... ولم يكن إصرار كامل مهدى على مجابهة المخاطر جديدا عليه، فلقد أصر منذ ثلاثة شهور أن يتمدد تحت عجلات قطار البضائع الذى كان يزلزل منحنى" أبو الجود" الخطر، ساعتها شعر صديقاه بأن روحيهما قد خرجتا من صدريهما، وشفطتهما رياح عجلات القطار التى كانت تلوك القضبان الساخنة، تيقنا أن القطار قدابتلع جسده، وربما شفطت رياحه الصاخبة المصاحبة لاختراقه المهيمن محطة الأقصر جسديهما النحيفين. بعد يومين باح لهما بأنه شعر بحياته الرخيصة جدا، وعندما نجا من براثن القطار قال لهما إن مصائب الحياة تزيد الرغبة للمجازفة بالروح.
لحية أبيه التي كادت تغطى فمه، زحفت حتى أنفه وهو جالس أسفل كوبري الأقصر العلوي ينتظر جثة ابنه الطافية بعد ثلاثة أيام من قفزه. كان يعرف هو وابنه أن إصرارهما على خوض التجارب الجديدة غير مسبوق. فليلة الغرق التي تطوع فيها الكثير من أقاربه للبحث عنه تحت المياه الباردة، أصر أن يغطس بحثا عنه، ولم يذعن لتحذيرات الواقفين على الشاطئ الشرقي للنهروتوسلاتهم .
عندما خرج دون العثور عليه ألقى بنفسه فوق الحشائش، وعيناه تبحثان عنه بين النجوم حتى غرقت فى محيط السماء، وطفت بدلا منها شمس صباح اليوم التالي للغرق.
اتفق كامل مهدي معهما على القفز معا وفى وقت واحد، لكن الآخرين ترددا، وفى نفس الوقت صعد فوق السور الحديدي قبل أن يتخذ أحدهما قراره، ولامس بصدره الرياح الباردة التي بثتها مياه النهر لأعلى. ربما تردد فى القفز فى تلك اللحظة ، وربما ساوره خوف مباغت، لكن المؤكد أن فولاذ إصراره الكامن فى صدره، قد أذابه لهيب الخوف الذي اشتعل بداخله فجأة، التردد لن يعيد جسده الذي تهاوى من الأعلى، والثانية التي تفصل ما بين الإصرار على القرار الذي استقر فى وجدانه، وبين التردد الذي لاح فى مخيلته توا، قد أثَّر بشكل مباشر وغير مباشر فى اتزانه وصموده وهو يفرد جسده منتشيا. تمدد بداخله الإحساس الذي استقر فى وجدانه بأن تلك المسافة طويلة جدا، مما يحدو به العثور على مفر أو مهرب من الارتطام بصفحة النهر الرهيبة.
الثقة التي كان يضعها فى صديقيه اللذين يمطان رأسيهما والفزع يغطيهما من شمس القيالة، وهما يرقبان سقوطه من الأعلى، كانت كبيرة، وكان يعرف تماما أنهما يحاولان الآن الوصول إلى رجال الإنقاذ، والوصول إلى موقع القفز فى اللاوقت حتى ينقذوه. لكنه استبعد تلك الفكرة، وفكر فى سبيل آخر للوصول إلى أحشاء النهر سالما، بأن يضبط مراحل تهاويه للأسفل، و يحاول أن يتزن على الأقل فى الثلث الأخير من مراحل السقوط. كان يعرف منذ لحظة وقوفه فوق السور الحديدي للكوبري أنه بمجرد أن يقفز سيتبعثر جسده فى الهواء، وسيتقلب كثيرا مما يجعل صموده قشه تكافح طبقات هوائية عاتية وعرضه للانبطاح فوق ماء غدار. وهذا ما حدث بالضبط، ففي المرحلة الأولى لسقوطه كان تقلبه فى الهواء تنكيلا بجسد أعزل ينتظر مصيرا مجهولا.
في المرحلة الثانية بدأ يفكر بضبط شكل سقوطه الذي تغير تماما من كونه قفز إرادى، إلى سقوط انتحاري. لم يفكر من قبل معالجة الأمور المستفحلة فى حينها، أو الخروج من مأزق ما، مثلما ضبطه أبوه وهو يقبل بنت الجيران فى الهواء، ساعتها وقف كالصنم، وتلقى منه توبيخا، جعله يتمنى انفراجا تحت قدميه كي ينزلق في طبقات الأرض السفلية دون عودة. عندئذ شعر بالخزي وابتلت ملابسه عرقا. أما عن مسألة السقوط من أعلى كوبري ضخم كهذا فالأمر مختلف، وحتما عليه أن يجد حلا لجسده المتهاوي سريعا، وهو يعرف تماما أن العمق الذي يقع أسفل الكوبري ضاربُ في الأرض السابعة، حتى تستطيع الفنادق العائمة أن تعبر أسفله بيسر.
