إبراهيم خليل حلت قبل بضعة أيام الذكرى الثامنة والأربعون لرحيل الشاعر الكاتب تيسير سبول، وهي مناسبة تجدد الأسئلة الخاصة بهذا المبدع الذي فقدناه شابا في الرابعة والثلاثين(1939- 1973) فما الذي دفع به لينهي حياته بنفسه؟ وما هي القيمة الأدبية لشعره في إطار الشعر العربي، وما القيمة الفنية لروايته أنت منذ اليوم في الإطار العام للرواية العربية؟ فبالنسبة للسؤال عن دوافع انتحاره تجدر الإشارة لما تعرض له من صدمات نتيجة خيبة الأمل التي أدت لانهيار أحلامه الكبيرة، فعندما ترك الجامعة الأمريكية ببيروت، وغادر إلى دمشق كانت آماله الكبيرة بظهور دولة عربية موحدة وقوية تستطيع هزيمة الاستعمار الغربي واقتلاع الكيان الصهيوني من فلسطين العزيزة هي الدافع، وكانت دمشق قد دخلت في وحدة مع القاهرة في ما أصبح معروفا باسم الجمهورية العربية المتحدة، فقد ظن لأول وهلة أن الأمل بالوحدة العربية قاب قوسين أو أدنى، فدفعه حسه القومي لاختيار البعث حزبا ينتظم فيه، إلا أن الانفصال الذي حدث في أيلول 1961 بانقلاب عسكرى مزق الوحدة، وأحبط الآمال الكبيرة، وتكشفت الشعارات القومية الرنانة عما كانت تخفيه من زيف. ولهذا عاد إلى عمان خاوي الوفاض، ليعاني معاناة شديدة في البحث عن عمل، وليبتعد عن الحزب الذي فقد إيمانه بشعاراته، وإيديولجيته، وفي ذروة هذا الأسى اندلعت حرب 1967 لتجيئه بصدمة أخرى موجعة، وليكتشف أن أمته العربية، التي كان يتطلع لنهوضها، وانبعاثها، مثلما ينبعث طائر الفينيق من رماده، لا تعدو كونها حشيّة قشّ يتدرب عليها هواة الملاكمة منذ هولاكو حتى الجنرال الأخير. و ما فتئ أنْ تلقى صدمة أخرى، وهي حرب تشرين1973 التي تبيّن أنها لم تكن حربا بالمعنى الذي يُراد لها أن تكون، بل كانت مكيدة، لا هدف لها، ولا غاية، سوى استئناف التفاوض.
يضاف إلى هذا كله القلق الوجودي الذي يمرَ به، والحزن، والشعور بالاغتراب عن محيطه الاجتماعي، فهو، إن صحّ الزعم بأنَّ (عربي) في روايته أنت منذ اليوم هو تيسير نفسه، أو فيه قدر غير قليل من شخصيته، فإنّ تيسيرًا- المؤلف- في هذه الحال لم يكن على وئام مع من يحيطون به، لا مع الأب، ولا مع الإخوة، ولا حتى مع الأصْدقاء، ولا مع المجتمع. وشاعرٌ رقيق الحاشية، مرهفُ الإحساس، يتعرض لجل هذا التراكم الخبيث من الفجائع، وفقدان الأمل، على المستوى العام، فضلا عن الخاصّ، كيف يستطيع أن يحيا، وكيف لا يفكر بالانتحار؟ وقد تساءَل بعضُهم: كيف جاء انتحاره المفاجئ ليصدم أحباءَهُ تلك الصدمة، وشعرُهُ الذي قرؤوه، وروايته أنت منذ اليوم، ألا يتضمَّنان ما يوحي بنُذُر مبكرة لهذه النهاية التي وقعت على مسامعهم وقوع الصواعق؟ هذا ما حاول بعض الدارسين التنقيب عنه في شعره، ونثره، وراحوا يلتقطون ما فيه من تعبيرات عن الموت، وعن ضيقه، وتبرمه بالحياة، وتذمّره، مما يشعر به من ألم بسبَبِ الأوضاع العامّة، أو الذاتية، وهي إشاراتٌ اتخذ منها الدارسون لشعره دليلا على رغبته المبكــّرة بالانتحار، لكن التمحيصَ ينفي ذلك، لأنّ الشعراء من عاداتهم أن يربطوا بين الحياة والموت في أشْعارهم، ومع ذلك لا ينتحرُ منهم إلا القليلُ النادرُ، من أمثال عبد الباسط الصوفي، وأحمد العاصي، و فخري أبو السعود، وإسماعيل أدهم، وخليل حاوي. ففدوى طوقان - مثلا - تكثر في أشعارها المبكــّرة من ذِكــْر الموت، فتخاطبه قائلة: آهِ يا .. موتُ ترى هل أنتَ قاسٍ أمْ حنون أبشوشٌ أنتَ أم جهمٌ وفيٌ أمْ خؤون.. والشابي يقول في قصيدة له: قد سئمنا الحياةَ يا قلبيَ الذا (م) وي، فهيا نجرّبُ الموتَ هيّا ومع ذلك لا فدوى، ولا الشابي، انتحرا، ولا السيّاب الذي أعياهُ انتظارُ الموت، وأضناه. وقد عُثر على قصيدة هي الأخيرة في شعر تيسير، يؤكــّد فيها أنه يغادر هذه الحياة معترفا، بل مؤكدًا، أنه عاش غريبًا، ويموت غريبًا: أنا يا صديقي أسيرُ مع الوهم، أدري أيمّمُ شطْر النهاية نبيًا غريب الملامح، أمضي إلى غير غاية. سأسْقطُ يملأ جوْفي الظلامُ نبيًا قتيلا ، وما فاهَ بعْدُ بآية وفيها يؤكــّد أنّ طريقه تختلف عن طرُق الآخرين. أما روايته، فقد عني بدراستها كثيرون. وأشار غير قليل منهم لما بين عربي بطل الرواية، والمؤلف من تشابه، حتى قيل- في غير مواربة - أن روايته سيرة ذاتية بقناع روائي. تؤكــّد ذلك قرائنُ تتوافرُ فيه ؛ كالعودة من دمشق، والانتساب لحزب البعث، ثم الابتعاد عنه، وإشاراته المتكرّرة للأب، والأخ العسكري، والعائلة، والمدينة التي سمّاها هجير، وهي الزرقاء، وإشاراته للأم، هي الأخرى، فيها ما ينم عن أنّ عربي ليس بعيدًا عن المؤلف، فهما وجهان لشخصٍ واحد. وقد حاول عربي المصْدوم مما جرى في حرب عام 1967 والمحبَط من فساد القيادات السياسية التي ترفع شعارات زائفة لا رصيد لها في الواقع، أنْ ينتحر بسبب اليأس الذي يشعر به، والخيبة المرة التي تعتريه، وتهزه هزًا عنيفًا، وبعد أن أفرغ علبة الأسبرين في الكأس، وأذابها ليتجرَّعها، سمع المؤذن يقول الله أكبر .. فتراجع في وَمْضة لنقُلْ: إنها ومضة إيمانية جاءَتْه على حين غرة، فتذكــّر أنّ الانتحار جريمةٌ في حقِّ الذات، فعدل عن ذلك، لكنه بكل تأكيد ظلّ يتعذَّب، فقد وردتْ في الرواية كوابيس تُؤكد أنه، مع عدوله عن الانتحار، ظلَّ على يقين من أنه ميّت لا حيٌ. فالجثمان الذي ذكره في ص115 وما بعدها علق عليه قائلا: « إنه أنا.. بعد الموت* «. ولا تفتأ الأسئلة تتجدَّدُ عن القيمة الأدبية لفنه الشعري، والروائي، وهل يصدُقُ عليهِ ما يصدُق على المتحوّلين الذين هجروا الشعْر للرواية، أو أولئك الذين خلطوا فنَّ الرواية بفن السيرة، دون أن يفرقوا بين النوعين الأدبيين؟ *** الواقع أنّ « أحزانه الصحراوية « لا تخلو مما يضع الشاعر على قدم المساواة مع كبار الشعراء في ستينات القرن الماضي؛ فاللغة يتوافر فيها المجاز، وتكثرُ الاستعارة، فهو في بعض شعره يشخّص إحساسُه بالاغتراب من خلال المواكب، والدُروب، يقول: يُدْركني المساء إذ تخرج الأحزان في مواكبٍ .. مواكب ٍ نحليلةً شاحبة ً هشيمة المناكب تحاصر الدروب وتعرف الغريب لتستقي من عينه بقيّة الرواء. والقصيدةُ لديه بنية تحتلّ فيها الوَقْفة المقطعيَّة، والسلسلة الوزنية، والقافية، والرويّ، وتكرار الصوائت، والتلوين اللفظي، المجازيُّ منه، والاسْتعاري، والرمزيّ منه، والمباشر، منزلةً لا تقلّ علوًا عن منزلة الألوان في الرسم، والرُخام في النحْت، والأنغام في الموسيقى(1). وفي شعره تتناسَلُ الصُور، وتتراكمُ، وتتوافر الرموز وتتواتَـرُ. ففي قصيدة « ما لمْ يُقلْ عن شهرزاد « يكتشفُ القارئ أن الشاعر سبول جعل من شهريار رمزًا دالا على الطاغية العربيّ في عصرنا، ومن شهرزاد رمزًا يدلّ على هذه الأمّة التي ابتليتْ منذ آمادٍ بعيدة بالطغاة: شهرزادي خدعة ضللت الآذان عمرا ورست في خاطر التاريخ دهرا إن عفا من بعد ألف شهريار فسنبقى في بلادي دعوةً تحيا على وعد انتصار كلما دقَّ على الأفق شتاء نتسلى بحكاياكِ الشجيَّة ونغني لانتصار لم يكنْ يومًا ، ولا يُرجى انتصار تحت عينيْ شهريار ومثلما أثارَ شِعرُه الاهتمامَ بما فيه من أصالة، ومن تجديد، أثارتْ روايته الوحيدةُ اهتمامًا أكبر، وحظيت بدراساتٍ أكثر، وأوْفر. ففي مقدمة من تناولوها إلياس خوري (1974) في كتابه البحث عن أفق، وشكري الماضي في انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية (1978) وعصام محفوظ في الرواية العربية الشاهدة (2000) وممن كتب عنها نقدًا إبراهيم السعافين، وسليمان الأزرعي، وفايز محمود، وخالد الكركي، ونزيه أبو نضال، وغالب هلسا،وعبدالله رضوان، وأحمد المصْلح، ومنى محيلان، وعوني الفاعوري، ومحمد العطيّات، ومحمد سمحان، وسامح الرواشدة.. وعبدالله إبراهيم، وآخرون.. لا مِرْية في أنهم كثيرون. وتعدَّدت الآراء في هذه الرواية تعددًا كبيرًا، واختلفتْ اختلافًا شديدًا، فمن قائل:ٍ إنها سيرة ذاتية، لا رواية، إلى قائل: إنها قصّة، كالتي تسمى لدى الغربيينnovelette ومنهم من يعدها رواية حداثيَّة، وأنها أول رواية عربية تلجأ إلى توظيف تيار الوعي توظيفا سبق إليه غسان كنفاني في « ما تبقى لكم 1966». وزاد على هذا خليل الشيخ، فوصف بطل الرواية (عربي) بالنموذج اللامنتمي الذي طغى، وهيمن، على البطل في الأدب الأوروبي. ونوَّه عبد الله إبراهيم (1999) لما في الرواية من سرْدٍ مزدوج، إذ يروي الوقائع بضمير المتكلم تارةً، وبضمير الغائب تارةً أخرى، أيْ أنه يُراوح بين ساردٍ مشارك وسارد عليم. والنوع الأول يغلبُ على ما له صلة بعالم البطل الداخلي، والثاني يغلبُ على ما لا صلة له بعالمه الداخلي. والذي لا ريب فيه، ولا شك، أن « أنت منذ اليوم « يصدق عليها وصفُ أحمد مجدوبة، فهي في نظرهِ من روايات ما بعد الحداثة. التي تتَّصف بالزمن المتشظي،
المتكسّر، الذي لا ينحو فيه السارد المنحى الخطي التسلْسُلي، وتتصف بالحبكة المفككة، واختلاط الراوي المشارك بالراوي العليم الموضوعي. وضمير المتكلم بضمير الغائب. إلى جانب كثرة الفَجَوات التي تتَطلب من القارئ القيام بملء الفراغات ليبلغ تفاعله بما يقرأ الدرجة القصوى. علاوة على ما سبَق، يغلبُ على رواية ما بعد الحداثة ما يسميه علماء السرديات المراوحة في الزمن إلى جانب اتباعه طريقة جديدة في تقديم الشخوص بحيث يكتفي بذكر أنصافَ النعوت تاركًا للقارئ أن يتوصَّل للتكملة بنفسه. وهذه الأساسيّات، التي تقوم عليها رواية ما بعد الحداثة، تقوم عليها رواية سبول المذكورة أيضًا. فالتداعيات الحرةُ تملأ فضاءَ النصّ، وتحقّق للكثير من هذه التقنيات السردية حضورها المتألق، الذي بدوره يجعل من تصنيفها في رواية ما بعد الحداثة تصنيفا معقولا، ومقبولا. أما