|
عرار:
التشكيلي طه القرني يُسكن في لوحاته شخوصه الأثيرين بمنظور فني مغاير يُغادر ما هو مستقر ومعتاد من أفكار جاهزة. يُمثل مشروع الفنان التشكيلي المصري طه القرني حالة مميزة في المشهد الفني في مصر. فمن فلسفة فنية تمثل محور ارتكاز تدور حوله كل أعماله ثمة مساع في كل معرض جديد له لإضفاء زخم فني ورؤية جديدة لا تُغادر نقاط اهتمامه الأثيرة. وهذا ما عمل عليه في معرضه الأخير "من فوق الرأس". في معرضه “من فوق الرأس”، المُقام حاليا بغاليري إبداع بالقاهرة، والذي يختتم في 16 مارس الجاري، يُقدّم طه القرني رؤية جديدة للبيئة الشعبية في مصر. وانطلاقا من قناعة فنيّة راسخة بأهمية الحياة الشعبية البسيطة التي تسكُن الهامش وتتوارى في خضم حياة لاهثة ومتسارعة، يبث الفنان طه القرني أعماله التشكيلية التي ضمّت عددا من الجداريات البارزة مثل “سوق الجمعة” و“المولد” و“عزبة الصعايدة” و“الزار”، تلك القناعة التي ينتصر بها الفن لمن وارته الحياة أسفل عجلاتها التي لا تعرف التوقف. يضم معرض “من فوق الرأس” 28 لوحة نفذها الفنان بعد طول دراسة وتأن وتعمق، حيث يُسكن القرني في لوحاته شخوصه الأثيرين بمنظور فني مغاير يُغادر ما هو مستقر ومعتاد من أفكار عن التكوين والمنظور ليجعل أبطاله متطلعين إلى المُشاهِد لهم من مختلف الزوايا، وكأنهم يمنحونه بعضا من الدفء المُفتقد في حياته أو يدلونه على مواطن جمال غائب عنه. انطلقت حقبة الحداثة من إيمان بالإنسان وأحقيته في أفضل سُبل الحياة، وباتت الذات هي المركز، لكن مع تطور مظاهر الحداثة صار الإنسان في مركزيته ترسا في آلة ضخمة، واقترب من فقدان ذاته ليصير مُستعبدا ومُستغلّا، وافتقد تلك المظاهر والأحداث البسيطة في حياته التي كانت تمنحه بهجة عفوية، والتقط القرني تلك الحالة ليُجسِّدها وينتقدها عبر احتفاء بما صار مُفتقدا. يوضح القرني لـ“العرب”، أن الفن الحديث صار يستغني عن وعي استحضار الإنسان البسيط، وهو ما يُعارضه بشكل ما في أعماله، ففي هذا المعرض يتخذ الإنسان البسيط والمُهمش شكلا مغايرا عمّا سبق وأن قدّمه في أعماله الأخرى، بالارتكاز على شكل العروسة كموتيف مع تركيز المنظور الفني بما يجعل هذا المهمش “فوق الرأس”. في إطار تلك الرؤية يُقدِّم القرني حالة من الدفء كما تعكسها البيوت الريفية التي صارت مفتقدة راهنا، ويعزز تلك الحالة عبر استخدامه لألوان دافئة تُعبِّر عن حميمية الحياة البسيطة، وبتصويره كذلك احتفالات غير متكلفة تبعث على البهجة مثل الأفراح الشعبية البسيطة التي يكون قوامها دفء المشاعر والمحبة وليس مظاهر الترف الباذخة، والاحتفال بالمولود الجديد، وألعاب الأطفال البسيطة التي تكاد تتجه نحو الاندثار في ظل تصدّر التكنولوجيا وأثرها الباذخ على الانفصال بين أفراد الأسرة الواحدة. منح الفنان المصري البطولة للمُهمّش والمهمل، كالأسواق الشعبيّة المزدحمة والتي رغم تكدسها تتدفق جمالا ودفئا، والطقوس التي تُعبر عن الهوية المصرية الأصيلة والمهن اليدوية التي تعكس العمق الفني لدى صانعيها رغم بساطتهم مثلما نجد في اللوحة التي تُصوّر النساء وهن يحكن لوحات من الطبيعة على “النول”. يحتفي القرني بتفاصيل متعددة في الحياة الشعبية، ففضلا عن الاحتفالات البسيطة المعتمدة على الطبل والمزمار، هناك البيوت بزخارفها التي لا تتجاوز الطابقين، والملابس الشعبية من جلابيب بيضاء للرجال والصبيان، وأخرى ملونة ومزركشة بنقوش من الورود للنساء