حول الدراسة التفسيرية.. التوجيه اللهجي للقراءات القرآنية للدكتور جزاء المصاروة
عرار:
نايف النوايسة قراءتي المتواصلة للقرآن الكريم دفعتني للعودة إلى كتب الحديث النبوي المعروفة وتفاسير القرآن المتوفرة وكتب اللغة ومعاجمها التي تملأ رفوف المكتبات لتدبّر آيات القرآن والوقوف على معانيها وما التبس عليّ من مسائل متعلقة بالبلاغة والبيان والنحو وكل ما يتصل بإعجاز هذا الكتاب الكريم. والذي دفعني للبحث في هذا الشأن أمران هما: الأول هو العكوف على دراسة بعض المفاهيم القرآنية منذ سنوات بعنوان (قبسات قرآنية). والثاني هو البحث بالتراث العربي لبيان أن أمتنا العربية هي أمة حضارة وإبداع وليس أمة خاوية لا علاقة لها بصنع الحياة،، وهذا ما أظهرته في كتابي( معجم أسماء الأدوات في التراث العربي) الذي صدر سنة 2000م وقد فصّلت طويلاً في مقدمته حول إسهامات أمتنا في رفد الإنسانية بالعطاء العلمي والإبداع الأدبي. كل ذلك دفعني إلى إيلاء موضوع اللغة بعض الاهتمام وعلى رأسه اللهجات الدارجة القديمة والمعاصرة، وأكثر ما استوقفني في هذا الشغف موضوع اللهجات العربية ذات الصلة بالقراءات القرآنية، فوجدت في كتاب( التوجيه اللهجي للقراءات القرآنية) للدكتور جزاء المصاروة ما يلبي هذه الغاية. ولماذا هذه الدراسة المتخصصة التي جمع فيها المؤلف بين الشواهد القرآنية وبين اللغة الفصيحة واللهجات العربية؟ يقول المؤلف في مقدمة كتابه إن غايته من هذه الدراسة هو الكشف عن( مدى اعتماد النحاة والمفسرين، وعلى رأسهم أبو حيان الأندلسي، اللهجات معياراً في توجيه القراءات القرآنية، إذ من المعروف أن من شروط صحة القراءة أن توافق العربية ولو بوجه، فإذا ما جاءت القراءة على إحدى لهجات العرب، تكون قد وافقت العربية بلا شك). وحتى تتحقق له غايته عكف على قراءة آيات القرآن الكريم وما وافقها من قراءات مبثوثة في المصادر اللغوية القديمة كالبحر المحيط مثلاً، وبعد هذا الاستقصاء الدقيق يذهب إلى بيان رأي القدماء في توجيه هذه القراءات من أجل الوصول إلى المعيار اللهجي في هذا التوجيه، وكل ذلك يقود إلى تحليل النمط اللغوي حسب علم اللغة الحديث. وحتى يصل الباحث إلى ما يريد من هذه الدراسة الدقيقة المتشعبة اعتمد المناهج البحثية المعروفة كالمنهج التاريخي والمنهج المقارن والمنهج الوصفي التفسيري. وزّع الباحث دراسته على مقدمة وتمهيد وأربعة فصول وانتهى فيها إلى قائمة طويلة من المصادر والمراجع في مقدمتها القرآن الكريم ثم الكتب والرسائل الجامعية والدوريات، ومن جميل ما تضمنت هذه الدراسة فهرساً للقراءات القرآنية الواردة فيها مثل القراءات التالية (وإيّاك نَسْتعين) بفتح النون ويقابلها قراءة (نِسْتعين) بكسر النون، وقراءة (ولا تقربا هذه الشجرة) ويقابلها قراءة (ولا تقربا هذه الشَيَرة)، وأمثلة كثيرة يُستحسن العودة إليها في الكتاب. ووضعنا الباحث في تمهيده للدراسة أمام العلاقة ما بين اللغة واللهجة، ودخل من بوابة المعجمات العربية كـ(العين) للخليل بن أحمد وابن جني وابن فارس وابن النحاس وأبو البركات الأنباري وأبو حيان الأندلسي وتعمق أكثر في مذاهب اللغويين القدامى ليقف على تحديد مفهومي اللغة واللهجة واللسان، كذلك بحث في هذا الشأن عند علماء اللغة المعاصرين وبيّن آرائهم ووجهات نظرهم وعلى رأس هؤلاء إبراهيم أنيس ورمضان عبدالتواب وعبده الراجحي وتمّام حسان ومحمد الخولي وعبدالصبور شاهين وابراهيم السامرائي وعبدالرحمن أيوب ونحوهم.