|
عرار:
د. ريمان عاشور الحقُّ! أنني قاومتُ قلمي كثيرًا قبل أن يستفزني النص أخيرًا لأقف أمام هذه القصيدة وقفة نقدية مستنطقة ومستجلية مضامين النص ولغته.. وما أن ولجتُ إليه بعين الناقدة حتى استوقفني أول ما استوقفني الإحالات النصية مذ بدء القصيدة.. ذلك أنَّ الشاعر لجأ إلى الإحالة الضميرية منذ بداية القصيد... ونحن عادة نلجأ إلى الإحالات اللغوية حين يضيق فضاء»الأنا» البائن في ضمير المتكلم «أنا» عن مساحات مبتغانا ومردانا.. لذلك نسرع لاهثين نحو مفردات تقوى على استيعاب المعاني التي نسعى لإيصالها إلى ذهن المتلقي.. لذلك حضرت «سنبلة الحقول» محمَّلةً بمعنى الخير الوفير والاكتناز بالخطابات المتعددة المفتوحة أمام المتلقي... ومما يؤكد ذلك هو إلحاق السنبلة «بسحابة»... والسحابة حاملة للغيث دون أدنى شكّ، ليتهيأ المتلقي مذ السنبلة والسحابة، لخطابات لاحقة ستنهمر عليه عند استكمال قراءة النص.. سرعان ما ينقلنا الشاعر إلى مشهد آخر أقلّ صخبًا وأكثر هفوتًا، جالبًا معه «اليمامة» بحزنها وشجنها.. فهي كذلك مرتبطة صورتها بأذهاننا كلما وجدت لها ركنًا في النص الأدبي.. لذلك حملت معها خطابًا حزينًا كانت تلك اليمامة قد غادرته منذ البدايات.. تحديدًا مذ زاره «الأرق» ثم شرع يسكنه عند فزعه من الخيانات القادمة.. أيًا كانت الخيانات التي قصدها الشاعر، سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الآخر: الجمعي.. ويتضح ذلك جليًّا في تصاعد وتيرة النص، بعدما قفز الشاعر من فعل»الأرق» إلى فعل «الشك» حتى بلغ أخيرًا «القلق»... نتدرج معه في ارتقاء الحالة النفسية درجة تعلوها درجة... فقد بات الشكُّ يداهم الثوابت: «بياض الثلج..سواد الليل» ولم يصل إلى هذه الحالة الشعورية والنفسية إلا وقد حضر معه ضمير»الأنا» وتراجع ضمير»هو» وجاء ذلك تعزيزًا وتأكيدًا على أن الحالة الشعورية الآن ملتصقة به وابتعلته تمامًا.. ثم أمسى خطابه ناطقًا من داخلها.. ويعود الشاعر بذكاء وحرفية إلى الإحالة اللغوية مرة أخرى، لينتقل الضمير هذه المرة إلى «المخاطب» فيسحبنا معه في دوامته الشعورية مشرِكًا إيانا في الحدث لنصبح في بوتقة خطابه.. ويمسي الهمُّ مشتركًا.. وتطفو «الأنا الجمعية» على سطح النص.. كان ذلك حين خلق حوارًا بين الصمت و»أناه» فأنطق الصمت بخطاب بدا جليًّا للمتلقي أنه مشترك فيه هو أيضًا.. «فيقول لي: قلق يساور قلبك المحتل يا ولدي» القرينة اللغوية التي استحضرها الشاعر في هذا المقام»المحتل» ترحِّلنا مباشرة نحو معنى الوطن.. وإن كان قصد الشاعر امرأة فلا ضير. فالمرأة وطنٌ في النهاية، والوطن مرسوم بامرأة.. سواء كان القصد هذا أو ذاك، فما جاء بعده «اخلع ضبابك وانتشر» ما هو إلا استحضار ثورة عارمة يراها الشاعر مخرجا له فيما بعد يُخرجه من حالة «القلق» التي تطورت عن حالة «الأرق».. كان هذا همَّه الأعظم حين سكن دوامة القلق.. قصيدة «قلق أنا» نصُّ بديع للشاعر عبد الرحيم جداية، وفيما يأتي نص القصيدة: «ستقول سنبلةُ الحقول لأختها: قلق هو وتقول ثمّ سحابةٌ لسحابةٍ مرتْ هنا: قد كان يرتجف الخريف على يديه قلقٌ يساورني عليه حتّى اليمامة غادرتْ أغصانه مذ كان يسكنه الأرقْ فزعٌ يناوش صمته فتخونه تلك الرياح إذا عبرن عباءة الأيام تعبث بالورقْ. قلقٌ يساورني وأشكُّ أنّ الثلج أبيضْ وأشكُّ أنّ الليل أسودْ وأشكُّ في قلقي إذا ناجيتني فالقلب يفرد صمته ويمدّني صمتي بموالٍ أسيرْ وأمدّه كذباً فيقول لي: قلقٌ يساور قلبك المحتلّ يا ولدي اخلع ضبابك وانتشرْ كالصبح في صبح ندي واشرب حلاوة فجرها من كفّها فجبينها بحرٌ وما عرف الغرقْ ما كان يغريني القَلقْ هبط الغبار على أكف العابثين فآثروا جمع الكلام على طريق القافلة والعين ترنو غافلة هل كان يغريني الوصول إلى مفاتن وجهها كي أستريح على بقايا قلبها فالخوف سلطانٌ وقلبي دربها لكنّ بعض مخاوفي غلبتها وأعدتُ جمع المستحيل لأحترقْ». الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 12-05-2020 12:39 صباحا
الزوار: 765 التعليقات: 0
|