|
عرار:
د. شفيقة وعيل/ الجزائر يقول لسان الدين الخطيب في التفريق بين الشعر والسحر: «فمن الواجب أن يُسَمّى الصّنفُ الذي يخلب النّفوسَ ويستفزّها ويُثني الأعطافَ ويهزُّها باسم السِّحر الذي ظهرتْ عليه آثار طِباعه وتبيَّن أنّه نوعٌ من أنواعه... وما قصُر عن هذه الغاية القاصية والمزيّة المتصعّبة على المدارك المتعاصية سُمّي شعرًا.»فالسّحر، إذَنْ، ليس المباني والمعاني بقدر ما هو القوّة المؤثّرة التي يبثّها نوعٌ مخصوص من الشّعر.ولكن ما الذي يجعل الشعر سحرًا؟! قد يستعصي السؤال عن التنظير، لكنّ الأستاذ الشاعر اليمنيّ الشابّ جبر بعداني يقدّم لنا في تجربته الغنيّة والواسعة عناصر هذه المعادلة الكيميائيّة التي أجمل فيها لسان الدين الخطيب. في دواوينه السابقة: «كأنّه الشعر»، «قيامتان ونصف»، «الحاوي»، «يُـوَشْوِشُه وَدَع القصيدة»، يبني الشاعر تصوُّرًا ابتكاريًّا لفكرة الشعريّة عن طريق تقديم نماذج الاشتغال على الصورة وعلى التركيب. تتجلّى إبداعات البناء في بصمة خاصّة في التركيب تقوم على التقديم والتأخير والاستدراكات والاعتراضات بطرق تبدو مغامِرة جدًّا لكن بلغة مطواعة للمعنى غير مستلَبة الحضور ولا قاصرة عنه، وهذا التمكّن في تطويع اللغة يعكس رغبةً وقدرةً لدى البعدانيّ في أن يخرج عن القوالب اللغويّة الشعريّة الجاهزة التي هيمنتْ على الذاكرة الجمعيّة والتي قد تكون فخًّا جماليًّا يوقع في التكرار والاجترار ولو بغير قصد.وتتجلّى بصمة التجديد على مستوى الرؤية الشعريّة في ابتكار مخيال غير مسبوق يجترح الصور غير المعتادة أو يعيد صبغ المعتاد منها بعنصرٍمفاجئ وجريء فنّيًّا. كما يراجع البعدانيّ ويحاجج الرؤى التقليديّة بطريقة واعية فكريًّا ومبتكَرة فنّيًّا تنمّ عن فلسفته الخاصّة تجاه التراث الذي يرتبط به بثقة ولكن يواجهه بمحاورة أقلّ ما يُقال عنها: معترفة بالجمال، وعارفة بالعمق، وجريئة في الطرح. وإذا كانت الدواوين السابقة للبعدانيّ نسجًا فنّيًّا أنيقًا، فهي لم تخلُ من التنظير للجماليّة الشعريّة أيضًا. لكنّ ديوانه الجديد «والعاديات شعرًا...» الصادر عن دار يافا بعمّان، قد بلغ غاية العمق في «عرفنة» المعنى و»فلسفته»، حيث انتقل من التجديد في إنتاج الشعر إلى التجديد في التنظير للشعريّة، ولذلك يحفر عميقًا وبجرأة قلّ ما نصادفها في المشاريع الشعريّة المعاصرة في فلسفة الشعريّة بواسطة الشعر. وإذا أردنا بعض الإنصاف، سنقول إنّ القصائد التسع والعشرين هي فصول نقديّة لهذه الرؤية، تتراوح بين الطول والقصَر لكن لم يَخلُ أيٌّ منها من التكثيف الفلسفيّ للشعريّة سواءٌ على مستوى الإطار النظريّ العامّ أو على مستوى التفصيلات الفنّيّة. وبدءًا من الإهداء الذي يقدّمه البعدانيّ لشاعر لم يأتِ بعد، يطرح فكرةَ»الشاعرِ المؤجَّل»بوصفه رديفًا للمعنى المؤجّل (في معناه الدّريديّ). ومستعرِضًا الجوهر الأعلى في ذات الشاعر والمترفّع عن المطروق والخائض لمعتركات الظنون وأعماق الكلام يجعل البعداني من المخاتلة فلسفةً لصناعة التأجيل الذي ترتهن به الشعريّة. وفي تأكيد فلسفته هذه، ينظّر في قصيدة»مقام التَّوق»لسيرةٍ للمعنى في نصٍّ يكاد يكون بيانَ تحريرٍ من الإطار إلى اللّا-إطار، خروجًا من النصيّة والهامشيّة نحو معاريج «شعِثة». وهذا الشعث هو أصلٌ أنطولوجيّ في المعنى، تتجلّى أصليّته في انفلاته من القبض والتحنيط وفي المخاتلة والثورة على التعليب حتّى يتحرّر في لحظة غير مرتقبَة وعلى غير خطّة. فمتعة الممارسة الوجوديّة للمعنى لا تتحقّق إلّا في المطاردة بعيدًا عن كمائن التعليب والقولبة، وفي ذلك يقول البعداني: إنَّ الطَّــرِيـدَةَ أَشْـهـى دُونَ مِــصْـيَــدَةٍ وفي الكَــمَـائِـنِ ضاعَـتْ مُــتْــعَـةُ القَــنْـصِ ولأنّ الميتا-شعر عند البعداني هي قضيّة جدّيّة، لم يكن ليمرَّعلى ثيمات فلسفيّة كبرى دون أن ينظّر بها للشعريّة، فالأمومة والشاعرة والقصيدة كلّها هويّات متداخلة تجعل اللحظة الشعريّة لحظة تحرّر من القولبة. فالأمّ لغة أثرى من القاموس وفيها تصطنع الشعريّة لنفسها دهشة التجاوُز: وَأُمِّي مِنَ القــامُــوسِ أَثْـرَى، تُـصِيـــبُـــنِــي مَـرَارَةُ أَنَّ الشِّـعْـرَ يَـــفْـــقِـدُ مَـلْـمَـحَــهْ والشاعرة (برمزيّة لميعة عبّاس) أكبر من الوَعْيِ! كما اخترق البعدانيّ التأطير المعهود للمشاعر، فلم يجعلها مقصودةً للشعر بل جعل الشعر مقصودًا لها، ليكسر بذلك قالبًا شديد الصلابة والنمطيّة كالحزن ويحوّله إلى صورة حيويّة للشعريّة بقدر ما تنظّر للموت والفقْد بمفاهيم جديده تحمل وهج تفاعل هذه المفاهيم في كيمياء حيّة جدًّا ومتجدّدةيسترجع اشتعالاتها في انفتاحٍ على العود الأبديّ للوجع.فوالده «يونس» الذي ابتلعه حوت الموت، بينما حوت الشعر يعجز أن يبتلع «يونُسَ» الذكرى، وبين الحوتَين واليونسَين يفلسف البعدانيُّ الموتَ في فكرة الشعر الذي لا يقول، والذّكرى في فكرة الخلود الذي يتحقّق بالصمت، فيقول: يا (يُــونُــسَ) الآباءِ حُوتٌ واحِدٌ أَوْحى له الرّحْــمـنُ حَــتَّـى يَــبْــلَــعَــك في حينِ حُوتُ الشِّــعْــرِ أَعْــلَــنَ عَــجْــزَهُ مُـذْ مَــطْــلَـعِ الأَبْــياتِ لَـحْــظَــةَ صَـرَّعَـكْ ولكي يُحيط البعدانيّ بتنظيره للشعريّة، لا يقدّم نفسه شاعرًا أو فيلسوفًاأو ناقدًا فحسب بل ويأتي مؤرّخًا لفلسفة النقد أيضًا، فتبدو الحمولة النقديّة والتراثيّة والشعريّة واللغويّة التي يخوض بها غمار المراجعات النقديّة كبيرة وواسعة وملتهبة بالسؤال، لدرجة ابتكار تاريخ جديد للشعريّة عبر مساءلة النتاج الشعريّ التراثيّ والحديث. فمن جهة، يستدعي نقديًّافي قصيدته الفارهة «كيمياء الخفيف» مسارَ الشعريّة التراثيّة العربيّة بما هي منتَج جماعيّ تراكميّ من الحارِثِ بـنِ حِــلِّــزَة إلى عبْد الرزّاق عبْد الواحِد، فيفكّكها ويقف على إرهاصاتها بوصفها رؤيةً للوجود في جوهر الإنسان العربيّ عبْر مطارحات جدليّة وتساؤلاتٍ عميقة وأحيانًا عتابيّة. ومن جهة أخرى، يستدعي نقديًّا تجربةًمعاصرةً رائدةً في فلسفة الشعر وهي تجربة محمّد الثبيتيّ، ويقدّم فيها سيرة مفهوميّة لنتاج الشاعر من خلال استعراضٍ ذكيّ لعناوين قصائده وتحويلها من مجرّد عناوين إلى بُنى فكريّة لرؤيته الشعريّة. وهنا يتقاطع الميتا-نقد (أو