عن إشكالية التحوُّل من الشعر للرواية فإن تيسيرًا نجح في التخلص من الشاعر الذي كان. ومَنْ يقرأ الرواية يلاحظ أن السرد والحوار والوصف- أي مادة الرواية - لا حضورَ فيها للشعر من حيث هو لغة داخل اللغة. فالبساطة، والألفة، التي تكاد تختلط فيها لغة الكتابة بلغة الحديث اليومي، أظهرُ، وأبينُ، من أنْ تخفى. ومهما يكُنِ الأمر، فإنّ تيسيرًا شاعرٌ في الأساس، لا ناثر، إلا أنه عند كتابته هذه الرواية تخلى عن الشاعر، وصاغ وقائعها باللغة التي تصلحُ لكتابة الرواية، لا تلك التي تصلح لكتابة القصيدة. إذ الملحوظ أن الذين تحولوا من الشعر لكتابة الرواية ظلوا يحافظون على صلاتهم باللغة الشعرية، مما أفسد الرواية التي يكتبون. وشاع ذلك شيوعًا ملحوظا، وطغى التخبُّط على الرواية، فالقارئ لا يستطيع التفريق بين الشعر فيها والسرد، وبدأنا نقرأ تعبيرًا جديدًا عن هذا الهذْر، وهو الرواية- القصيدة. وهذا يتنافى مع المبدأ الذي رسَّخه رواد هذا الفن منذ زمن غير قصير. فالرواية لا تكتَبُ إلا باللغة التي يتكلم بها الناس في حياتهم اليومية، أيْ تلك التي يُطلق عليها تعبير common speech أيْ اللغة التي يتكلم بها القارئ العادي بتعبير فرجينيا وولف Woolf. بيد أن الرواية بصفة عامة تعاني- على مستوى الجوهر - من اختلاطها بالسيرة الذاتية، فمنْ كان على درايةٍ بحياة المؤلف، وأخباره، لا يستطيع إلا أنْ يتخيّل (عربي) فيها صورة أخرى من تيسير الذي كان. وإذا تذكــَّرنا أنَّ هذه الرواية كتبت، أو نشرت، في العام 1968، قبل أنْ تبلغ الرواية الأردنية سنَّ الرشد، اتضح لنا كم كانت خسارتنا كبيرة برحيله في 14 تشرين الثاني من العام 1973. ويُذكر أن الشاعر الروائي ولد في الطفيلة 1939 وعاش ردحًا من عمره في الزرقاء ثم في عمان. ودرس في كلية الحسين حتى عام 1957 والتحق بالجامعة الأميركية ببيروت، غير أنه غادرها إلى دمشق، وكانت تجربته بدمشق غنية، ومفيدة، إذ انخرط في حزب البعث، وصُدم عندما أطاح الانقلابُ العسكريُّ السوريُّ بالوحدة مع مصر في سبتمبر- أيلول 1961. تزوج عام 1963 من الدكتورة مي اليتيم، وتنقل في وظائف متعددة. منها موظف في دائرة ضريبة الدخل، وموظف في مكتبة الجامعة الأردنية، وغادر إلى المنامة ليعمل هناك في إحدى المصالح، بيد أنه لم يُطلْ المقام في البحرين، فغادرها للعمل في أحد المصارف بجدة. وفي عام 1965 عمل في إذاعة عمّان بعقد سنوي، ثم صنِّف عام 1969 وذاع صيتُه بسبب البرنامج الذي دأب على إعداده، وتقديمه بصوته، وهو برنامج « من أدبنا الجديد «. وفي العام 1966 صدرت مجموعته الشعرية الوحيدة « أحزان صحراوية « في بيروت. وفي 1968 صدرت روايته الوحيدة ببيروت، وهي الرواية الفائزة بجائزة النهار تلك السنة. _____________________ * الإحالة لجامع الأعمال الكاملة من جمع الأزرعي وتقديمه، بيروت، دار ابن رشد، 1981 1.للمزيد عن شعره انظر: إبراهيم خليل، موسيقى الألفاظ ودلالاتها في شعر تيسير سبول، مجلة دراسات، عمادة البحث العلمي، مج30، ع 3 ، تشرين الأول (أكتوبر)2003 ص ص 523- 547
المصدر : جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 19-11-2021 08:25 مساء
الزوار: 507 التعليقات: 0