|
عرار:
د. إبراهيم خليل ما من أحد من كتاب اليوم، وشعرائه، يتذكر حكمت العتيلي (1935- 2006). وهو شاعرٌ ظهر في ستينيات القرن المنصرم، وكان قد بدأ حياته الأدبية بنشر قصائده في مجلات الآداب البيروتية، ومجلة حوار، ومجلة الأفق الجديد المقدسية. ويندرج العتيلي في جيل ما قبل النكسة، شأنه في ذلك شأن الشعراء معين بسيسو وعبد الرحيم عمر وتيسير سبول وفواز عيد وأيوب طه ومحمد القيسي وأحمد دحبور وعز الدين المناصرة وسليم دبابنة وعمر أبو سالم وأمين شنار وراضي صدوق وفايز صياغ وعيسى بطارسة وقحطان هلسة وتوفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش وراشد حسين ومريد البرغوثي وغيرهم.. ممن لا ضرورة لذكرهم ها هنا، وإن كان من الضروري جدا متابعة نتاجهم الشعري، والتوقف عنده، ودراسته دراسة نقدية تجمع بين الشمول، والعمق. فالعتيلي بسبب مغادرة البلاد إلى الظهران، أولا، بحثا عما يعتاش به هو وأفراد عائلته كغيره من المثقفين، ثم إلى أميركا – ثانيا - حيث المقام استقر به في غير مدينة من مدن الولايات المتحدة، تراجع اهتمامه بشعره، وإنْ لم يتوقف عن نظم القريض، يشهد على ذلك المجلد الضخم الذي صدر بعمان عن دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع (2008) في نحو (600ص) وفيه نيف وخمسون ومائة قصيدة (1). وهذا عددٌ يؤكد أن الشاعر الزاهد في النشر، والشهرة، لم يتوقف عن الكتابة. وكان العتيلي قد نشر في العام 1965 ديوانا واحدًا بعنوان» يا بحر « كتبت قصائده بين عامي 1962و1964. ويُعدُّ صدوره عن دار الآداب، بما تتمتع به هذه الدار من مكانة رفيعة بين الناشرين، شهادة على حضوره القوي في ذلك الزمن المبكر قياسًا بغيره من الشعراء ممن لم يصدروا الدواوين إلا بعد ذلك بطويل وقت. الاغتراب والعودة في مجلد قصائده الذي صدر بلا تقديم مناسب يقف القارئ على الكثير من الهموم التي شغلت العتيلي في مقدمتها شعوره الفظيع بالاغتراب عن قريته عتيل، بما يرتبط به ذكرها من مشاعر الحنين، والتوق للعودة. وهذا شيء يتكرَّرُ كثيرًا بصورة تذكرنا بتكرار السياب لبلدته جيكور، وتذكار عبد الرحيم عمر لبلدته جيّوس. ففي واحدةٍ من دُرَره يخاطبُ قريته معبرًا تعبيرًا قويًا عن اللهفة إليها، والرغبة الشديدة بالعودة، لولا أن العدو الفاشي يتربَّصُ بالعائدين، ويقف لهم بالمرصاد، وقفة المارد الذي ينفثُ من فمه الحِمَمَ، ويقذف الطرقات، والمعابرَ، بالقذائف التي تحيل الفضاءَ الأبيض « رمادًا أسودا «: ويا عتيل يحدونا إليك الشوقُ واللهَفُ فنسرع عائدين، ونذرع الطرقاتِ، نحوك أنتِ لا نَقِفُ ولا نفْتُر ولا نعثر ولكنْ ماردٌ عيناه تنفتحان عن نَهَم ويقذفُ فوهُ في الطرقات شلالا من الحِمَم وتنهار الجبال الشمّ إذْ يزأر يسدُّ دروب عوْدتنا فننأى عنكِ يا عتيل (ص14- 15) ولأنَّ بلدة الشاعر موْطن الذكريات، فهو لا يفتأ يصوّر لنا ما يحيط بها من زيتون، وما شهده فيها من يوميّات. على أنَّ أكثر ما يلح عليه في شعره هو الجرح الناغر الذي تركته الهجْرةُ في فؤاده، فهو يتخيَّلُ الزيتون يمد جذوره في قلبه، حيث ذلك الجرْح، وحيث الألم الحارق اللاذع الذي يشبه أثر الملح في الندوب، فالأيام التي تذكره بعتيل أيامٌ عصيبة، لا يذكُرُها إلا ويجتاحهُ الألم، والرُعب، والإحساسُ بدنوِّ الموت: الزيتونة مدت جذرًا في قلبي فالجرح بقلبي، أرضٌ بورٌ، محزونة الجرح جزيرةُ ملح ملعونة لا توجد فيها إلا الغُصَصُ المدْفونة إلا الريحُ الهوْجاءْ والعاصفة المَجْنونَة (ص22- 23) مثل هذه الذكريات، والآلام، لا تفتأ تداهم الشاعر في حله وترحاله، في مقامه وفي أسفاره، ولا يتطرَّق اليأس مع ذلك لنفسه، فهو يغالبُ هذا الشعور، ويتحايل عليه، فمهما طال الشتات، ومهما صعُبَ طعم الفراق، ومهما اشتد إوار المِحَن، فلا يمكن لليأس أن يطبقَ على شعوره، وللإحباط أنْ يتحكم بمصيره، فهو في رثاء صديق له (توفي في المهجر) اسمه خليل، يلحّ على العودة لعتيل، قائلا يا بشرايَ هذا موسمُ الزيتون، وعلة هذه البُشرى، وذاك التفاؤل، تنامي المقاومة في فلسطين، وشيوع أخبار الثورة: ونحْلُم في ذرى وطني بأن الليل مهما طال واشتدا وأن لوازم المحن سيجلوها دمُ الثوار، لا بدّا وأن النصر آتٍ، أبشري عتيلُ أعدي موسم الزيتون .. قد طال انتظارُ خليل (ص136- 137) ولعلَّ السَفَر من حوافز التذكُّر، والرغبة في الإياب، والعودة، على رأي الشاعر القديم الذي قال: « تذكرني الإيابَ ومن يسافر.. كما سافرت يدَّكرُ الإيابا « فالعتيلي يتذكر قريته، وهو في المدينة الكبرى لندن، ويتذكر صور الماضي، يتذكر الأعين السود، والأهل، والوطن، والأحباب، يتذكرُ كل شيء، متمنيًا أن يعود إلى هذا المكان، وذلك الزمان، فورًا، كما لو أنه خلقَ من جديدٍ خلقًا ثانيًا: لو يا لندن يبزغ لي من هذي الظلمة عينان سوداوان أغْرقُ في لونهما أحزاني أذوّب في عمقهما أشجاني فأعود لأهلي، أوطاني يا أحباب، قد عدتُ لكُمْ ذاك الشخْص الثاني في لندنَ غسَّلتُ جراحي ولقيتُ بها أفراحي ورجعتُ لَكُم ذاك الشخصَ الثاني (ص48- 49) والحنين أحدُ الدوافع التي تملي على الشاعر العتيلي تذكُّرَ الماضي بما فيه من تفاصيل الحياة اليومية، وذلك مظهرٌ قلَّ أنْ يعتني الشعراء به إلا من بعض الشعراء الفلسطينيين الذي يغلب عليهم تذكار الماضي بأدق ما فيه من تفاصيل. ففي قصيدة بعنوان « ذكرى « يحدثنا عن والد المتكلم وعمّا يتجلى في هاتيك الذكريات من شخوص، ومن حيوية، ومن حوار تبرُزُ فيه لهجة الشاعر الذي لا يتعالى على أن ينسج صورهُ من فتات الواقع. يقول على لسان هذا المتكلم ما يأتي: عواف يا ابن العم وكيف الزرع هذا اليوم نحْمَدُه، يجيبُ ويمسح العرق الصبيب عن الجبهة فتأتيه.. بوجبته على عَجَلٍ فيأكلُ، ثم يشكر المنّان يصلي فرْضهُ ويسمعُ الأخبار قبل النوم (ص119) ففي هذه الصورة تمتزج العبارات الدارجة بالنبرة التي يحاكي فيها الشاعر الحوار العفَويَّ بين الشخوص: كيف الزرع، ونحمده، يشكر، يصلي فَرْضَه، ويستمع الأخبار قبل النوم.. عباراتٌ يتضح النسق العفوي في نظم الشاعر لها بلا ريب. وتتضح هذه الملامح إذا نحن قارنا ذلك بصورة أخرى تنأى بالشعر عن هذا النسق، وتقترب باللغة من التعالي عن بساطة النثر، فهو يذكر في الصورة الريح الضريرة الهوجاء، والجزيرة، والريح القريرة، من شدَّة القرّ والبَرْد: ولكَمْ يا زهرةَ النَسْرين قلنا: لو تهبّ الريحُ هوْجاءَ ضريرة لارتحلنا ورجعنا لكِ منْ أقصى بحار الكوْنِ من أقصى جزيرة بوشاح فستقيّ اللون، زاهٍ، وضفيرة وهتفنا.. آهِ... تغدو زهرةٌ فينا أميرَة وفرحنا، لكنِ الريحُ قريرَة ما تزال