التركيز الذي استحضره في جسده كله كان كفيلا بأن ينقذه من غرق محقق، لأنه راح يُعدّل من وضع جسده السابح فى الهواء.بدأ بيديه، جذبهما نحو جسده، ولاقى صعوبة لم يجدها فى مسائل الرياضيات التي كان يقف أمامها عاجزا. اليد اليسري كانت أصعب فى الاستجابة لمحاولات التركيز التي استخرجها عنوة من مجاهل عقله، لأنها كانت ثانوية بالنسبة لاستخدامها، أما اليداليمنى فكانت أول من يجيب معادلة القفز المستقيم التي استحضرها في الثلث الثاني لسقوطه المروع من أعلى الكوبري.
عيناه اللتان أُغمضتا من هول السقوط بدأ فى إرسال أوامر إعادة فتحهما من مقر تركيزه، ساقاه اللتان تطايرتا وبدت كل منهما كأنها مصابة بالشلل، ولم تقف يوما فوق الأرض، بذل جهدا كبيرا فى جذبهما نحو الجسدالساقط حتى ينزل مستقيما فوق النهر.
أدرك تماما أنه فى الثلث الأخير من مراحل سقوطه، وتيقن أن المحاولات الخارجية - التي كانت لابد أن تتم في نفس الوقت - لم تحدث، وأن الواقفين فوق الكوبري وهم يشاهدون حدث السقوط من الأعلى سيعجزون عن إنقاذه، لأنهم يبعدون عنه ثلثي المسافة، والنهر أقرب إليه منهم. الواقفون عند الشاطئ كانوا حديثي المشاهدة والترقب، فلم يتجمعوا إلا فى الثلث الثاني من السقوط، أما المرحلةالأولى فكانوا يتابعونها ركضا من بعيد.
المركب الشراعية التي كانت تبعد خمسين مترا- والتي رآها قبل أن يقفز- كانت أمله الوحيد فى النجاة، ذلك الحل الاحتياطي الذي وضعه في مؤخرة احتمالات الإنقاذ التي رسمها لنفسه. كان يأمل بأن تلك المركب ستكون قريبه جدا منه، وسيقفز البحارة الذين يعملون على متنها فور اختراقه صفحة الماء،وانتشاله قبل أن يشرب ماء النهر كله. ربما حسب مسافة اقترابها مع مسافة سقوطه، وتيقن أن الثلث الأخير سيتزامن مع مرور المركب فى دائرة السقوط. وضع احتمالا ضعيفا جدا، وهو سقوطه قبل أن تقترب المركب، لكنه فند هذا الاحتمال، وابتسم في داخله منيرا ظلام المجهول الكامن فى أعماقه بأن البحارة المتواجدين على متن المركب ليسوا حديثي عهد بالسباحة، فإذا غطس أحدهم فيأتيك بحجارة تكتسي بسواد الطين الراكد فى الأعماق.
ابتعاد سور الكوبري ورؤوس الواقفين أعلاه كان أمرا مربكا له، فلم يظن يوما أن القفز من أعلى الكوبري سيكون بتلك السرعة، ولم يتسن له ملاحظة تلك المشاهدة إلا عندما كانت ساقاه تعلوان رأسه، وعندما تقلب وجاء رأسه مكان ساقيه، لاحظ اقتراب الماء الشديد منه، وعرف أن تلك المسافة هي الفاصلة في حياته، وأن روحه ترفرف عليه منذ أن وقف فوق السور، وإلا ما كانت تلك المسافة تكون بذلك القصر الشديد، أم أن مسألة موته باتت مؤكدة، فتسارع سقوطه وقَصُرتْ مسافة القفز؟
الارتطام الشديد بصفحة النهر لم يشهد له الواقفون على الشاطئ مثيلا، تناثرت المياه من جراء السقوط فى المنتصف، حتى بللت مياه النهر الراكدة على الجانبين، فتحت دائرة السقوط تجويفا هائلا، أحدث جلبة شديدة زعزعت كيان النهر، وهتكت سكونه. لم يدرك لحظتها أن الارتطام الشديد مُوجع هكذا، وأن عظامه أًُصيبت بترقق شديد، وشعر بأن ساقيه قد نُزِعتا من جسده، وكذلك يداه اللتان عجزتا عن مقاومة المياه المكدسة بسبب انفلات عظامهما من مفصليي كتفيه.
أدرك الآن بعد أن ابتلع الماء وطفر من أعماق معدته، وعجزت ساقاه عن دفع الماء للصعود للأعلى، واستسلمت يداه للغوص فى الأعماق،أن المسافة التي قطعها سقوطا من أعلى الكوبري حتى تكسرت عظامه فوق صفحة الماء المتماسكة، بعيده جدا، وأدرك وهو يلفظ النفس الأخير، أن لهاثه أثناء السقوط، كان عذابا لم يذق مثله من قبل، وأن لحظات الاختناق والزفرات التي كان يعانى منها منذ الثانية الأولى للقفز، كانت كفيلة بأن يفارق الحياة قبل الوصول للماء. استقر في وجدانه الذي ينازع الموت بأن فشله فى التوازن هو الخروج الأول للروح من جسده بشكل جزئي، واستغرق مسافة طويلة جدا حتى لامس جسده طين الأعماق، فتأكد الواقفون فوق الكوبري وعلى الشاطئ الأيمن للنهر بعد ساعتين من قفزه فى الماء بأنه عانى من خروج الروح المبكر قبل أن يلمس جثمانه الماءالبارد.
بقلم : عبدالسلام إبراهيم