ بما فيه من عناصرَ مكانية، وإنسانية. والثانية هي الحدثُ الذي تدورُ حوْله ُالقصّة بما يتخلله منْ حوار محفـّز للحدث، والثالثة هي الخلاصَة، أو الخاتمة. ولا ريْبَ في أنّ القارئ يكتشفُ من العنوان إيحاءَ المؤلف بالخاتمة. فطالما أنّ القصّة عنوانها «الملعون» (1) وطالما أنّ المشاحنة هيَ الشيءُ الذي يحتلُّ بؤرة النصّ، بين السَّيد الكبير، والرجل (الزبون) الذي دلفَ لهذا المطعم الغريب، فلا بدّ أن تكونَ النهاية مُنْبئة عنْ أنّ هذا الرّجُل، أو هذا السيد، سيكونُ هو المقصودُ، والمعنيُّ بالكلمة «الملعون». أمّا النسيج السَّرْديّ الذي طفق ينمو بُعَيْد المشهد الأول، فقد أشارَ بكلّ خيط من خيوطه إشارة غير مباشرة لتلك الخلاصة، وهي إيقاعُ العقوبة الشديدة بالزبون،وتجريده من ملابسه،والقذف به عاريًا خارج المطعم،ليعانيَ البرْد،والجوع،لا لشيءٍ إلا لأنه لم يَسْتطع أنْ ينفذ الأوامرَ العبثية لصاحبِ المَطعَمْ العابث. وبالرُّجوع إلى بداية القصّة لا بدّ من توضيح ٍأكثر للعُنْصُر الغرائبيّ في المشهد (الديكور) إذا ساغ التعبير. فالوصْفُ الذي يقومُ على التقاط المناظر التفصيلية للمطعم، كالمقاعد الوثيرة، والموائد، والأثاث المنقوش المزخرَف ِبالألوان، والجُدْران المكسوّة بالستائر العملاقة، والمرايا المستوردة، واللوحات الثمينة، والأرض المفروشة بالسِّجاد السّميك، متعدّدِ الطبقات، وصفٌ نستطيعُ أنْ نجده، ونعثر عليه، في أيّ قصّة أخرى، لا غرائبية فيها، ولا مفارقة. بيْدَ أنّ تركيزه في هذا المشهد على الخدم الذين يشبهون التماثيل المنحوتة من الحجارة.. شيءٌ فيه بعضُ الغرائبية،إذ ْهُوَ نوْعٌ من توجيه الانتباه لتجريد هؤلاء الشخوص من الحياة،والرّوح. وبتركيزه على الرجل الضخم، الذي يجلس خلف المكتب، على كرسيٍّ مرتفع، مصدرًا أوامره بإشاراتٍ من عينيه، أو من أصابعه، دون أنْ يتكلـّمَ، يعزِّزُ هذا الانطباع َ،ويؤكده. وهو تركيزٌ يُضْفي على صورة هذا الرّجل غرائبيّة أخرى تنبع من الدور الوظيفي الذي أسنده له الكاتبُ. فهو صاحبُ المطعَمِ، ومديرُهُ، والآمر الناهي فيه: «منْ يأكلْ في مَطْعَمي عليهِ أنْ ينفذ َتعليماتي». هذا السيد إذاً لا يخلو من (نمْذجة) غرائبية، فهو لا يتكلم، ضخْمُ الجثة، حديديٌّ، يقذف بالرجل الزبون بأصبعيه الاثنين، لا يحتاج ُلاستعمال يده الكاملة، ثم يمْسحهما بمطهّرٍ كأنّما يتخلص بذلك من دَنَسٍ. ينتقلُ بنا الكاتب بُعيد المشهد إلى الحدث في الوحدة الثانية من القصة، رابطاً هذه الوحدة بما سبق عن طريق النادل الذي جاء الزبون بأطباق الطعام،وبدأ يرتبها على المائدة،دافعًا إليه بورقة تتضمَّنُ التعليمات التي يجبُ اتباعها في تناول الطعام. ويحتدمُ الحوار بين الزبون والنادل،وينتقل اهتمامُ الكاتبِ من المشهد إلى الحوار،ويحتلّ الرجلان المتحاوران بؤرة الحدث.. كلٌّ منهما يُحاولُ أنْ يمارسَ حقه الطبيعيَّ،النادلُ في تنفيذه الأوامر،والثاني في أنْ يملأ معدته بالطعام مقابل الثمن الذي سيقومُ بدفعِه. ويصلُ بهما الحوارُ إلى طريق مسدود، ويجدُ الرّجُلُ الجائعُ الحلَّ في أنْ يقبلَ بنهَمٍ على الطعام،وتفتيتِ الأرْغفة التي أمامه ضاربًا