|
عرار:
إبراهيم خليل النواب شاعر معروف، وعلم من أعلام الأدب، توفاه الله في 20 أيار 2022 وقد حظيت أشعاره بالكثير من التقريظ، والثناء الأدبي، بُعيد وفاته. على الرغم من أن ذوي البصر بالشعر لا يحملون شعره على محمل الجدّ. وقد لامني أحدهم لأنني لم أكتب عنه حين توفاه الله كعادتي في التذكير بمكانة الكثير من الأدباء العرب حين يختارهم الله فيمن يختاره. فأجبته قائلا: إنني لا أستأنس بقراءة شعره، ولا أستسيغه، ولا أميل للاستماع إليه في الراديو، أو في بعض المواقع التي تبث تسجيلاتٍ بصوته لبعض شعره. ومما أدهشني، وأثار استغرابي، أنني وجدت رأيه فيه كرأيي، فقال: « الغوغاء» هم دون غيرهم منْ يجعلون منه شاعرًا كبيرًا. وأضاف: إنه هو الآخر لا يعدُّه شاعرًا. وفي هذا المقال (النواب خطيبا كان أم شاعرا) نتناول بعض ما في نتاجه من «إسفاف» لا يسيء إلى الشعر فحسب، بل يسيء إلى الأدب بالمعنى الأخلاقي، والجمالي، فضلا عن اللغوي، والبلاغي، والأسلوبي، والفني. ففي قطعته (أيها القبطان) نقف على هذا الكَلِم: أسْقنيها وافضحي فيّ الظلاما بلغت نشوتها الخمرةُ في خديْكِ نثر الورد في كأس الندامى وروت مبسم ورد ٍ نزَع التاجَ وألقاهُ بأرواح السكارى(ص11) هذا الكلِمُ هو مطلع قطعة بعنوان «أيها القبطان» مثلما ذكرنا. ودون أن ينظر القارئ في سائر القطعة يلاحظ من هذا الاستهلال أن صاحبها المرحوم مظفر النواب لا خبرة لديه، لا بالكتابة شعرًا، ولا نثرًا. فهو يورد عبارات وأنصاف عبارات لا تؤدي لمعنى، أو لما يشبه المعنى. فما هي علاقة ذكر الخمر في الخدين بالورد الذي نثره مَنْ لم يُذكر مَنْ هو، في كأس، لا في كؤوس، الندامى. فهو من الناحية اللغوية الصرفة لا يقيم الجملة المفيدة بأركانها الأساسية، فيذكر فعلا بلا فاعل، ولا يطابق بين الجمع والجمع فيعزو المفرد (كأس) للجمع ندامى، إذ لا يتخيل القارئ عددًا من الندامى، أو السكارى، يحتسون خمرا بكأس واحدة، لا بكؤوس عدَّة. وقد أنّث الفعل في وروَتْ دون مسوغ لهذا التأنيث. ولا يتّضح إن كان يعني بهذا الفعل الرواية، من روى الحكاية، أم الارتواء (من السَقْيِ، أو والريّ) لأن السياق، إن كان ثمة سياق، لا يساعد على معرفة أيّ المعنيين هو المراد. ويكدّس الناظم الألفاظ بعضها إلى جانب بعض، دون أن تصل بينها علاقة ما، فما علاقة مبسم الورد بنزع التاج، وما صلة ذلك كله بأرواح السكارى، ثم التاج المذكور - ها هنا- تاجُ من؟ هذا هو أحد أنماط الإسْفاف الذي لم يلاحظه الكتّاب الذين أشادوا بالراحل شاعرًا، ومناضلا صُلبًا، وقوميًا نظيفًا، تعرَّض للاعتقال، والحبس، غير مرة، دون أن يتنبّهوا إلى أن هذه المواقف الثورية ليست كافية لتجعل من المناضل الشريف، أوالقوي النظيف، أيا كان، مُطربا، أو موسيقيا كبيرا، كمحمد عبد الوهاب، أو رياض السنباطي، أو ممثلا عالميًا بارعا كعُمَر الشريف، ولا شاعرًا كبيرًا كأبي الطيب المتنبي، أو السياب. وفي