، فضلاً عن عودته إلى دراسات كثيرة لباحثين أجانب في علم اللغة المعاصر. التمهيد في هذا الكتاب بحد ذاته هو دراسة مفيدة لمن شاء التوسع في موضوعه سواء في اللهجات عموماً أو العلاقة ما بين اللهجة واللغة أو اللهجة التي نزل بها القرآن أو القراءات القرآنية. تضمن الفصل الأول من الكتاب تفصيلاً مهماً ودقيقاً عن المستوى الصوتي والصرفي في اللغة العربية مُقسماً على قسمين، تضمن القسم الأول الحديث عن الأسماء وعلاقتها بحركة الفاء (فاء الكلمة) مع حركة الفتح والكسر ومع الكسر والضم ومع الفت والضم ومع الكسر والضم والفتح، وعلى سبيل المثال، قال تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من وَلايتهم من شيء) وفق قراءة ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم والكسائي، في حين قرأها الأعشى وابن وثاب وحمزة ( وِلايتهم) بكسر الواو، وللغويون مذاهبهم في هذه القراءات التي أشغلت الجميع قديماً وحديثاً. وفي حركة الضم والكسر أورد الباحث عدداً من الشواهد القرآنية وتتبع فيه آراء اللغويين فيها مثل قوله تعالى (فأُمّه هاوية)، وهناك من قرأها حسب لهجته (فإمُّه هاوية)، ومثل ذلك في قوله تعالى (فلا تَكُ في مِريةٍ منه) وقد قرأها بعض اللغويين(مُرْيةً)، هذه نماذج دالة على جهد الباحث والمقام لا يسمح بالتوسع ولكنها إشارات سريعة. أما عين الاسم فتناول الضم والفتح والكسر والفتح والحركة والسكون والمثال على ذلك في قوله تعالى(فَنَظِرَة إلى مَيْسَرَة) وقرأه نافع(مَيْسُرَة)، والأمثلة على عين الاسم وحركاتها كثيرة وقد أوردها الباحث مقرونة بالرموز الصوتية لتقريبها للفهم وإعادتها إلى أصلها عند قبائل العرب وفق ما ذهب إليه اللغويون القدامى. أما القسم الثاني فيقع على الأفعال وحركاتها( العين والفاء) كالذي سلف في الأسماء؛ فحركة الفاء في الفعل الماضي المبني تلتزم الفتح ولا تتغير كما يقول الباحث في كل اللهجات القديمة إلاّ في حالتين هما( البناء للفتح وإسناد الفعل إلى الضمائر)، والتغيير في هذه اللهجات ناتج عن أسباب صوتية. ومن أمثلة ذلك في الفعل الأجوف كما في الآية القرآنية( ولما جاءت رسلنا لوطاً سِىَء بهم)، وفي لهجة هذيل ودبير فتُقرأ( سُوءَ بهم) وفق عيسى وطلحة. وأورد الباحث أمثلة أخرى في هذا القسم كقوله تعالى( فَنِعْمَ عُقْبى الدار) كما يقرؤها الجمهور، لكن هناك من يقرؤها( نَعْم) بفتح النون، وأورد ابن حيان قراءة ابن يعمر( نَعِم) ولم ينسبها الى قبيلة من قبائل العرب. هي شذرات من الكتاب انتقيتها للتأشير على أهمية مادته ومقدار الجهد المبذول في جمعها وتحليلها على النحو الأمثل، وم شاء الاستزادة ففي الكتاب ما يرغب. وفي الفصل الثاني تناول الباحث موضوع الظواهر الصوتية وقصر الحديث