عرْض الحائط بتحذير عاملِ المطعم،وتهديده له بما يُمْكن أنْ يقومَ به سيّدُه. تخيّرُ التعليمات المدونة في الورقة الزبون ففيها خياران،هما: أن يأكل حتى يشبعَ، وألا يقوم بتفتيت الخبز في الوقت ذاته. وذلك شيءٌ بدا للزبون عبثياً غيْر قابل للتطبيق،مما يضطرّهُ لمخالفة التعليمات،فيقبلُ على الطعام بنهَمٍ،وعندما يبصره الخدمُ تدب فيهم الروح،وينتفضون، ويهجمون عليه هجْمة رجُلٍ واحدٍ فيجرّونه بطريقةٍ مهينة، ويُعرّونه من ملابسه،ويقدّمونه لسيدهم صاحب المطعم الغريب. وهنا تبدأ الوَحْدة الثالثة في القصّة،والرابط بينها وبيْن ما سَبَقَ هو التهديدَ الذي سبق التحذيرُ منه،وأصمَّ الرجلُ أذنيْهِ عنْه،فقد بدأ تنفيذهُ. قد يهتمّ القارئ بالحوار الطويل الذي استغرقَ نحو ثلثيْ القصة،فهو الذي يفجّر الخلافَ بين النادل والزبون،فيرتقي بالصراع إلى ذرْوة تؤدّي إلى تلكَ الخاتمة ِالتي مَهّدَتْ لها،وأوْحتْ بها كلمة «الملعون» في العنوان. ففي آخر القصّة يُجرَّدُ الرجل من ثيابه، ويتصدى له عاملان عملاقان،وأما صاحب المطعم فيقذفُ به عاريًا في الشارع. وهذه النهاية كانَ النادل قدْ سَبَقَ أنْ تكلم عليها في وَسَط ِالقصّة، مما يُؤدّي إلى نسْج ِعلاقاتٍ متشابكةٍ بيْن الحوار، والخاتمةِ، والعِنوان. و كلّ نافذة ُتكسر يجري استبدالها بسرعة. وإذاً، لا يستطيع هو ، وَحْدَهُ، أنْ يُلحق الهزيمة بذلك الرجل الضخم،الذي يتربَّعُ على كرسيّ مرتفع،يمارس سلطته الآمرة.وهو يرجو بما يقذفه من حجارة ،وما يكسِرُهُ من نوافذ َ،وأبواب «أنْ يصيب يوماً رأسَ السيّد الكبير إصابة قاتلة» كأنه بهذه الثورة – الانتفاضة- يرجو تصْفية خصْمه ِالذي يظنُّ نفسه قوّة لا ُتقهر. يستطيعُ القارئ بيسر أن يفسر هذه القصة تفسيرًا رمزيًا، فيقول: المطعم يرمز لواقع موضوعيٍّ معروف، يسوده الطغيانُ، والتحكم الغاشم،الذي يفتقر لأيّ مُسَوّغ منطقيّ أوْ عقلانيّ. والإدارة التي تتبع وسائلَ الترهيب لضمان تنفيذ التعليمات، والأوامر، والنواهي العبثية، ملغية بذلك ما لدى الخدم،والموظفين من عقولٍ يفكرون بها، ويفرّقون بين المستحيل والممكن. ويستطيع القارئ أنْ يقول إنَّ ما يقوم به الزبون بعد طردهِ منَ المَطْعَم،وقذفه في الشارع،عاريًا من ملابسه،يمثل الثورة التي تلجأ إليها الشرائحُ المَسْحوقة حين يتراكمُ الطغيان والظلم تراكمًا كمّياً يُفضي إلى تغيّر نوْعي. ويستطيع قارئ آخرُ تفسيرَ هذه القصّةِ تفسيراً مختلفاً،ممّا يؤكد غنى هذه القصة،ومقدارَ ما فيها من الترميز،الذي يستفزّ قدرة القارئ، وطاقته المستنفرةِ في الشرْح، والتأويل. مقال: وفي أقصوصة (مقال) لأحمد النعيمي تتمثل لنا المفارقة الساخرة من خلال التضادّ الظاهري. فالصحفي الذي أمضى بضع ساعات في كتابة مقاله، وزخرفته بأنواع البديع، يختمه بعبارة «وهكـــذا أيها الإخـوة القـــراء تـرونَ أنَّ التدخين عادة ٌسيئة يجبُ تركها، وأعتقد أننا قادرون على ذلك ما دمنا نملك الإرادة.» ثم يكتشفُ- هذا الصَّحفي- أنه دخّن خلال كتابته للمقال علبة سجائر كاملة. والتناقضُ هنا واضح، فالكاتبُ الصحفيُّ يدعو لتجنب التدخين فيما هو يدخن بشراهة، داعيا للاتصاف بقوة الإرادة، فيما إرادته وعزيمته خائرتان. فقد طفق يتأفف حين اكتشف أنَّ علبة سجائره خاوية، وأنّ عليه أن