شيء آخر بعنوان «اعترافتان(؟) في الليل والإقدام على ثالثة « في هذا العنوان (اعترافتان) خطأ أو ما يشبه الخطأ، فالاعتراف في العربية مذكر، ويجمع اعترافات، والمثنى في مثل هذه الألفاظ لا يؤنث، فنقول اعترافان واعترافات، مثلما يقال مجلدان ومجلدات.. وهذا يؤكد أنَّ ضلوعه في العربية أقل من أن يكون سويا عاديا. ويزيد الطين بِلَّة إصرارهُ على تأنيث الاعتراف باستعماله العدد (ثالثة) فهو لا يقيم وزنا لا لنحو العربية، ولا لصرفها، ولا للأعراف السائدة فيها، تنظيرًا واستعمالا، فكأنه أعجميٌ، والعربيّة لغة ثانية، أو ثالثة، لديه. ويشتطّ النوّاب في الابتذال، والإسفاف، مستخدمًا ألفاظا سوقية، متناسيًا أن الشعر فنٌ ينبغي له أن يترفع عن محاكاة الأراذل من الناس فيما يتّبعونه من مساخر أحيانا عن السّاسة، وعن أولي الأمر، ومع أننا لا نختلف معه في رأيه بهم، إلا أننا نُنْكر عليه مثل هذه الألفاظ في «وَتريّات ليلية»: أبولُ على الشرطة الحاكمين إنه زمن البول فوق المناضد والبرلماناتِ والوزراء أبول عليهم بدون حياء فقد حاربونا بدون حياء (ص64) وبصَرْف النظر عن الموقف الذي تعبّر عنه هذه الكلمات، فهي لا تستحقُّ أنْ تظهر، أو تتكرّر في الشعر، ولا في غيره، لأن الشعرَ فنٌ، وليس كأيّ كلام يقال في المهاترات، وفي المسامرات، التي تسمح للأصدقاء بتبادل الشتائم، والألفاظ الممعنة في البذاءة. فهذا في الجلسات الخاصَّة قد يكون مقبولا، ولا يخدُش الإحساس المرهف، ولا ينبو عنه الذوقُ، الرفيعُ أو والوضيع. بَيْد أنَّ النوّاب فيما يبدو، ويظهر، لا علاقة له بالشعر قطعًا، وقد تكون له علاقته المتينة بشيءٍ آخر، فلْيُسمِّهِ محبوهُ من الناس ما شاءوا، ولكنْ عليهم ألا يسمّوه شعرًا. ففي سياق مشابه يأتي النوّاب بألفاظٍ أخرى لا يحسُنُ بشاعرٍ أنْ يستعملها، وإن اضْطرّ: وطني البدوي نساؤك منهوبة ويباهي رجالك نصرًا بأعضائهم فرحين فما زالتِ العاصمة تبّ قومٌ زعاماتهم أرنبٌ عصبيٌ جبان وعزمُهُم خِصْية نائمة اسكتوا فالحكوماتُ في اسْتها نائمة (ص49) ففي هذا المقطع(؟) من الشيءِ الموسوم بعنوان «الأساطيل» جمَع النوّابُ بين ما لا يحسُن استعماله من الألفاظ، وبين الركاكة اللغوية، والاضطراب النحويّ، فهو يصفُ الجمع بمفرد « زعاماتهم أرنبٌ « إذ لو قال: زعامتهم أرانبُ لصحّ هذا مثلما قال المتنبي (أرانبٌ غير أنّهمو) فالجمعُ يوصف بالجمع، والمفرد بالمفرد، وهذا شيء يعرفه الجاهل بالعربية، والعالم بها، والنِحْرير. ولا نرى في استخدامه للخِصْية، والاسْت، في هذا المقام، إلا حرصًا منه على استثارة ضحك الجمهور الذي يجد في هذه الكلمات ما يدعو للقهقهة، والسخرية من الشاعر، وممّن يرميهم بهذه النعوت. فكأننا بالمرحوم النواب يحسب الشعر، وإلقاءَهُ، نوعا من التهريج أو (التهييص) أو (التهجيص) على رأي العامية المصرية. واللافت للنظر أنّ هذه البذاءاتُ لا تغيبُ عن أعمال النواب، فلا يخلو منها (نصٌ) إذا جاز التعبير، ففي «وترياتٌ ليليّة» المذكورة آنفًا (ص57) يصبُّ جامَّ غضبه على زعماء الخليج، ولا ينبغي أن يفهم أننا نلومه على هذا الموقف، ولكنه يدنو بالشعر من اللغة السوقيّة التي يتشاتمُ بها الأشقياء الزعران، واللصوص، وباعة المسروقات في أسواق المستعملات: هاتوا المتكرش خلوا جمهور البحرين واللهِ أنا الشيخ ابن الشيخ حفيد الشيخ كفى يا ابن الوسخة لنْ نرحم منكم أحدا قرَدَة سلطاتُ القردة أحزابُ القردة أجهزةُ القردة (ص109) وفي موْضعٍ آخر بعنوان «قراءة في دفتر المطر» وهو عنوان لا يخلو من بريق، يكرِّرُ النوّابُ ألفاظا تخدش الأسماع، وتسيء إلى الإيقاع، وما هو معروف عن الإبداع. كلفظة (القحبة) والعياذ بالله،»والمومَس»ولفظة «الخنزير» التي يطلقها على بعض القادة، و»حظيرة خنزير» التي يفضّلها على قصور الزعماء الذين جبنوا عن الدفاع عن الوطن العربي من الماء إلى الماء. و يقول معتدًّا ببذاءة ألفاظه، وسوقية شعره، غير خَجِلٍ، ولا حَييّ: أعترفُ الآن أمام الصحراء بأني مبتذلٌ، وبذيءٌ، وحزين كهزيمتكم يا شرفاءً مهزومين ويا حكاما مهزومين ويا جمهورًا مهزومًا ما أوسخنا! ما أوْسخنا! ونكابر. (ص125) فمثلُ هذا النظم لا علاقة له بالشعر، فهو جَلدٌ للذّات لا يعدو أن يكون سُبابا وُضع في قوالب تستثير ضحك الحضور في الإلقاء، وسخرية السامعين. وقد يتندَّرون عليه، وبه، أيامًا، ويتفاكهون، فإذا زايلتهم لحظة الانبهار بالجرأة الساخرة، أدركوا ما في هذا القول من الغثّ غير السمين، والركيك غير الرصين، واستبعدوه مما يُقرأ، وَيُتذوق، ولكنهم قد يتذكرونه، من وقتٍ لآخر، على سبيل التنكيت، والمزاح، وَتَرْداد الطرائف. ويتردّى النوّاب في هوة النثر إذ تصبح الجمل، إذا خلت من الاضْطراب النحوي، جملا كأنها مقتبسة من مقالاتٍ صحفية أين منها الشعر: هذا سلطانٌ وطنيٌ جدا لا تربطة رابطة ببريطانيا العظمى وخلافا لأبيه وُلد المذكور من المهدِ دمقراطيا ولذاكَ تسامحَ في لبس النَعْل ووَضْع النظارات فاعترفتْ بمآثرة جامعة الدول العربية(ص127) فمثل هذا النسق لا شعر فيه، وهو أقربُ إلى النثر الصحفيّ- مع تقديرنا لما يكتبه الصحفيون- الذي يروي فيه المراسلُ المعْتَمد في الجريدة خبرًا، أما الوزن الذي اتفق له فيه أحد قوالب الخبَبِ(من المتدارك) واستوت تفعيلاته بين فَعْلنْ، وفاعِلُ، فلا يُضفي على هذا الكلام قدْر قلامة الظفر من الشعر. فالوزن وحده، وإن استقامَ، شيءٌ، والموزون، وهو نَسْجُ الكَلِم، شيءٌ آخر، إذا لم يكونا معًا شعريَّيْن. وهذا أحد مواطن الإسفاف في قوالب النوّاب، شاء الذين أشادوا به، أم أبَوْا. واللغوُ في أعمال النوّاب « الكاملة «- والكمال لله!