الريحُ تأتينا قريرَة (ص25- 26) في طريق الحداثة فمَنْ يوازنْ بين استعمال الشاعر لكلمة قريرة، وهي من الكلمات النادرة الشيوع، بما سبق، من مثل: عواف يا ابن العم، وكيف الزرع، وغيرها.. يطمئنّ لجزالة الشاعر، واختياره لما هو فصيحٌ من الكَلِم، بيْدَ أنَّ العتيلي يظل قليل العناية بهذا المستوى من الألفاظ، بل هو قليل العناية بالأسْلوب، إذ يغلب عليه الاهتمام بالمعنى لا بالمبنى، ومع ذلك يجد القارئ في أعماله الشعرية قصائد لا تخلو من تجريبٍ بقصد الوصول لكتابةٍ شعريةٍ رائدة تدبُّ بخطاها الحيِّيَة، الخجول، على درب الحداثة في الشكل. ومن ذلك نظمه للأوبريت، والمسرحية القصيرة ذات الفصل الواحد شعرًا. وفي قصائدهِ لا يخلو عطاؤهُ من البناء الدرامي، أو شبه الدرامي، بكلمة أدقّ، ومن ذلك- على سبيل المثال- قصيدة « المتْعَبون « فهي حواريَّة تشترك فيها شخصيّاتٌ، وأطرافٌ، تمثل رموزًا : ماذا يريد المتعبون نريد أن ننام سبعين عام طويلة، عتيقة، حرون تهبُّ ريح أو تثور ريح تغَسِّل السماءُ أرضنا بوابلٍ منَ المطر تلوِّنُ الوهادَ، والتلال، والسفوح أشعَّة القمَرْ وفي مضاجع الظلام والسكونْ نظلُّ نائمين (ص28) وبتعدد الحوار تتعدَّدُ رؤى الشخوص، وتتباينُ آراؤهم في الواقع. وفي بعضها تتجلى السخرية التي تذكِّرُنا بحكاية أهل الكهف. وفي قصيدة أخرى نجد الشاعر يلجأ لاتخاذ إحدى الشخصيات المعروفة قناعًا يتحدَّثُ منْ ورائه. فعنترة العبسي المعروف يشعُر عند العتيلي بالغربة، وبالحنين إلى دياره، بعد أن تقاذفته الدروب في تعبير ينم على المفارقة، والتناقض : عبثا نكوصي نحو أدغال عِتاق عبثا هروبي عبثا تمَرُّديَ الغبيّ وتشتُّتي بين الدروب ولذا فإني عائدٌ (عاد الغريبُ إلى الديار إلى الصَحابْ) ويؤوب كلّ مسافر يومًا وإنْ طال الغيابْ (ص36 – 37) والأقنعة في شعر العتيلي تمثل واحدة من التشكيلات التي يلجأ إليها تجنُّبًا للخوض المباشر في المعنى، ففي واحدة من قصائده يصب جام غضبه على الطغاة من خلال الاعترافات التي يدلي بها أحدُهم، وهو كاليغولا Caligula (12- 41م) الذي كتب ألبير كامو مسرحية تدور حول شخصيته (1)، وما ارتكبه من فظائع جعلت منه رمزا للدكتاتور المتسلط. والعتيلي، في توظيفه لهذه الشخصية، يفترض أن القارئ المهتم بالشعر يعرف بعض المعلومات عن هذا الطاغية، وتبعًا لذلك تشكل تلك المعرفة في حدودها الدنيا، أو القصوى، جسرًا يصل الشاعر بالمتلقي، فيتم التفاعل بينهُ وبين النص بالصورة التي يتمناها كل حريصٍ على البلاغ والبيان: كاليغولا قال: هاتوا لي القمر أنا أحيي وأميت أبْدلُ الليل نهار وأحيلُ الماءَ نار قلتُ هاتوا لي القمر كاليغولا .. كاليغولا بذرة الشرِّ وإفكُ الأبديَّة لعنة المهزلة الكبرى وهوْلُ البشريَّة (ص38- 39) وفي بعض شعره يلجأ العتيلي إلى الرمز، جاعلا من المرأة بديلا رمزيًا مكافئا للوطن، والأرض، ومن لقاء المحبِّين شيئا يشبه العودة بعد الفراق، والأوبَةَ بعد السفر، يقول في قصيدة بعنوان « ما أجمل أنْ نحب «: وضمَّنا اللقاء أواه .. ما أجمل أنْ نحب ونلتقي مع الغروب خافقًا مُغنّيًا، وقلبْ تبارك اللقاء وطابَ يا حبيبتي الغِناءْ (ص60) ومع أنَّ شاعرًا كالعتيلي، تكالبت عليه المآسي، والمِحَنُ، لا يجد وقتا للحب، رغم أن في الحب دوافع