يُبادر لشراء علبة أخرى. وهذه القصة مكثفة جداً. وعددُ كلماتها لا يزيد على ستين كلمة، ومع ذلك نجد في المفارقة التي ُتضفي التهكم، والسخرية، على الموقف، ما يغني عن الكثير من التفصيلات، سواء تلك التي تهتم عادة بإبراز الحدث، أو تلك التي تهتم بإبراز الشخوص. سالومي: ومن النماذج التي تتحقق فيها شعرية الصورة قصة سالومي، وهي قصة تلجأ فيها الكاتبة لتوظيف الأسطورة مثلما يقال في نقد الشعر. فبعد أن تروي لنا الساردة حكاية الليلة التي رقصت فيها سالومي أمام الملك هيرودوت الذي عرض عليها مكافأة أن يلبي لها ما تطلب حتى ولو كان رأس يوحنا المعمدان، نجدها تطلبُ، فيما يشبه المفارقة التي تكسر توقع القارئ، رأس الأم الحبيبة «مولاي. أريد رأس أمي الحبيبة في طبق فضّي». وبعد أن يلبي طلب سالومي الغرائبي نجد الساردة تروي: «لا أحد يعرف ما الذي حدث في الباحة المترفة المضاءة بضوء قمر صيفي حنون. ويقال بأن يوحنا المعمدان توقف عند باب السجن .. ركع وصلى للرب صلاة لم يسمع الكون أعمق منها ولا أحلى. وأن حمامة ناصعة البياض جاءته من صوب القمر يغمرها الضياء الفضي الساكن ، وطارت بشفافية فوق رأسه. وارتفعت إلى السماء البعيدة، ويقال إن سالومي اختفت، وأن الموسيقى توقفتْ، وأن طبقاً فضياً تنزّ منه الدماء، صرخ قائلا: أعيدوا طريق الربّ.. وهيئوا سبيله. وزهرة برية نارية اللون نبتت مكان خطى سالومي. وهي – أي الزهرة – تتمايل بحركات جميلة كلما أضاءَ القمرُ في ليل صيفي حنون». التابوت: وفي قصة «التابوت» لمحمد خليل يتعرف القارئ على نموذج واحد قرر الأطباء أنه مات، وانتقل بموته من الدنيا الفانية إلى دار البقاء الآخرة، وبدلا من أن يقوم ذووه بدفنه على أساس أن إكرام الميت دفنه، يضعونه في تابوت خشبي محكم الغطاء، تاركين، لارتيابهم في قرار الطبيب، ثقبا خفيا فيه كي يواصل التنفس. أما الأسباب التي حُددت للوفاة فهي بيت القصيد في هذه القصة، فالأقوال التي رويت في تحديدها كثيرة. بيد أن الراوي (الشاب) يميل لواحدة من هاتيك الروايات، وهي التي تقول بموته بسبب كثرة البكاء، «وذلك بعد أن دار على الأماكن كلها في المدينة مرارا، فلم يجد فيها ما يزيل القتامة، والهموم، التي تغلف قلبه، وقرأ على وجوه الناس كافة الذهول الذي لا يستطيع فهمه، ولا تفكيك طلاسمه، وأنه كلما نظر في عيني أحدهم أبصر فيهما الحال التي يراها. و لهذا وضع رأسه على فخذ أمه، وبكى، وظل يبكي إلى أن بلل ملابسها، ثم سكت فجأة». والعجائبي في هذه القصة يتجلى في كون النموذج الإنساني هنا لا تنسحب عليه قوانين الاحتمال، والضرورة، التي تنسحبُ على الواقع. فالميت لا ينبغي له، ولا يمكنه في حدود القدرة البشرية أن يعود إلى الحياة ثانية، بالطريقة التي عاد فيها نزيل التابوت. كذلك لا ينبغي له، ولا يستطيع استئناف الموت بعد عودته للحياة، إلا بالانتحار، وهو ها هنا كالمستيقظ الذي قرر أن ينام، علاوة على أنّ التعجيب يتجلى هنا من خلال وصف الراوي للمدينة والناس، فالمدينة شوارع تغادر في السابعة