والفتيات، والأواني الفخارية البسيطة التي تُشكل ملمحا أساسيا في الحياة الريفية البسيطة. يتصدر الشباب والأطفال معظم اللوحات في هذا المعرض بما يؤكد على الحيوية كحالة عامة في اللوحات، وهنا يلفت القرني إلى أن الأعمار السنية الصغيرة في اللوحات هي تقديم الإنسان في أوج شبابه وتفاعله مع المجتمع، والرغبة في صياغة مستقبل جديد للإنسان يُعاد فيه الاعتبار إلى إنسانيته. مهارة صهر العنصر البشري تحضر مع كل مفردات الصورة ينتصر المعرض للبُعد الروحاني المُغيّب في الحضارة الحديثة، فالحمام يحضر في أكثر من لوحة صانعا حالة من السلام والهدوء المُغيّب، وفي لوحة أخرى تجسيد لرقص المولوية بما يختزله من زخم روحاني وصفاء نفسي وفكري. يُبيّن القرني أن التكنولوجيا الحديثة قادت إلى فصل الناس بعضها عن البعض، رغم التواصل المستمر، فطوال الوقت ثمة افتقاد لحميمية العلاقات وللتواصل الحي عبر التقاء العيون المنشغلة بالنظر إلى الشاشات، وهنا يأتي المعرض لترميم العلاقة؛ فشخوص اللوحات تستضيف المشاهد لها وتُدخِلهم في قصتهم. يُعيد المعرض زواره إلى نوستالجيا الطفولة، حيث بساطة الحياة وحميمية العلاقات ومشاعر الحب الصادقة والتواصل الحي بين الأفراد في أوقات الفرح واللهو دون وساطة تكنولوجية باردة وجافة، واحتفالات بطلتها البهجة الحقيقية المنبعثة من القلوب، وطبيعة خلّابة توارت راهنا خلف مظاهر قبح معماري وشوارع مُكتظة بسيارات متكدسة. فضلا عن ملامح التأثيرية وزخم الألوان، يستند معرض “من فوق الرأس” إلى رؤية تشكيلية جديدة ثُبتت أركانها عبر عدد من العناصر على رأسها استخدام الظل بكثافة، فهو من جهة يؤكد على زاوية الرؤية التي تقدمها اللوحات من أعلى، ومن جهة أخرى يشير إلى أن فكرة الظلال هي تأكيد على ثبات الشخوص وتمسكهم بالأرض، وإعادة رؤية تشكيلية للحلول الرأسية في كل العالم، بما يجعل الموضوع أقرب إلى التصوير النحتي. ويعبّر الفنان التشكيلي محمد كمال عن عناصر الزخم في معرض “من فوق الرأس” بقوله “تحضر مهارة صهر العنصر البشري مع كل مفردات الصورة، مثل الخضروات والفواكه والأسماك والطاولات والقطط وملابس التنورة المزخرفة، ما يدفع بعناصر المشهد في المنطقة البرزخية الفاصلة بين التفاصيل الواقعية وقدرات التلخيص، بما يوحي ببناء تصويري تجريدي وشيك على جنبات ذلك المسرح الشعبي المؤسس”. ويشير القرني لـ“العرب” إلى أن منظور عين الطائر، الذي قام عليه هذا المعرض، فكرة جديدة على الوسط التشكيلي في العالم أجمع، فثمة تجاوز لمسألة المنظور بما يتماس مع فكرة المعرض وهدفه، حيث أراد أن يجعل هؤلاء الناس محط الاهتمام والتركيز، وأن يعيد الاهتمام بذلك الإنسان البسيط الذي يذهب إلى الأسواق ويمارس احتفالاته وحياته البسيطة، فهذا هو الوجه الجمعي للإنسان البسيط في العالم ككل الذي أراد أن يضعه “فوق الرأس”. ويعد هذا المعرض حلقة من مشروع الفنان المصري طه القرني الذي ينطلق في مشروعه الفني من إيمان بضرورة التواصل بين المُبدع والمتلقي. وفي هذا الصدد أنجز سلسلة معارض تشكيلية تفاعلية مع الجمهور المصري مثل جدارية “سوق الجمعة”، كما عرض جدارية بعنوان “الثورة” في عدد من المحافظات المصرية، ليظل هاجسه وانشغاله الأول هو توثيق مظاهر الحياة المصرية بما تمثله من هوية خاصة يُرام الحفاظ عليها. المصدر: العرب الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 15-03-2021 08:57 مساء
الزوار: 1312 التعليقات: 0
|