|
عرار:
إن قراءة الكتب الأدبية كالشعر والرواية والتاريخ وكل الكتب العلمية أيضاً للحصول على متعة القراءة ومتعة المعرفة لا تتأتى إلا باحتضان الكتاب، وهو حال يشبه احتضان الوليد فيما نسميه بالرضاعة المعرفية.. لم نكن نتوقع هذا الإقبال الكبير على معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي بلغ عدد زواره في الأسبوع الأول ما يقرب من نصف مليون زائر، ولم تكن تلك هي الدهشة الأولى عن تقاطر الجماهير إلى معارض الكتب العربية والمحلية والعالمية، فقد كنت أتعجب وأنا بمعرض الرياض الدولي للكتاب -في العام السابق- من هذا التوافد الذي يشبه السوق الكبير، وكنت أتساءل: هل هذه الجموع الغفيرة من الزوار يأتون لشراء الكتب، أم أنهم يأتون حباً في الاحتفاليات الجماهيرية؟ وحقيقة الأمر أنه كان اعتقادي الثاني هو المُرجَّح، لكن النتيجة تأتي مخالفة لظنوننا وتوقعاتنا، ذلك لأننا نشاهد حملة الكتب وهم خارجون بإقبال يفوق كل التوقعات! وفي هذا السياق يقول الدكتور مصطفى الفقي -وهو الرجل المخضرم في عالم الكتاب، وكان رئيساً لمكتبة الإسكندرية- في حوار له على إحدى القنوات العربية: "إن زوار المعرض في هذا العام لم يأتوا للاحتفال والتنزه، بل أتوا لشراء الكتب، وكان هذا الموسم يفوق كل التوقعات ليس لشراء الكتب فحسب، وإنما لحضور الندوات أيضاً والاستماع بشغف لكل محاضر، كما ذكر أن ندوة المفكرين الذين فقدناهم، مثل: الدكتور صلاح فضل والدكتور محمد عناني وغيرهما من العراق ومن الوطن العربي، جعلت الشارع المقابل للندوة مزدحماً بالسامعين لها عبر مكبرات الصوت. ومن اللافت للنظر أن الإقبال على الندوات أو حتى على شراء الكتب من فئة الشباب من الجنسين. وهذه ظاهرة طيبة خيَّبت كل ظنوننا القديمة، التي كنا فيها نعتقد عزوف الشباب أو حتى الكبار عن القراءة، والسعي للحصول على المعرفة، وكنا نعتقد أن وسائل التواصل قد أشغلت الناس عن القراءة. وهذا أمر مبشر، يجعلنا أنفسنا نتأمل في حال القراءة اليوم بعد أن كدنا نعزف نحن الكُتاب عن الكتابة، ظناً منا أنه لا يوجد قارئ! وإذا ما نظرنا إلى المقارنة بين حب القراء وشغفهم بالكتاب كما اتضح لنا من هذا الإقبال على شراء الكتب، وبين عدم الإقبال على دور النشر لاقتناء الكتاب، واستبدال المكتبات الإلكترونية للحصول عليها عند الحاجة الملحة للحصول على الكتاب، وهي مقارنة صعبة يجب تحليلها، في حقيقة الأمر إن الحصول على الكتاب المراد اقتناؤه ليس بالأمر اليسير، ولذلك فالمعارض تفسح مجالاً كبيراً للعرض وللاختيار أيضاً، وهذا السبب الأول. ثانياً: إنه اتضح لنا أن الاندماج في الكتاب الورقي واحتضانه والاختلاء به متعة تفوق متعة المطالعة الإلكترونية، والجدير بالذكر أن المكتبة الإلكترونية لا غناء عنها، لكن هذا جيد للباحثين والدارسين والبحث عن مقومات في المجال البحثي، إنما قراءة الكتب الأدبية كالشعر والرواية والتاريخ وكل الكتب العلمية أيضاً للحصول على متعة القراءة ومتعة المعرفة لا تتأتى إلا باحتضان الكتاب، وهو حال يشبه احتضان الوليد فيما نسميه بالرضاعة المعرفية. وهو أمر يعود إلى حقيقة علمية في التلقي وهي "مسألة الاندماج"، فالتلقي عبر شاشة زجاجية تحول دون عملية الاندماج والدخول في غياهب وعوالم التخيُّل، فإثارة الخيال والتخيل هي ما تُحدث المتعة عن طريق السرد، وهو أمر مهم في البحث بين التلقي الإلكتروني والتلقي الورقي. وكنا قد كتبنا مقالاً عن ظاهرة العروض المسرحية على الشاشات، وهو أمر قاتل للعرض المسرحي الذي يمتلك خاصية (هنا والآن) والتي تفتقدها الحالة حينما يُعرَض على القنوات والمنصات وهي حيوية الفعل الآنية، وكذلك حيوية الفعل الآنية حينما نقرأ كتاباً بلا حاجز نفسي مثل: شاشة العرض سواء أكان تلفزيونياً أم إلكترونياً، فالاندماج في الحدث لحظة القراءة هو ما يحقق المتعة؛ وهذا بخلاف القراءة للحصول على معلومة دراسية أو بحثية، لأننا حينها نبحث عن لقطة معرفية تدعم ما نحتاجه فقط. الأمر الثالث: هو غلاء الكتب في دور النشر والتخفيضات التي تحدث في معارض الكتاب. وهنا تظهر المشكلة الرئيسة، وهي غلاء الكتب في دور النشر الخاصة، إذ إننا لاحظنا الإقبال على شراء الكتب ذات التخفيضات في ضوء الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم كله وليس نحن فقط، فكانت عوامل التخفيضات عنصراً جاذباً للقراء. ومن اللافت للنظر هو ما يلجأ إليه الناشرون في أن يدفع المؤلف تكلفة الكتاب على حسابه الخاص، فيضطر آسفاً على الموافقة، إذْ إنه لا سبيل لظهور مؤلَّفه إلا إذا تحمل التكاليف. وفي الحقيقة إنه أمر مؤسف للغاية، لأن دور النشر تريد أن تنشر دون المجازفة نظراً لغلاء الورق وارتفاع التكاليف بحسب وجهة نظرهم، والذي يدعو للأسف أن الكتاب الذي يُنْشر بهذه الطريقة لا يكون محَكَّماً على الإطلاق، إنما بحسب (رغبة الزبون) وهذا ما خلق لدينا تراكماً كبيراً في منشورات غير مُحَكَّمة ولا تستحق الزمن المبذول في تصفحها، هذه المشكلة تسوقنا إلى الإقبال على شراء الكتب التراثية والقديمة المُعاد طبعها، وهذا يرجع إلى ثقة القارئ في الكتاب نفسه، الذي سوف يقتنيه. ومن كل ما سبق انتفت لدينا مقولة: "أمة اقرأ لا تقرأ"، إذ اتضح زيفها وظهرت الحقيقة بأن الكتاب الجيد يطرح نفسه شريطة التوازن في سعره، وبناء عليه تتجلى لنا المعضلة والتي يتم معالجتها بوجوب دعم مؤسسات دور النشر المتخصصة والرسمية لكي تُنتج للقارئ كتاباً جيداً محكماً ومنخفض التكاليف، والأمر الثاني هو إيجاد مساحات لعروض الكتاب طيلة العام تتوافر فيها كل معروضات دور النشر لأن شبابنا وكبارنا لا يزالون يقرؤون. جريدة الرياض الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-02-2023 07:56 مساء
الزوار: 352 التعليقات: 0
|