|
عرار:
ديما الدقس قبل عقدين من الزمان.. لم يكن الحصول على المعلومة أمراً هيناً.. فكان «طالب العلم» يبذل مجهوداً بدنياً وتركيزاً عالياً، ما يؤكد حرصه لتحصيل المعلومة، فبداية من المسافة التي يقطعها والبحث عن الكتاب المقصود ثم تلخيص المعلومات ونسخها وإعادة ترتيبها مرة أخرى.. فالتعب في الوصول للكتاب.. أبرز أهميته وقيمته في عيون الطلاب، وللكتاب؛ زمان.. احترام خاص فكانوا يحتضنونه بأيديهم لإيمانهم بأنه من سيخرجهم من ظلمات الجهل.. وما أن بدأ الوصول للمعلومة يسيراً في عملية لا تستغرق ثواني معدودة.. أجيالٌ كثيرة تاهت وضاعت في بروزة «غير المهم» وتسليط الضوء عليه، والبحث عن السهل والأسهل وعدم الرغبة بالبحث والتعلم.. كل هذه مؤشرات واضحة لضحالة المخزون الثقافي لهذا الجيل الذي يبني من هوامش الأشياء مستقبله الهزيل.. وكلمة المثقف لحاجتنا لوجوده بيننا بات مدعيها يتعالى على البسطاء بفلسفات محيرة وغريبة وغير مبررة أو منطقية !!! فغالبية مثقفي هذا العصر لا يعلمون بأن فحوى الثقافة في تبسيط المعقد، وليس في تعقيد البسيط.. وربما باتت مصدر رزق بالتبضع بالكلام.. «وكسنبلة القمح.. كلما زاد ما فيها انحنت وتواضعت» هذه هي الصورة الحقيقية لمن في رأسه شيء من العلم... من هو المثقف؟ وبعد ستة عقود خاضها المخضرم أبو سعيد معترك الحياة معاصراً لأجيال وحكومات وثقافات مختلفة، اتخذ حيزاً بعربته المتنقلة أمام إحدى المدارس ليبيع ما يعلق في عيون الأطفال من إكسسوارات وألوان ودفاتر، وبوجهة نظره يقول :»المثقّف هو المزعج بطبعه، والمقلق لسماسرة الدين، هو الذي يسحب وسادة الطمأنينة ليضع بدلاً منها منبه القلق الفعال والسؤال المستفز وعلامة الاستفهام المحرضة !!».. ويؤمن أبا سعيد بأن المثقف الحقيقي هو الذي يجعل من أحلام المواطنين واقعا ميدانياً، لا ذلك الذي يتعالى عليهم من خلال الشاشات الفضائية، بنظريات الاقتصاد المعاصر، ومواثيق حقوق الإنسان، وأصول الحكمة الراشدة.. ! ويضيف :» المثقف هو من نرى فيه الشاب العاطل عن العمل والفلاح والموظف وهو الذي يحمل متاعب المرأة في ضميره، والباحث الجامعي والشيخ الأُمي والحارس البسيط والمدير العام، فهو المرآة التي تنعكس عليها تطلعاتهم وآمالهم وأشواقهم في التغيير والبناء ..! فالمثقف الحقيقي هو ذلك المواطن الذي يعيش الحاضر والماضي والمستقبل، دون فصام أو خصومة مع الذات أو الآخر»... مدير ثقافة عجلون «سامر فريحات» قال إن المخزون الثقافي يتجسد في تراكمات التجربة المفعمة بالوعي والمؤطرة بمسؤولية طرق العيش وأسلوب التفكير... وأضاف :»المثقف كائن متحرك بطاقة الضوء وفق كينونة البقاء للأصلح والأجدر، والأكثر رؤيا للمشهد القريب إذا ضاق والمشهد البعيد اذا اتسع». وبوجهة نظرها تجد العشرينية «مها سليمان» أن المثقف الحقيقي هو من يعرف مفاتيح الأشياء فيتعامل مع الإنسان ومع الكتاب ومع الآلة واللوحة والحرف والآخر !! وتتسائل «سليمان» هل هناك اليوم من يهمه البحث في تلك الأمور أم أن أغلبنا يعيش هوامش الأحداث والأشياء وبالتالي يعيش على هامش الثقافة.. وأضافت « ما يحدث يؤكد بأن مجتمعاتنا ما زالت تفتقر إلى أبجديات الثقافة لتلحق بركب الأمم المثقفة.. مرد ذلك يعود الجزء الأكبر منه إلى غياب دور المثَقَف والمثقِف الذي يقع عليه عبء التثقيف..» طالبة اللغة العربية في الجامعة الأردنية حلا الخوالدة تقول :»الكثير من الأسئلة التي بدلاً من أن نجد جواباً لها تزيد من تشتيت أذهاننا فكيف ولماذا تحوّل المثقف الشرقي العربي في الآونة الأخيرة إلى مُخادعٍ يلجأ إلى حججٍ هو نفسه لا يؤمن بها؟ وبالتالي تضاؤل فرصه في إحداث أيّ تغيير.» وأضافت :» وبدلاً من غرس الفكر الإيجابي نبني أجيالاً تؤمن بثقافة الوهم، ولا تعي ولا تدرك الأشياء على حقيقتها فهل وصلنا لمرحلة تساوت فيها قدرات الإنسان بالروبوت ؟! لماذا أتعب للحصول على المعرفة ولماذا يتم احتكارها.. وبدلاً من التثقيف هناك سعي وغاية للتجهيل».. وترفض «الخوالدة» اعتبار أن أي حامل شهادة مثقف، فعلى حد تعبيرها المخزون الثقافي لا يأتي حينما نقرر أن نكون مثقفين فهو حصيلة عمر كامل قال تعالى «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».. مغالطات أ.عبير موسى تتسائل:» ماقيمة المثقف الذي يتعالى على الثقافة الشعبية بأدبها وموسيقاها وتقاليدها ومكوناتها الأساسية والصغيرة، يسخر منها ويحتقرها ويصف كل من يهتم بها بالتخلف والجهل والغباء ؟».. في حين يقول الأستاذ علي رأفت :»الثقافة الشعبية جزءٌ صغير محدود من ثقافة كل شعب، والاهتمامُ بها يجب أن لا يتعدّى الاهتمام بذلك الجزء المحدود..» وأضاف :» في عصرنا البائس طغى الاهتمام بالشعبيّ والفلوكلور المحلّي على الاهتمام بثقافة الأمة العظيمة، أدباً ولغة وفناً، بطريقة ميّعوا بها تلك الثقافة، وفرّقوا بها بين الشعوب الواحدة».. تمييع ثقافي إسراف وهدر وفراغ حقيقي مستاءة منه جداً السيدة زينة رؤوف، فالحب غير المبرر لدى كثر لتحصيل ألقاب بلا محتوى أو مضمون يحدث فوضى، تقول:» كثر في هذه الأيام مسميات أدباء وشعراء ونقاد فبات أي إنسان هنا يحمل صفة ( شاعر أو ناقد أو قاص أو كاتب ،......) وسواء أكان جاهلا أم مثقفا فالمهم أن ينشر ترهاته في هذا الفضاء الأزرق (الفيسبوك) أو استنساخ روايات ومؤلفات سطحية تفتقد هويتها، ما أفقد الكتاب اليوم القيمة التي عهدناها من مؤلفين لن تنساهم الذاكرة، مثل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وعباس العقاد وجبران خليل جبران والكاتبة نازك الملائكة ورضوى عاشور وبدر شاكر السياب ومن سبقهم من أجيال أتقنت اللغة وأحبتها وكتبت لاستخراج الثمين منها وكانوا أبعد ما يكونون عن الاستعراض أو البحث عن شهرة أو مال.. أما اليوم فلا ضابط ولا مقياس لما ينشر والهدف سراب».. حالة انعزال المثقفين وعطاء الثقافيين. ويختلف المثقف عن الثقافي، فقد ينعزل المثقف في داخله ويعيش بين كتبه وأفكاره وأبحاثه محتكرا علمه لذاته فقط.. بينما الثقافي ينتشر الى خارج ذاته كوردة تنشر العطر ليعبق الكون بالشذا... !! فلا يكفي أن تكون قارئ أو حامل شهادات لتكون مثقف؟ وأنت في قرارة نفسك تعلم أن قدراتك لا تخوّلك لتدير بيتاً أو مصنعاً، أو أن تناقش فكرة، أو حتى أن تشارك في حديث؟؟ وأخيراً.. لم يعد العوز للقراءة لمجرد ملئ أوقات الفراغ، فمن يعيش هوامش الأحداث والأشياء سيعيش رغماً عنه على هامش الثقافة، فالقراءة حاجة إنسانيّة ملّحة لم تكن يوماً هواية.. ومن يبتغي زيادة المخزون المعرفي لن يضع القراءة على رف أوقات فراغه المصدر: جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-05-2022 09:23 مساء
الزوار: 349 التعليقات: 0
|