إنسانية للمرء أن يشبعها في كل حين، وكل أوان، دونما رقيب أو حسيب، إلا أنَّ ما يَحْرمُ الشاعرَ لذة العشق، ومتع الحب، أن قريته ووطنه يلاحقانه كما الأشباح التي لا تتركه وشأنه، فهي تقعد له عند مفتتح كل درب، وفي منتهى كل طريق، وهكذا نجده يفارق المدينة الكبرى التي يحس فيها بالضياع، وبأنه لا شيء، باحثا عما هو مجهول؛ عن طائر مغرّد، أو طيفٍ هاربٍ ينكأُ منه الجراح: في زحمة المدينة العجوز والليل مثل علبة مضاءة تضوع بالرموز بحثتُ يا حبيبتي عن ضائع عزيز عن طائرٍ مُغرِّدٍ مُذهَّب الجناح قد زارني هُنيْهة لينكأ الجراحْ وطار، طار خافقي مَعَه وخلَّف الجراح الموجِعَة (ص57) ولا يحتاج القارئ إلا لبضعة أبيات ليكتشفَ أنَّ الجراح تعبير عن النفي القسري، وعن الغربة المستديمة خارج ربوع الوطن السليب. وتبعًا لهذا كله، يكتشف قارئ هذه الأعمال الشعرية إحساس العتيلي بالندم على تركه البلاد، والهجرة. فعلى الرغم من كلِّ شيء لم يجد العتيلي ما كان يأمله في المَهْجر، ولم يحتفظ في الوقت نفسه بما كان قد حققه في الوطن. وتحوَّل الشاعر الغاضب المتمرد في الوطن إلى صوتٍ هامسٍ فاتِر في المنفى لا يحقق شيئا حتى لو رفع عقيرته بالصراخ شعرًا، ونثرًا. ولم يعد إلى دياره مثلما كان يتمنَّى، فالديارُ لنْ تفتح ذراعيها لاستقبال من غادرها طامعًا في غيرها، ولن تمنحه ما هو في حاجة إليه من تقبُّل يشعره بالرضا عن نفسه، ولذا يُدلي – آسفا - باعترافه الخطير، الأخير، عن ضياعه، وما مُني به من خساراتٍ، أبلغُها أثرًا خسارتُه لنفسه، ولأيامه الماضية: وأنا الذي ملأ الزمان تمَرُّدا قد صرتُ صوتا هامسًا لا رَجْع فيه، ولا صدى ولذا فإني عائدٌ هل تقبل الدارُ الشقيَّ العائدا إني أقرُّ بأنَّني بدَّدْتُ أيامي سُدى (ص130) صفوة القول، وزبدة الحديث، أنَّ عناية العتيلي بشعره تتراجع بالموازنة مع آخرين من أمثال القيسي والبرغوثي والمناصرة ودرويش وفواز عيد ممَّن وهبوا حياتهم للشعر، فازدادوا بذلك ألقا وشهرة. وللهجرة من الوطن إلى أميركا بلا ريب أثر سلبي على هذا الشعر، مع أن الاغتراب أسهم في شحْذِ الإحساس بالحنين لديه، والتوق للرجوع من هذا المهجر. ولقد تفنن في بعض شعره فاقترب من البناء الدرامي، وتوظيف الأقنعة، والشخوص، ولم تخل أشعاره من الرموز ذات الشفافية التي لا تغرقه في الإبهام، ولا في الغموض. والعتيلي، الذي توفي في فبراير شباط 2006 عانى في أُخَرَةٍ من عمره ويلات المرض، وقاسى كثيرا، قبل أن تفتكره العناية الألهية. ولا يفوتنا أن نوجه الشكر للسيدة الفاضلة أمل عبد المجيد - زوجته - لقيامها بجمع أشعاره، ونشرها في هذا الكتاب الضَخْم، وإن كان الجهد يظل في حاجة ماسَّة لمقدمة تنصف الشاعر، وعناية أكثر بالتدقيق الإملائي، والطباعي، والعروضي. هوامش: بعيد كتابة هذا المقال اكتشفت أن الأعمال الشعرية الصادرة بعمان 2008 لا تضم، للأسف، قصائده في ديوانه المبكر يا بحر. امبراطور روماني عُرف بطيشه، واستبداده. والمَسْرحية مترجمة إلى العربية قام بترجمتها رمسيس يونان. وعرضت في القاهرة. وأدى دور البطولة فيها من الرجال نور الشريف، ومن الممثلات إلهام شاهين المصدر: الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 04-07-2020 08:50 مساء
الزوار: 2189 التعليقات: 0
|