مساء، والوجوه عليها مسحة واحدة من ذهول غامض وكأنها قوالب متكررة، لا يختلف الواحد منها عن الأخر. ومثلُ هذا التعجيب لا يحتاج من قارئ القصة طويل تدبر ليستكشف ما يتغياه الكاتب، فهو يريد أن يقول فيها مثلما هي الحال في غيرها من القصص، إن ما نراه، ونسمع به، في هذا الواقع المشوه، هوَ هوَ، لم يتغير، منذ عشرين، بل منذ ثلاثين عامًا، وأن موت الإنسان أقل قسوة من هذا الذي يسمع به ويراه يوميا وبلا انقطاع. ولهذا يفضل نزيل التابوت عتمة الصندوق الخشبي، وضيق القبر، إذا صح التعبير، على مدينة مهجورة الشوارع، يَغرق أناسها بالذهول الغامض، الذي يستعصي على الفهم، وبإحباط يغلف العقل، والقلب. على أنَّ منْ يطل النظر في القصة يجدها - من حيث هي بنية فنية- بنيةً يتعمد فيها الكاتبُ، خلافا للقصص الواقعية التقليدية، إقصاء توقعات القارئ، عن طريق الزج به في كوابيس ومنعرجات تشبه الأقبية المظلمة التي تتمخض عن مفاجآت غير منظورة. فالميت الذي يوضع في التابوت يستثير شفقة أخيه فيظن أنهم بتثبيتهم الغطاء يؤذونه، ويعاملونه معاملة تخلو من الذوق. وعندما يعترضُ، يتوقع القارئ أنْ يفسر الأمر تفسيرا مقبولا، فإذا به يفاجأ بأن ذوي الفقيد، غير مقتنعين بوفاته، وأنهم يشكون بتقرير الطبيب. وعندما يلتفت الراوي بنا لشقيق المتوفى الآخر الذي قرر القدوم من المهجر لحضور جنازة شقيقه، فإن أول سؤال يساوره هو التحقيق في سبب الوفاة. وهنا يتوقع القارئ – مثلما هي الحال في الموقف السابق- أن يُذكر سببٌ عاديٌ للوفاة. غير أن الجواب عن تساؤلات الشقيق العائد يفاجئ القارئ، فالسبب الذي ُذكر لا يؤدي في الواقع للوفاة. لقد توفي لأنه بكى طويلا، وبمرارة، حزنا على هذا الواقع الذي لا يسر صديقا، ولا عدوا. فقد ظل يبكي إلى أن توقف قلبه، وخبت حرارة الحياة فيه. وعلى مدار السنوات العشرين تظل الأم تجلس إلى جواره، تقرأ على روحه سورًا، وتنسج قصصا وحكايات عن ابنها الذي فارق الحياة. وحتى المشهد الذي يتحرك فيه التابوت من جموده، مفاجأة غير متوقعة لدى القارئ. فهو مثل كابوس يساور النائم من غير استئذان. فقد عمدت الأمّ، كعادتها، لمسح التابوت بقطعة مبللة من الثياب (خرقة) لتكتشف أن التابوت تدب فيه الحركة، فتهرع إلى الجيران، والرعبُ يعقد لسانها من الصدمة، وفي إطار هذا الكابوس ينفضُ الميت عن كفنه تراب القبر، وينهض مثل ميت ينشق عنه قبره فجأة. وهذه السلسلة من المواقف، في قصة قصيرة كهذه، لا ريب في أنها تضع القارئ في أجواء لا علاقة لها مباشرة بالواقع، فكأنها تريد أن تقول إنَّ موت البطل، وتكراره في القصة، إنما هو ضربٌ من الاحتجاج اللافت الصامت على ما يسمع به، ويراه يوميا في مدينته، وفي قطره، من غير أن تنبئ الأحداث عن تغيير ما يلوح في نهاية النفق، لذا كان الموت بالنسبة له وسيلته الوحيدة للنجاة من هذا الواقع المشَوّه، ويا لها من نجاة! مما سبق يتضح لنا أن كتاب هذه القصص عدلوا عن الطرائق التقليدية في كتابة القصة، وانتهجوا طرقا جديدة أبرز ما يميزها عدم الإيهام بالواقع، والترميز، واللجوء إلى المفارقة، وهي التعبير عن وجهة النظر بما يبدو مناقضا لوجهة نظر الكاتب.