- كثيرٌ جدًا، فهذهِ واحدةٌ من القطع اختار لها عنوانا باهرا، هو «عبدالله الإرهابي « وبعد الكثير من المقاطع التي تتكرر في أولها ياءُ النداء ليحثَّ هذا المسمى عبد الله على كذا وكذا، يبلغ بنا ما هو متكرر لديه، وهو شتم الأعراب بلا مُسوّغ، مع أن البناء الأدبي، والفني، للقطعة شبه الخطابية، لا تحتاجُ لمثل هذا الشتم: يا عبد الله حزنوا هزءًا وتمنوا أنهمو كانوا بمخيمك الدامي يشتركونَ بفضِّ امرأةٍ عربٌ عربٌ عربٌ جدًا أولادُ الكلب(ص175) فهذا من اللفظ السوقيّ الذي لو أضيف لأروع الشعر، لجعله سخيفا، مبتذلا، لا تجدُرُ بالعقلاء قراءته، فضلا عن كتابته، وروايته. ومع هذا نقرأ بين الفينة والفينة من يشيد بهذا اللغو، ويُفرغ عليه التقاريظ إفراغ القِطر على زُبَرِ الحديد (سورة الكهف: 96). وهذا النظم يخاطب الغوغاءَ من الناس- عذرًا لاستخدام هذه الكلمة- وهم الذين لا دراية لهم، لا بالشعر، ولا بالأدب، ولكنهم حين يسمعون مثل هذا اللغو يصفّقون بحرارةٍ، بل بجنون: ما قصّرتُم أبدًا نشكر همة أعضائكم الجنسية في صدّ هجوم الجيش الإسرائيلي وإلقاء الصمت على المغتصبات نشكركم يا فَضَلات. (ص200) تضافُ إلى هذا كله، ولغيره، مما لم نذكره طلبا للإيجاز، وإيثارًا للاختصار، تواترُ الاسترسال في هذه القطع المطبوعة على هيئة الشعر. فهي مطولاتٌ، والطول فيها لا مسوغ له، ولا ضرورة. فأولى القطع تشغل الصفحات من 11- 26 والثانية (اعترافتان) تملأ الصفحات من 27- 41 ووتريات ليلية تملأ الصفحات من ص 57- 149 وهكذا دواليك علما بأن الكتاب من القطع الكبير( 17× 24). وإذا تأمل القارئ، متخصّصًا كان أمْ قارئا عاديًا قلما يهتم بالشعر، هذه الخزعبلات، يجد في كل قطعة من القطع التي يمتلئ بها جامع الأعمال الشعرية فكرة سياسية واحدة يستهل النوّاب بها القطعة، ولا أقول القصيدة، لأنها ليستْ كذلك. ثم يسترسل في عباراتٍ، ومقاطع - إذا جاز التعبير- تكرّر ما ابتدأ به بألفاظ شتى، وتراكيب تَتْرى من غير زيادةٍ تسوّغ هذا التراكم، أو التكرار، بكلمة أدقّ. لهذا يظنّ القارئ، كلما قلب الورقة، أنه سيجد نهاية القطعة، لكنه بدلا من ذلك يجد تواصلا مكرورًا، وتشدُّقا مغرورا، ولا يجد في نهاية الصفحات ما يشبه الخاتمة للقطعة، فالقِطَعُ، والمطولات، لا تتضمن بنية فنية شعرية مكتملة ذاتَ محتوى يستطيع القارئ، أو الدارس، أن يشير إليه، أو يحدِّده لو قيل له ما موضوع هذه القصيدة؟ أو ما الذي يريد قوله فيها؟ وما الغرض الذي حرَّك فيه الرغبة في القول؟ وكيف انتهى إلى هذا الغرض؟ إلا من شيء واحد يجوز أن يشير إليه، ويفصح عنه، وهو الشتائم. صفوة القول هي أن لدى مظفر النواب أنماطا من الإسْفاف على مستوى اللغة، وعلى مستوى الأسلوب، وعلى مستوى البناء، وخُلقية الفن الشعري، تحولُ بين ما يتراكم من أقوال في القطعة الواحدة وبين أن تكون نصا متماسكا لا لغوا، أو نثارا من العبارات المفتقرة لأدنى حَدٍّ من الترابط، والانسجام، والاتساق. _________ *الشواهد من الأعمال الكاملة، ط1، القاهرة، دار أشرقت للنشر، 2015 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 16-02-2024 07:16 مساء
الزوار: 216 التعليقات: 0
|