موسى إبراهيم أبو رياش إن رواية «يعقوبيل... رحلة نبي في قميص الأرض» للشاعر الأردني ناصر قواسمي، أقرب لأن تكون قصيدة أو ملحمة شعرية، وإن كان ثمة «قصة شاعرة»، فهي «رواية شاعرة»، ويؤكد ذلك لغتها الفاتنة، وصورها المدهشة، ومجازاتها وانزياحاتها، وصياغتها المحكمة، بالإضافة إلى التكثيف والإيجاز والتخييل الذي لا بد منه لهكذا رواية، وإن استندت إلى التاريخ، وهذا ينسحب على جميع فصول الرواية وصفحاتها، التي جاءت على نفس النسق والمستوى إلا ما ندر، وهذا لا يطيقه إلا شاعر متمرس. وعلى الرغم أن اللغة الراقية كانت السمة الأبرز للرواية، إلا أنها مناسبة للمضمون، ومنحته قيمة إبداعية مضافة، خاصة وأن المضمون معروف نسبيًا، وكان لا بد من السرد الإبداعي البارع ليصنع الفرق والمختلف. الرواية ليست تاريخية وإن كانت تتكأ على التاريخ، وقد اعتمد الكاتب أسماءً موازية مختلفة للأسماء المعروفة في القصة التاريخية لنبي الله يعقوب عليه السلام، فيعقوب في الرواية «آرام» ويوسف «إيثان»، وكذلك بقية الأسماء، وهذا مقصود؛ لأن الكاتب يريد أن يُنظر إلى نصه على أنه عمل أدبي صرف، دون مقارنة له بالقصة التاريخية والمرويات الدينية، فهو يكتب هنا نصًا إبداعيًا مستقلًا منفصلًا، فيه من التخييل أكثر من الوقائع التاريخية، وحتى هذه الوقائع لا يستطيع أحد الجزم بحدوثها، ما لم تستند إلى نص مقدس لا شك فيه، وقد أكد الكاتب على ذلك في تنويه مطلع الرواية «قبل الدخول... الرجاء أن تضع مفاهيمك ومعتقداتك المسبقة جانبًا، وتدخل بكامل البياض والنقاء؛ كي تدرك المعنى والغاية المرجوة من العمل، أو لم تفعل، فلا تسقط معتقداتك على العمل وتتهمه بما ليس فيه؛ لأن هذا في حد ذاته امتهان للرأي ومصادرة للحوار». رواية «يعقوبيل» هي سيرة طويلة من الأحزان والآلام، فـ«آرام»منذ ولد، سار في طريق الآلام والابتلاءات والمحن، ولم يحظى في حياته بالسعادة والهناء والراحة إلا أوقاتًا محدودة، وأهمها بعد أن اجتمع الشمل في مصر بــ«إيثان»، وكان ذلك وهو «شيخ كبير»؛ فقد عانى من التمييز والاستبعاد من أبيه، ومن تنمر أخيه، ثم الهروب وحيدًا غريبًا خائفًا شبه حافٍ، في صحراء قاحلة، تحت شمس لاهبة، تتلاطم في رأسه عشرات الأسئلة، وتطرقه الذكريات والحكايات تؤنسه وتوحشه. وعند خاله في حران، توالت آلامه وأحزانه، فحرم من الزواج ممن يحب، ولما حظي بها بعد سنوات طوال، حُرم منها الولد إلى أمد، وتعرض للاستغلال والتخويف، ولما عاد إلى دياره، طارده الخوف من خلفه ومن أمامه. وفي شكيم، ابتلي بابنته، ثم بأولاده وتآمرهم على رجال المدينة، ثم موت «إيليان»، ومن بعدها فقد«إيثان»، وبعده بسنوات سجن شقيقه «يامين»في مصر، فاشتدت الآلام والمحن على «آرام»، ثم أذن الله بالفرج، والتم الشمل مع«إيثان» وأخيه، وعاشوا جميعًا في مصر. إن حياة «آرام» سلسلة متعاقبة متصلة من المعاناة والابتلاء، تعاقبت وتزامنت وتراكمت حتى «ابيضت عيناه من الحزن»، وربما أقسى محنة يعيشها الأب أن يعرف أن ابنه المفقود حي يرزق، ولكنه يجهل ظروفه وكيف يعيش وأين؟ وإلام يتعرض؟ ولولا ثقته بربه ويقينه بالرؤيا؛ لانفطر قلبه،ومات كمدًا وحسرة، ولكن وعد الله آت؛ مما أعانه على الصبر والانتظار. تميزت الرواية بالوصف الدقيق البديع لرحلة «آرام»، وخاصة مشاعره وعواطفه ومعاناتهوتعبهوسعادته، بلغة جميلة مطواعة، ترجمت هذه الأحاسيس إلى لوحات محسوسة ومشاهدة، ففي طريق هروبه تنقل لنا الرواية هذا المشهد الحي: «الشمس تزداد قسوة، تعضُّ جبهته السمراء المباحة للفراغ، وتأكل من لحم الوجه ما شاءت ولذ لها أو طاب كذئب يتسلى بتناول طريدة على مهل ويقشر لحمها عن العظام، والعرق ينساب من فروة الرأس إلى الوجه المغبر حتى الذقن الخفيض المكسو بشعر خفيف يكاد لا يظهر كأنه يخجل من الوجه البضِّ الأقرب للفتاة منه للرجل». وتصف نمو الطفل «إيثان» على عين أبيه ومتابعته المستمرة، والذي لا يكاد يفارقه: «يتفتح كالزهور البرية في آنية الأرض دون تسرع أو عجلة كالأقحوان حين يصعد الهواء على مهل وتروٍ... ها هو يحبو على الأرض كزغلول حمام يكرج ويحاول الطيران أو القفز، يلهو بكل ما حوله يحاول أن يتسلق إلى مخدع «آرام» بيدين من لوز وسكر وجسد من طحين، يتعلم المشي والضحك والبكاء ككل الأطفال، ويتعلم الكلام... يا له من طفل ذاهب في الضوء حتى منتهاه، عابق بالجمال والبراءة أسر روح «آرام» تمامًا فصار الآخر يقضي جُلَّ وقته بالجلوس إليه واللعب معه وكأنه عاد طفلًا من جديد». استهل الكاتب كل فصل من فصول الرواية بفقرة قصيرة، مكثفة، محكمة، لا يمكن اعتبارها مفتاحًا للفصل، وإنما هي أقرب أن تكون استدراجا للقارئ، فجمال هذه الفقرات،التي جاءت كهدية مسبقة للقارئ، يغري بالمتابعة؛ لأن ثمة علاقة بينها وبين ما يتلوها من نص. في فصل بعنوان «حديث الظل للظل»، نقرأ هذه الفقرة الافتتاحية: «تسير الأرض، لأن الأرض تعرف أن لا خط نهاية في النهاية، لأنها خلقت للسير تحت خطى العابرين إلى فلواتهم، ذاهبين إلى غيهم ما شاؤوا لا يدركون كُنه الغيب وتفاصيل القدر». وفي مطلع فصل بعنوان «لقاء آرون»، نقرأ: «الخوف وحش كاسر لا يعرف الرحمة ما أن يقبض عليك حتى يمزقك إربًا دون التفات لصراخك أو توسلك». وبشكل عام، فإن الرواية مليئة بعبارات جميلة تصلح للاقتباس، ومن ذلك: «إن المرأة إذ تحبُّ تتجنّح فجأة، فيصير بمقدورها الطيران إلى سماء بالأمس كانت محض مستحيل». وتوجه الرواية في نهايتها رسالة واضحة، أن يا «آرام»المبارك، ليس لك في فلسطين إلا ما يتسع لجثتك في مغارة «المكيفلية» في «حبرون»، أما أولادك ونسلك، الذين عصوك وخذلوك، وتأمروا على أحب أولادك إليك، وأنت الأب الوالد والنبي المرسل، وهم لغيرك أشدَّ عداوة وشراسة، فهولاء لا مكان لهم، وغير مرحب بهم، ولا يظنوا أن فلسطين لقمة سائغة، فستلفظمهم الأرض، وتفضح جرائمهم، وتطردهم شر طردة، وليعلموا «أن سر الوجود يكمن بالمحبة والإيمان ما طال الوجود أو قصر،وأن الإنسانية سبقت الدين والعرق واللون... وأن هذا الكون له رب أكبر بكثير مما يعتقدون وله على الأرض شؤون لن يدركوها دون الرجوع إليه». وختمت الرواية بعبارة «تمت ولم تنته..» فالرواية نصّا تمت، ولكن الحكاية لم تنته بعد ما زال نسل «آرام» يعيث في الأرض فسادًا. وبعد؛؛؛ فإن «يعقوبيل... رحلة نبي في قميص الأرض، الجزائر: دار ومضة للنشر والتوزيع والترجمة، 2021، 175 صفحة»، لوحة جمالية ملونة، تدعو القارئ ليكون شريكًا في البحث والوصول إلى الحقيقة من خلال عديد الأسئلة التي تثيرها. وهي الرواية الثالثة للشاعر الأردني ناصر قواسمي بعد روايتيه: «وحيد الشاي، 2019»، و «سماء صالحة للرقص، 2021»، وصدر له قبل ذلك ثمان مجموعات شعرية وعدد من المسرحيات.