الحديث عن النقد بالنقد) والميتا-شعر (أو الحديث عن الشعر بالشعر) ليؤسّس للتنظير للنقد شعرًا. وفي خلاصة مفاجئة كالعادة، ولأنّ المعنى جوهر مخاتل والشعريّة مؤجَّلة، يختم البعدانيّ بالإعلان عن فكرةٍ للشعريّة قريبةِ الصدور. ففي قصيدته «قَـريـبًا_سَــيَـصْدُرُ» يستخدم الرمزَ المعتمَد في وسائل التواصل، ويصدّر للفعل بسين الاستقبال إعلانًا عن تنظيره لسيرته الشعريّته الخاصّة بما هي معركةٌ أخذ منها عزاز المعاني غلابًا، وبما هي حالةٌ فرَضَ فيها فلسفته ورؤيته النقديّة والفكريّة والشعريّة والوجوديّة التي لم «يفهمومها»،ويعني أولئك الذين تكفي في الدلالة على عدم اعتبارهم الإشارةُ إليهم بالضمير الغائب. والرؤية الفلسفيّة للشعريّة عند البعدانيّ هي أيضًا رسالةٌ مقدَّسة جعلها»دِينًا شعريًّا» وأعلن عن إرهاصاتها في قصيدة «صهيل متواتِر» باشتغال بليغ مبنيّ على الحروف المقطّعات: «كـــهــــيــــعــص» اضْــطَــرَمَـــتْ «واو-حا-يا» دِينُـكَ الشِّعـرِيُّ ظاهِـرْ وفي عودته إلى قداسة الصّوت المتجلّية في تهجئة حروف فواتح السُّوَر في القرآنوالحروف المقطّعة الخاصّة بالشاعر، يثبت البعدانيّ أنّه ليس سجين الإيقاع كما أثبت من قبل أنّه ليس سجين القوالب اللغويّة الجاهزة، فهو يُخضِع الإيقاع لمرونة اللغة في شكلها الصوتيّ كما أخضع اللغة من قبل لانفلات المعنى حين اخترق القوالب اللغويّة الجاهزة. ولعلّ هذا التحكّم هو سلطانٌ على «بنية الشعر»يشي بما في إمكان البعدانيّ من سلطة لكي يُفلسف «شعريّة الشعر»متحكّمًا في القوالب بنيةً ومتجاوزًا إيّاها رؤيةً.فتظهر هذه الرؤية/المواجَهة في نظر البعدانيّ نزالًا وجوديًّا لا مجال للخسارة فيه، ولكي ينجو عليه أن يخوضه «بوزن الذُّبابة» الذي وحده يضمن له السيطرة والمخاتلة على الحلبة بما يمنحه له من خِفّة في الحركة بين الإيقاعات ومرونةٍ لغويّة وتنوّعٍ في الفنّيّات، ولذلك يكرّر في قصيدة «بِوزن الذبابة»: سَـتَـخْـسَـرُ كُلَّ نِـقاطِ النِّزالِ إذا لَمْ تُــقاتِـلْ بِوَزْنِ الذُّبابَــهْ إنّهذا النزال الشعريّ ليس ممارسة فنّيّة فقط، بل هو حالة متأصّلةُ الكينونةِ أنطولوجيًّا، طوّقها البعدانيّ بمُفتتَح يتماهي مع الختام، حيث يبدأديوانه بالإعلان عن شاعر مؤجَّل ويختم بالإعلان عن فلسفة شعريّة مؤجَّلة وفيّة لجوهرها من حيث الإنتاج الفنيّ الخاصّ بالشاعر (شعرًا) ومن حيث حقيقتها بوصفها رؤية دائمة الاستشراف (فلسفةً). «والعاديات شِعرًا...» عنوانٌ يتناصّ مع القرآن الكريم، يعلن انتماءه العميق للتراث وينفتح على أفق لفلسفةٍ تنظّر لشعريّة الشّعر وتعكس خلاصة تجربةٍ وجوديّة جدّيّة للشاعر جبر بعدانيفي تعاطيه مع الشعر والفكر. ولن نبالغ إذا قلنا إنّه منعطف كبير في حركة الشعر والنقد العربيَّين على حدٍّ سواء، منعطفٌ يقوم بوجاهة فكريّة على عفاف السؤال ويترقّب بتَوقٍ شعريّ ضَفَرَ الجواب: فحين نَــخـونُ عَـفافَ السؤالِ ســنَــخْــسَـرُ مَــهْــما اجْــتَــهَــدْنا الجَـوابا الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 19-10-2021 07:37 مساء
الزوار: 698 التعليقات: 0
|