على الجانب اللهجي كالإبدال بنوعيه القياسي والتاريخي، ويقع تحت هذا العنوان ألوان من الإبدال مثل( إبدال السين صاداً أو زاياً وإبدال الثاء فاء وتعاقب القاف والكاف وتعاقب الهمزة والهاء وتعاقب الهمزة والواو وتعاقب الحاء والعين وتعاقب الجيم والياء وتعاقب التاء والهاء وظاهرة الاستنطاء)، وأورد الباحث شواهد قرآنية كثيرة على الإبدال أكتفي منها بمثل قريب نكرره كل يوم في صلواتنا هو في قوله تعالى( اهْدِنا الصِّراط المستقيم) كما قرأها الجمهور، وهناك من قرأه( السراط)، أو( الزِّراط). ومن الظواهر الصوتية( الإدغام والهمز والإمالة)، ومن الأمثلة عليها في قوله تعالى في سورة يوسف على لسان يعقوب( لا تقْصُصْ رُءْيَاك) وهي قراءة الجمهور حسب لهجة الحجاز، أما لهجة ت ميم فهي(لا تقصّ). وبحث في الفصل الثالث بغض صور الخلاف في البنى الصرفية، وأورد بعض هذه الصيغ التي كان لها حضورها في القراءات القرآنية، ومن هذه الصيغ( فَعَل وأفْعَل، وفَعَّل وفاعل) ومن الشواهد القرآنية على هذه الظاهرة في قوله تعالى(ثم إذا شاء أَنْشَره) حسب الجمهور، وهناك من قرأها( نَشَرَه) مثل شعيب بن الحاجب، فجعل أبو حيان القراءتين لهجتين من لهجات العرب. وأشار الباحث إلى قضية أشغلت اللغويين قديماً وحديثاً وهي اللهجات والأسماء الأعجمية، إذ أن هناك من أنكر وجود الألفاظ الأعجمية في القرآن الكريم في حين أقر بها آخرون، وأورد نماذج من هذه التي خضعت للصيغ الصرفية حسب لهجات العرب مثل (جبريل وميكائيل وإسرائيل وإبراهيم ويونس)، وفي الأسماء غير عَلَمية ذكر الباحث (القسطاس والصلوات والصواع والعفريت). ومن الصيغ الصرفية التي عرفها العرب قلب ألف الاسم المقصور ياءً، مثل أفعى وحبلى تصبحان أفعي وحبلي، ومن الشواهد القرآنية قراءة قوله تعالى( قال يا بشرى هذا غلام) فهناك من قرأها( بُشْراي) مثل ورش ونافع. وننتهي إلى الفصل الرابع الذي أفرده الباحث لُيفصّل فيه الحديث حول الخلافات اللهجية في المستوى النحوي مع إقراره بأن هذه الخلافات ليست عميقة كما هي في المستويات الأخرى. أما أبرز هذه الخلافات فهي: جزم الفعل المضارع: جزم الفعل معتل الآخر بحذف الحركة تقديراً مثل قوله تعالى (إنه من يتقِ ويصبرْ فإن الله لا يضيعُ أجر المحسنين) فهناك من قرأها بإثبات الياء (يتقي). نصب الفعل المضارع بـ»لم» مثل قوله تعالى (ألم نشرحْ لك صدرك) فقرأها بعض القُرّاء بـ(ألم نشرحَ). جزم الفعل المضارع المعتل بعلامتين مثل قوله تعالى( ألم ترَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) فقرأها أحد القُرّاء بحذف حرف العلة وتسكين الراء( ألم ترْ). لغة أكلوني البراغيث ما الحجازية وما التميمية إعراب المثنى في بعض اللهجات العربية لهجة تميم في إعراب ما بعد ضمير الفصل اللهجات في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم حذف الحركة الإعرابية صرف الممنوع من الصرف لهجة أخيراً، هذه إضاءات خاطفة التقطتها من بين ثنايا الكتاب لعل فيها ما يلفت نظر القارئ الحصيف والباحث المهتم ليتعمق في موضوعاته والإفادة من القضايا التي طرحها المؤلف.